مقالات

“الاردوغانية”.. مصطفى كمال أتاتورك وأزمة الهوية 2 من 13

جمال سلطان

كاتب وصحفي مصري
عرض مقالات الكاتب

تركيا الحديثة ليست مجرد دولة حديثة التكوين الاجتماعي والتاريخي ، بل هي وريثة امبراطورية تاريخية ضخمة كانت إلى وقت قريب ، أوائل القرن العشرين ، تحكم مباشرة أو بالولاء السياسي أو الديني غير المباشر ، مساحات هائلة من القارات الثلاث ، آسيا وأفريقيا وأوربا ، وحضورها الإنساني والحضاري وبصمتها حاضرة في محيط جغرافي يمتد من بلاد القوقاز في وسط آسيا إلى الأناضول إلى عمق أوربا حتى المجر والبلقان إلى مصر وشمال أفريقيا إلى الجزيرة العربية إلى الشام والعراق ، وأغلب تلك المناطق كانت لها فيها جيوش تقاتل وتحمي ثغور دولة “الخلافة” على رغم الضعف الذي وصلت إليه الدولة في نهاياتها .
في أعقاب الحرب العالمية الأولى ، وضمن حزمة من التغيرات التي طرأت على العالم ، تولى القائد العسكري التركي مصطفى كمال السلطة ، بعد أن حقق نجاحات عسكرية استثنائية في الوقت الذي انهارت فيه السلطة أمام الغزو الخارجي حتى احتلت “اسطنبول” ، وبموجب إنجازاته العسكرية قرر إزاحة السلطان الذي كان سلطانه السياسي أصبح ظلا لا واقع حقيقيا له ، فأعلن مصطفى كمال إلغاء نظام الخلافة ، ولم تكن خطوة الزعيم العسكري الجديد متوقفة على البعد السياسي فقط ، بل كانت له رؤية ـ مع مجموعة من الضباط المتأثرين بالتجربة الغربية والذين درسوا في مدارس فرنسية ـ أن سبب تخلف تركيا هو ارتباطها بالشرق وليس بالغرب ، وبالتالي فإن نهضتها لن تكون إلا بالسير على خطى الغرب في كل شيء ، بلا استثناء ، وبالتالي رأى القائد الذي يقف على “حطام أمة” ، والذي لم يبق له من الامبراطورية الضخمة سوى “الأناضول” بعد المعاهدات المذلة التي جرت في أعقاب خسارة الحرب العالمية الأولى ، تشكل في وجدانه وعقله أن نجاحه لن يتحقق إلا بقطع كل صلة لتركيا تصلها بالشرق ، لغة ودينا وفنا وأدبا وسياسة ، فألغى استعمال الحرف العربي واستخدم بدلا منه الحرف اللاتيني ، ومنع حتى الآذان باللغة العربية وجعله باللغة التركية الجديدة ، ومنع مظاهر التدين الإسلامي بما فيها الحجاب للمرأة والطربوش للرجل ، واستبدله بالقبعة ، وفرض العلمانية القهرية كنظام للحكم يفصل الدين عن الدولة والمجتمع ، واستخدمها للتضييق ومنع أي اختيارات ثقافية أو فكرية أو سلوكية تتعارض مع ما يؤمن به ويعمل على فرضه ، وباختصار أحدث قطيعة معرفية وحضارية شاملة مع ميراث تركيا الإنساني الذي تشكل عبر أكثر من ألف عام ، وتعامل بصرامة بالغة مع أي محاولة للتمرد على قراراته ، فقتل كثيرا من العلماء وسحق حركات تمرد ، وسالت دماء كثيرة ، وشمل هذا الجميع ، بما في ذلك العلويين والأكراد الذين تعامل معهم بصرامة مماثلة ، والمؤرخون الأتراك يرون أن هذه القرارات لم تكن لمصطفى كمال نفسه ، وإنما هي سلوك وسياسة الرجل الثاني في التجربة ووريثه والرئيس الثاني للجمهورية : عصمت إينونو .
أسس مصطفى كمال حزب الشعب الجمهوري ، والذي حكم من خلاله تركيا ، واعتبر ـ حتى اليوم ـ حاميا للعلمانية والنظام الجديد ، غير أن تأسيس “الدولة” في تركيا كان على أكتاف الجيش وبقرار الجيش والجنرالات وعلى رأسهم الجنرال مصطفى كمال ، وبالتالي ظل للجيش هيبة وسطوة وقداسة أتاحت له أن يكون مهيمنا على الحياة السياسية في مختلف أدوارها ، فهو الأب الروحي لتركيا الحديثة ، وهو الحامي لنظامها العلماني ، ووضعت نصوص في الدستور نفسه ترسخ هذه العقيدة ، وهي النصوص التي سمحت للجيش بأن يقوم بعدد من الانقلابات على الحكومات المنتخبة بدعوى أنها تنحرف عن العلمانية أو أنها تعود بتركيا إلى الرجعية الدينية ، وأن مسئولية الجيش هي التدخل لحماية النظام العلماني ، وقام الجيش منذ 1960 وحتى 2016 بحوالي أربعة انقلابات عسكرية ، نجحت جميعها باستثناء الانقلاب الأخير الذي تم ضد “ارودعان” وحكومة حزب العدالة والتنمية الذي يرأسه ، والذي نجح في أن يضع حدا لهذا المسلسل الذي عصف بالحياة السياسية المدنية في تركيا على مدار أكثر من نصف قرن .
نجح مصطفى كمال في أن يحدث تغييرا غير قليل في الأجيال الجديدة ، جعلها وجدانيا وثقافيا وسلوكيا أقرب إلى النمط الغربي ، غير أن تركيا ظلت على حال تعثرها الاقتصادي والتنموي والحضاري أيضا ، ولم تنجح تجربة مصطفى كمال في تحقيق نهضة كبيرة ، بل تحولت تركيا من وارثة الامبراطورية إلى جيب صغير في خاصرة أوربا ، لا هو مقبول بالكامل هناك ولا هو موصول بحاضنته التاريخية في المشرق ، وكان من الواضح أن سبب هذا الفشل الاقتصادي والتنموي والحضاري هو تمزق نسيج المجتمع نفسه ، بين ميراث سبعمائة عام متغلغل في كل تفاصيل حياته ويستحيل تجاوزه بمثل هذا الحسم خلال سنوات ، وبين نزعة طاغية لتقليد الغرب واستلهام تجربته في التحديث بخيرها وشرها وحلوها ومرها ، رغم اختلاف الجذور ، باختصار ، فشل مصطفى كمال في أن يوجد التوليفة السحرية للمزج بين التاريخ والحاضر ، بين الأصالة والمعاصرة ، فعانت تركيا من أزمة هوية ، تشتت فيها الإنسان ، وفقد قدرته على اليقين ، كما فقد حماسه للإبداع والتميز .
وعلى الرغم من أن من جاؤوا بعد مصطفى كمال ، مثل “عصمت إينونو” كانوا أكثر شراسة منه في الدفاع عن العلمانية الجديدة ، ومحاولة فرض معالمها بصرامة أشد على المجتمع إلا أنهم فشلوا في علاج شرخ “الهوية” في جذر المجتمع ، الأمر الذي أدخل البلاد في دوامات من الصراع الاجتماعي والسياسي والديني استمرت أكثر من نصف قرن بعد مرحلة مصطفى كمال ، وشهدت أربعة انقلابات عسكرية أرادت قطع الطريق على أي محاولة لعلاج شرخ الهوية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى