مقالات

العراق… الجرح العميق

محمد الفضلي

كاتب وأديب سوري
عرض مقالات الكاتب

اليوم السبت 2003/1/18
أنهيت عملي في القصر العدلي باكراً
كان الطريق إلى كراج السرفيس يمر من الحلبوني إلى جامعة دمشق، فكلية الحقوق إلى سانا، فالكراج
أمام كلية الحقوق… تجمع عديد كبير من اﻻشخاص للخروج بتظاهرة ضد الحرب على العراق، وكعادة مشاعرنا الجياشة القاتلة… اندفعت بكل كياني مع هذه الجموع الغاضبة، وهم طلاب جامعات في غالبيتهم

قطعنا جسر المغضوب الرئيس، وكانت قوات الأمن المركزي، وحفظ النظام قبالتنا (كنا نؤمن بتدخل اﻻمن بيننا) إﻻ أن الحشود استمرت بالزحف نحو شارع أبي رمانة، وصوﻻُ إلى السفارة الامريكية
واجهتنا القوات المحتشدة بالغازات المسيلة للدموع، ورمي الحجارة… أصابت إحداها رأسي برضوض كبيرة، إﻻ أن السعادة التي كانت تغمرني ﻻتصفها تعابير البشرية، وﻻ حروفها.
كان مقدراً لهذه التظاهرة، وكما هو مقرراً لها أن تنتهي بتسليم رسالة احتجاج.. ﻻ تنفع حتى كورقة تواليت_ يمسح بها حارس السفارة ماعنده، إﻻ أن شعبنا الغاضب الذي لم يكن يؤمن بأي شيء نتيجة تعامله مع سلطته السافلة ..استمر في غضبه يهتف بجميع السُباب، ويطلق الشتائم التي تعرفونها، وﻻ تعرفونها، حينها تجرأ احدهم، وتسلق سور السفارة، واندفعت الحشود إلى السفارة، وقاموا بتكسير كل شيء، وأحضر أحدهم العلم الأمريكي، وأُحرِق تحت أقدامنا.
لقد تنفست رائحة الغضب السوري كلها وقتها، وكانت عيون الناس تشع لهذا الانتصار الكبير.
عُدت إلى المنزل، وأنا أبرز الدماء المتناثرة من جرح راسي، وأنا اقول في داخلي:
أيها الشعب العظيم …انظروا إلى علامة اﻻنتصار خاصتي.
قال أحدهم في السرفيس:
يا أبو أحمد هل تم الأمر؟.
ليجيبه أبو أحمد:
ﻻ والله يا رجل.. عوفوني حالي صار لي خمسة شهور خذني جيتك، وإلى الآن ما أتى دوري في المشفى.
آخر يتدخل في الحديث:
اسكت يارجل.. لقد دفعت ما فوقي وما تحتي حتى أرشو القاضي، ليفصل بالدعوى، ولم ينفعني ذلك، صار لها القضية خمس وعشرين سنة.
كدت أحترق من هذه اللامبالاة القاهرة، فصحت بينهم:
ياناس ياعالم.. العراق يذهب من خارطتنا…
أنت تفكر بالمشفى، وأنت بالدعوى، وآخر بربطة الخبز..أمعقول ما أنتم فيه؟!
اتقوا الله ياقوم ..العراق
تفرس في وجهي الجميع…قال أحدهم:
ﻻحول وﻻ قوة الا بالله العلي العظيم.
أحد كبار السن تدخل:
ياعم… الله وكيلك عمري 62 سنة، قضيت أربعين سنة موظف بالدولة، ولم نرَ الخير منذ ثلاثين عاما، وكل سنة من وراء لوراء.
جعلونا نركض وراء رغيف الخبز مثل الكلاب، وليتنا نطاله ..
الله وكيلك كيف نعيش لا أحد يعرف؟!!
ﻻ ..وقطعوا من راتبي من أجل دعم إخواننا بالعراق، وقبلها من أجل فلسطين، والله أنهم يحيون أحسن منا، ولو عرف العراقيون كيف نحن نعيش؟!! لأرسلوا الأموال لنا
ذبحوا العراق من عشر سنين، والآن أتوا ليخرجوا بجنازته.
خليها لربك يابني، وحاجتنا عواطف لا تقدم ولا تؤخر.. كلهم كذابين أوﻻد حرام.
وصلنا إلى المدينة، وأمام باب منزلي …طلبت من السائق التوقف حتى أنزل.
التفت نحو الحاج فقلت له:
تفضل يا حاج.
فأجابني:
الله يسلمك.. سلم على أبوك.
دخلت إلى المنزل، وأنا أخفي جرحي العميق الذي ليس في رأسي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى