دين ودنيا

تأملات قرآنية مع شيخ الإسلام ابن تيمية (13)

الدكتور حسين القحطاني

عرض مقالات الكاتب

{أعظم أعياد الأمة الحنيفية} قال الله تبارك وتعالى : (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين) .”الحج” ورد عن ترجمان القرآن وحبر الأمة وبحرها عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير هذه الآية ، (ولكل أمة جعلنا منسكا) ، قال : “عيدا” . فأخبر سبحانه أنه جعل لكل أمة مسلمة حنيفية عبر كل زمن منسكا ، أي : عيدا يتقرب فيه إليه بأعمال البر والطاعة ، ومنها على وجه الخصوص الهدي والأضحية ،ليذكروا اسم الله على ما رزقهم منها الخير الكثير والنفع العميم ، ولأن ذبح هذه الأنعام من الإبل والبقر والغنم باسم الله تعالى ، تشريع شرعه الله لكل أمة مسلمة حنيفية قديما وحديثا ، والحكمة في جعل الله لكل أمة عيدا ، لإقامة ذكره ، وأداء شكره ، وإن اختلفت أجناس الشرائع ، فكلها متفقة على أصل التوحيد ، ونبذ الشرك ، ولهذا قال : (فله أسلموا) ، أي : انقادوا واستسلموا له لا لغيره ، وبشر المخبت الخاضع لربه ، المستسلم لأمره ، بالخير في الدنيا والآخرة . وقال تعالى أيضا : (لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم) .”الحج” ودلت هذه الآية أيضا على أن الله تعالى جعل لكل أمة من الأمم الحنيفية عيدا ، هم يتقربون فيه إلى الله بأنواع العبادات المشروعة لهم ، وبحسب منهجهم الذي رسمه لهم ، لا ما ابتدعه المبتدعون من أهل الشرك والضلال ، سواء كانوا يهودا أو نصارى أو غيرهم ، فلا اعتراض على شريعة من الشرائع الحنيفية ، وترك الاعتراض على الشرائع المحمودة ، أمر يجب أن لا ينازع فيه أحد ، ولهذا قال : (فلا ينازعنك في الأمر) ، وادع إلى الله وحده ، واستمر على ذلك ، سواء اعترض المعترضون أو جادل المجادلون ، واعلم إنك لعلى دين معتدل موصل إلى الحق وإلى جنات النعيم . وكل عيد يقوم على مخالفة الشرائع الحنيفية ، أو على عدم الإخلاص لله تعالى فيه ، فهو عيد شرك أو ضلالة أو بدعة ، يجب الحذر منه وعدم قبوله ، لأن الله قد أبدلنا بخير منه ، عيد الفطر المبارك وعيد الأضحى المعظم ، (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون) “القصص” . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : “الأعياد والمواسم في الجملة لها منفعة عظيمة في دين الخلق ودنياهم ، كانتفاعهم بالصلاة والزكاة والصيام والحج ، ولهذا بها جاءت كل شريعة . كما قال تعالى : (لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه) ، وقال : (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) . ثم إن الله شرع على لسان خاتم النبيين من الأعمال ما فيه صلاح الخلق على أتم الوجوه ، وهو الكمال المذكور في قوله تعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم) “المائدة” ، ولهذا أنزل الله هذه الآية في أعظم أعياد الأمة الحنيفية ، فإنه لا عيد في النوع أعظم من العيد الذي يجتمع فيه المكان والزمان ، وهو عيد النحر ، ولا عين من أعيان هذا النوع أعظم من يوم كان قد أقامه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بعامة المسلمين ، وقد نفى الله تعالى الكفر وأهله ، والشرائع هي غذاء القلوب وقوتها … ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في العيدين الجاهليين : “إن الله قد أبدلكم بهما يومين خيرا منهما” رواه أبو داود وغيره … إذا تبين هذا فلا يخفى ما جعل الله في القلوب من التشوق إلى العيد والسرور به ، والاهتمام بأمره إنفاقا واجتماعا وراحة ولذة وسرورا . وكل ذلك يوجب تعظيمه لتعلق الأغراض به ، فلهذا جاءت الشريعة في العيد بإعلان ذكر الله فيه ، حتى جعل فيه من التكبير في صلاته وخطبته وغير ذلك مما ليس في سائر الصلوات ، فأقامت فيه من تعظيم الله وتنزيل الرحمة خصوصا العيد الأكبر ما فيه صلاح الخلق … فصار ما وسع على النفوس فيه من العادات الطبيعية عونا على انتفاعها بما خص به من العبادات الشرعية ، فإذا أعطيت النفوس في غير ذلك اليوم حظها أو بعض الذي يكون في عيد الله ، فترت عن الرغبة في عيد الله ، وزال ما كان له عندها من المحبة والتعظيم ، فنقص بسبب ذلك تأثير العمل الصالح فيه ، فخسرت خسرانا مبينا . وأقل الدرجات أنك لو فرضت رجلين أحدهما : قد اجتمع اهتمامه بأمر العيد على المشروع ، والآخر : مهتم بهذا وبهذا ، فإنك بالضرورة تجد المتجرد للمشروع أعظم اهتماما به من المشرك بينه وبين غيره ، ومن لم يدرك هذا فلغفلته أو إعراضه وهذا أمر يعلمه من يعرف بعض أسرار الشرائع . وأما الإحساس بفتور الرغبة فيجده كل أحد ، فإنا نجد الرجل إذا كسا أولاده ، أو وسع عليهم في بعض الأعياد المسخوطة ، فلا بد أن تنقص حرمة العيد المرضي من قلوبهم ، حتى لو قيل : بل في القلوب ما يسع هذين ، قيل : لو تجردت لأحدهما لكان أكمل . وأن مشابهتهم في بعض أعيادهم توجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل ، خصوصا إذا كانوا مقهورين تحت ذل الجزية والصغار ، فإنهم يرون المسلمين قد صاروا فرعا لهم في خصائص دينهم ، فإن ذلك يوجب قوة قلوبهم وانشراح صدورهم ، وربما أطمعهم ذلك في انتهاز الفرص واستذلال الضعفاء ، وهذا أيضا أمر محسوس لا يستريب فيه عاقل فكيف يجتمع ما يقتضي إكرامهم بلا موجب ، مع شرع الصغار في حقهم ؟ … فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي . وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفرا من غيرهم ، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيمانا من غيرهم ممن جرد الإسلام . والمشاركة في الهدي الظاهر توجب أيضا مناسبة وائتلافا ، وإن بعد المكان والزمان ، فهذا أيضا أمر محسوس . فمشابهتهم في أعيادهم ولو بالقليل ، هو سبب لنوع ما من اكتساب أخلاقهم التي هي ملعونة ، وما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط على الحكم به ، ودار التحريم عليه” . (اقتضاء الصراط المستقيم)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى