دين ودنيا

تأملات قرآنية مع شيخ الإسلام ابن تيمية (14)

الدكتور حسين القحطاني

عرض مقالات الكاتب

(ظهور المنكر على صفحات وجه الكافر وفلتات لسان المنافق) • قال الله تبارك وتعالى : (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر • يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا • قل أفأنبئكم بشرّ من ذلكم • النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير) . “الحج” إذا قرأ المؤمن آيات الله على الكافر ووعظه بها ، ظهرت على صفحات وجهه الكراهية والبغضاء للحق لما جاءه . وهذه الكراهية والبغضاء تدل على الحقد الدفين والبغض اللعين ، فيقطب حاجبيه ويعبس خديه ويقضم شفتيه ، كرها وحقدا وبغضا ، ويود لو يفتك بمن وعظه وذكره بآيات الله ، وينال منه أشد النيل ، ويود أيضا لو يتمكن من المؤمن فيقتله أو يعذبه أو يؤذيه . قل لهذا الكافر البغيض ولغيره ممن أظهر الشرّ ، أفأخبركم بما هو أشدّ وأعظم كراهة من سماع الحق ، ومما تخوّفون به المؤمنين ، نار جهنم موعدكم فيها ، وهي تتلظى وتنزع جلدة وجوهكم بشدة جزاء وفاقا ، وبئس مقامكم هذا الذي تصيرون إليه ، إن نار جهنم ساءت مستقرا ومقاما . وأما المنافق فقال عنه تبارك وتعالى لنبيه : (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم • ولتعرفنهم في لحن القول • والله يعلم أعمالكم) .”محمد” ولو يشاء ربك لأراك ملامح هذا المنافق وصفته ، ولكن هناك علامة بيّنة وإشارة مفهومة في فلتات لسانه من همز ولمز وطعن ، وهذه الفلتات تدل دلالة واضحة على أن ما تخفيه صدورهم أكبر مما بدته أفواههم من البغضاء . والاعتقادات التي يضمرها العدو ، سواء كان داخليا أو خارجيا ، لا بد أن تظهر في الوجه واللسان ، وقد تختفي في حال قوة الإسلام وتظهر عند ضعفه ، والله مع المؤمنين في كل حال ، ينصرهم ويدافع عنهم ، وينتقم من الكافر والمنافق ، وهو لا تخفى عليه أعمال الكافرين والمنافقين ، وسيجازي كلا بما يستحق في الدنيا والآخرة . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : “قال الله تعالى في صفة المنافقين : (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم) ، فجعل للمنافقين سيما . وقال : (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر) ، فهذه السيما وهذا المنكر قد يوجد في وجه من صورته المخلوقة وضيئة ، كما يوجد مثل ذلك في الرجال والنساء والولدان ، لكن بالنفاق قبح وجهه ، فلم يكن فيه الجمال الذي يحبه الله ، وأساس ذلك النفاق والكذب … والله قد أخبر في القرآن أن ذلك قد يظهر في الوجه ، فقال : (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم) ، فهذا تحت المشيئة ، ثم قال : (ولتعرفنهم في لحن القول) ، فهذا مقسم عليه محقق لا شرط فيه . وذلك أن ظهور ما في قلب الإنسان على لسانه أعظم من ظهوره في وجهه ، لكنه يبدو في الوجه بدوا خفيّا يعلمه الله ، فإذا صار خلقا ظهر لكثير من الناس ، وقد يقوى السواد والقسمة حتى يظهر لجمهور الناس ، وربما مسخ قردا أو خنزيرا ، كما في الأمم قبلنا ، وكما في هذه الأمة أيضا ، وهذا كالصوت المطرب إذا كان مشتملا على كذب وفجور ، فإنه موصوف بالقبح والسوء الغالب على ما فيه من حلاوة الصوت . فذو الصورة الحسنة إما أن يترجح عنده العفة والخلق الحسن ، وإما أن يترجح فيه ضد ذلك ، وإما أن يتكافآ . فإن ترجح فيه الصلاح كان جماله بحسب ذلك ، وكان أجمل ممن لم يمتحن تلك المحنة . وإن ترجح فيه الفساد لم يكن جميلا بل قبيحا مذموما ، فلا يدخل في قوله : إن الله جميل يحب الجمال . وإن تكافأ فيه الأمران كما فيه من الجمال والقبح بحسب ذلك ، فلا يكون محبوبا ولا مبغضا . والنبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر هذه الكلمة للفرق بين الكبر الذي يبغضه الله ، والجمال الذي يحبه الله ، فقال : “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، فقال رجل : يا رسول الله : الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا ، أفمن الكبر ذلك ؟ فقال : لا ، إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط الناس” . “رواه مسلم في صحيحه” فأخبر أن تحسين الثوب قد يكون من الجمال الذي يحبه الله ، كما قال تعالى : (خذوا زينتكم عند كل مسجد) “الأعراف” ، فلا يكون حينئذ من الكبر . وقد يردّ أنه ليس كل ثوب جميل وكل نعل جميل فإن الله يحبه ، فإن الله يبغض لباس الحرير ويبغض الإسراف والخيلاء في اللباس ، وإن كان فيه جمال ، فإذا كان هذا في الثياب ، الذي هو سبب هذا القول ، فكيف في غيره . وتفسير هذا قوله -صلى الله عليه وسلم- : “إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم” . “رواه مسلم في صحيحه” فعلم أن مجرد الجمال الظاهر في الصور والثياب لا ينظر الله إليه ، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال ، فإن كان الظاهر مزيّنا مجمّلا بحال الباطن أحبه الله ، وإن كان مقبّحا مدنّسا بقبح الباطن أبغضه الله ، فإنه سبحانه يحب الحسن الجميل ، ويبغض السيء الفاحش … وهذا الحسن والجمال الذي يكون عن الأعمال الصالحة في القلب يسري إلى الوجه ، والقبح والشين الذي يكون عن الأعمال الفاسدة في القلب يسري إلى الوجه . ثم إن ذلك يقوى بقوة الأعمال الصالحة والأعمال الفاسدة ، فكلما كثر البر والتقوى قوي الحسن والجمال ، وكلما قوي الإثم والعدوان قوي القبح والشين ، حتى ينسخ ذلك ما كان للصورة من حسن وقبح . فكم ممن لم تكن صورته حسنة ، ولكن من الأعمال الصالحة ما عظم به جماله وبهاؤه ، حتى ظهر ذلك على صورته . ولهذا يظهر ذلك ظهورا بيّنا عند الإصرار على القبائح في آخر العمر عند قرب الموت ، فنرى وجوه أهل السنة والطاعة كلما كبروا ازّداد حسنها وبهاؤها ، حتى يكون أحدهم في كبره أحسن وأجمل منه في صغره ، ونجد وجوه أهل البدعة والمعصية كلما كبروا عظم قبحها وشينها ، حتى لا يستطيع النظر إليها من كان منبهرا بها في حال الصغر لجمال صورتها … وليس سبب ذلك أمرا يعود إلى طبيعة الجسم ، بل العادة المستقيمة تناسب الأمر في ذلك ، بل سببه ما يغلب على أحدهم من الفاحشة والظلم ، فيكون مخنّثا ولوطيّا وظالما وعونا للظلمة ، فيكسوه ذلك قبح الوجه وشينه . ومن هذا أن الذين قوي فيهم العدوان مسخهم الله قردة وخنازير من الأمم المتقدمة . وقد ثبت في الصحيح “البخاري” أنه سيكون في هذه الأمة أيضا من يمسخ قردة وخنازير ، فإن العقوبات والمثوبات من جنس السيئات والحسنات” . (الاستقامة)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى