مقالات

تأميم القناة هل كان طُعماً؟

ياسر الحسيني

كاتب وإعلامي سوري
عرض مقالات الكاتب

في ميدان المنشية بالإسكندرية وقف الرئيس (جمال عبد الناصر) على المنصة ليخطب في الجماهير المصرية بمناسبة الذكرى الرابعة لثورته التي أطاحت بالملكية في 23 / يوليو ـ تموز عام 1952 ، وليعلن قرار تأميم قناة السويس:

” بسم الأمة .. رئيس الجمهورية.. مادة (1) .. تؤمّم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية ـ تصفيق طويل ـ شركة مساهمة مصرية وينتقل إلى الدولة جميع ما لها من أموال وحقوق وما عليها من إلتزامات ، وتحلّ جميع الهيئات واللجان القائمة حالياً على إدارتها”.

حدث ذلك في السادس والعشرين من يوليوـ تموز 1956 ، وقد تم تبرير ذلك القرار على أنّه الرد المناسب لعدم موافقة البنك الدولي على تمويل ( السدّ العالي) ، بعيد لقاء عبد الناصر بمدير البنك آنذاك ( روجيه بلاك) الذي أبلغه قرار الدول المؤسسة للبنك، ومن ضمنها بريطانيا وفرنسا الشريكتين في القناة، إذ كان مشروع السدّ لا يقل أهمية بالنسبة لمصر عن أهمية القناة بالنسبة للعالم الغربي .

ولمحاولة معرفة صوابية قرار التأميم من عدمه لابدّ من ربطه بالسياق التاريخي لتلك الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية ، حيث كانت تخوض فيها الدول الإستعمارية حرباً دبلوماسية مع الدول المطالبة بالإستقلال ، ومن أهمها تلك المفاوضات التي كانت تدور بين بريطانيا والهند التي أفضت في النهاية إلى إعلان إستقلال الهند وجلاء المستعمر البريطاني عن أراضيها بتاريخ 15 /اغسطس ـ آب 1947 .

ويرى البروفيسور ( فيليب زيليكو ) أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة فيرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية ، أنّ بريطانيا قد تراجع اهتمامها بالممر المائي “قناة السويس” بعد أن قررت منح الهند استقلالها ، إذ لم يعد يعني لها كثيراً كما كان في السابق حيث كان بمثابة الشريان الذي يغذّيها من مستعمرتها الكبرى ” القارة الهندية”.

ويبدو أن بريطانيا كانت ترسم خارطة جديدة في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية ، إذ أنها بعد تخليها عن الهند قامت بإنهاء إنتدابها في فلسطين في 14 / مايو ـ أيار 1948 ، ليعلن ( ديفيد بن غوريون) في اليوم نفسه قيام دولة إسرائيل.

ثم قامت بتوقيع اتفاقية مع الجانب المصري في 19 / اكتوبرـ تشرين الأول 1954 بسحب قواتها المتواجدة على طرفي القناة والذي استمر حتى جلاء آخر دفعة من القوات البريطانية في 13/ يونيوـ حزيران 1956 أي قبل ستة أسابيع فقط من خطاب الرئيس جمال عبد الناصر الذي أعلن فيه قرار التأميم. وهذا مايؤكد ما ذهب إليه البروفيسور(زيليكو) بأن بريطانيا قد تخلّت عن ذلك الممر المائي تمهيداً لأحداث ستمرّ بها المنطقة على الصعيد الجيوسياسي سيكون أبرزها الصراع العربي ـ الإسرائيلي، الذي بدأ بحرب 1948  .

فجاء العدوان الثلاثي بعد قرار التأميم بثلاثة أشهر في 29 / اكتوبرـ تشرين الأول 1956 حين قامت كلّ من بريطانيا وفرنسا وبمشاركة القوات الإسرائيلية بمهاجمة الحدود المصرية تنفيذاً لبروتوكول “سيفر” الذي تم بين الدول الثلاث قبل العدوان بخمسة أيام. واستطاعت القوات الإسرائيلية التوغل في سيناء واحتلال أجزاء كبيرة منها ولم تنسحب منها لغاية 1957 حيث حلّت محلّها قوات دولية للفصل بينهما .

لقد كانت نتيجة عملية التأميم كارثية من الناحية الاقتصادية ـ بحسب رأي العديد من المحللين الإقتصاديين ـ وبعكس ما تم الترويج له، وهذا يمكن مناقشته بالأرقام في مقال آخر، بالإضافة إلى الخسارة الناجمة عن العدوان الثلاثي الذي أدى إلى تدمير العديد من المدن المصرية القريبة من القناة وخاصة بور سعيد والاسماعيلية والعريش ، أما من الناحية السياسية فلقد كانت الخسارة أكبر، إذ كانت تمثل بداية التحول إلى المعسكر الإشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي الذي كان أول من اعترف بدولة إسرائيل حتى قبل الولايات المتحدة الأمريكية، ومع ذلك صار خطاب ( معاداة أمريكا) هو العملة الرائجة في تلك الفترة على الرغم من موقفها حيال العدوان الثلاثي وهي من وجهت إنذاراً شديد اللهجة بضرورة وقف إطلاق النار الذي دعت إليه الأمم المتحدة ولم يتم الإستجابة حينها لولا ضغوط أمريكا. إلّا أن الإعلام العربي الذي كانت تقوده مصر( عبد الناصر) يومها استطاع أن يستقطب الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج وراء القائد الذي خرج منتصراً في حربه مع الدول الثلاث، ولكن هل كان ذلك الانتصار مقدمة لنهضة الأمة بعد أن امتلكت “قرارها” أم العكس؟

كلّ النكبات التي ألمّت بنا منذ ذلك الحين تفرض علينا إعادة قراءة التاريخ من زاوية أخرى من أجل الإضاءة على الجوانب التي ظلّت مغفلة ردحاً طويلاً من الزمن، وهناك من عمل جاهداً على التعتيم عليها ليبقى العقل العربي حبيس قوالب فكرية وقناعات لايسمح لأحد أن يمسّها وشخوص لازالت تجد من يدافع عنها باستماتة، ويرفض حتى مجرد فكرة الانتقاد لدرجة تجعل من تلك الشخوص أقرب إلى الأنبياء المعصومين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى