مقالات

“الاردوغانية”.. هل تلهم النضال السياسي في العالم العربي؟ 1 من 13

جمال سلطان

كاتب وصحفي مصري
عرض مقالات الكاتب

الاردوغانية هو مصطلح يشير إلى نموذج سياسي ارتبط بشخص له زعامة وكاريزما ونجح من خلالها في وضع بصمة تاريخية لا تمحى في مسيرة وطنه والمنطقة الإقليمية ، بغض النظر عن تقييمنا للتجربة بكاملها ، سلبا أو إيجابيا ، فالتقييم لا ينفي تلك البصمة التي تركتها وشغلت العالم بها ، وقد حدث مثل ذلك مع “الناصرية” في مصر على سبيل المثال ، نظرا للتأثير الكبير الذي أحدثه عبد الناصر في مصر والمنطقة العربية من حوله ، بل وكثير من بلدان العالم الثالث ، بل وحدث مثل ذلك أيضا في تركيا نفسها ، من خلال ما عرف بالأتاتوركية ، نسبة إلى الغازي مصطفى كمال “أتاتورك” ، لأن السياسات التي انتهجها والقرارات التي أصدرها والخطوات التي دفع إليها في تأسيس الدولة التركية الحديثة أحدثت تغيرا حاسما في مسار البلاد كما كان لها تأثير واضح في تفكير النخبة العسكرية في المنطقة العربية ، بما في ذلك مصر بطبيعة الحال ، وإن كانت تجربة اردوغان تتميز بأنها تجربة مدنية خالصة ، لم يأت كضابط تحته دبابة أو يدعمه جيش ، وإنما تحدى الدبابة وروضها وتحدى سطوة الجيش ، ثم أخضعها للإرادة الشعبية في النهاية .
الاردوغانية ، أو تجربة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ، تحتاج إلى تأمل جاد من النخبة العربية ، بمختلف أطيافها وروافدها الأيديولوجية ، وتحتاج إلى بحث رصين بعيدا عن التحيزات العقائدية التي تحرمنا من الإفادة من التجربة أو من بعض أبعادها ، والتي يمكن أن تكون في بعض ملامحها أو كلها مفيدة أو ملهمة لعالمنا العربي ، وقد لاحظت أن هناك حالة من السطحية الشديدة في استيعاب تجربة اردوغان من قبل نخب مصرية وعربية ، وصلت إلى حد أن ربط بعضهم بين تجربته وبين جماعة الإخوان المسلمين على سبيل المثال ، وقد كان ذلك مثار حوار بيني وبين الأستاذ جميل مطر المحلل السياسي المرموق ، واستغربت جدا من فهمه للتركيبة السياسية في تركيا ، كما استغرب هو نفسه مما عرضته عليه منها ووعد بإعادة دراستها ، بل ذهب بعض النخبة السياسية المصرية والعربية ـ وليس الإعلام الموجه ـ إلى أن اعتبروه جزءا من الإخوان المسلمين ، رغم أن التجربتين مختلفتان تماما ، كما أن السياق التاريخي في البلدين مختلف أيضا .
لكي نفهم تجربة اردوغان أو نقيمها نحن بحاجة إلى فهم السياق التاريخي الذي ولدت فيه ، والميراث السياسي والاجتماعي والديني والاقتصادي الذي ورثه أردوغان عندما بدأ أولى خطواته نحو السلطة الحقيقية في تركيا ، فمعرفتنا الصحيحة لذلك الميراث من شأنها أن تساعدنا على فهم كثير من اختياراته السياسية والاجتماعية وحتى الدينية ، وفهم إنجازاته أيضا ، بينما تجاهلنا لهذا الميراث سيجعل من الصعب علينا فهم اختياراته تلك ، وربما جعلتنا نضعها في سياق ظالم وغير صحيح وغير عاقل أيضا .
كما أن تجربة “اردوغان” لم تختط طريقا غير مطروق قبله ، بل يمكن القول أنه بلور خبرات تجارب سياسية سبقته ، وخاصة تجربة كل من الزعيمين الكبيرين : عدنان مندريس (1899ـ 1961) ، وتورجوت أوزال (1927ـ 1993) ، وسيأتي توضيح تجربة الاثنين وكيف أثرا في أردوغان بعد ذلك ، كما كان لتجربة أستاذه “نجم الدين أربكان” (1926ـ 2011) تأثيرا آخر ، فقد تعلم منها ومن أخطائها وعرف كيف أن هذه الاختيارات لن تفيد في حماية الديمقراطية ولا الحياة المدنية في تركيا ، وهذا ما ساعده على توليد خطاب سياسي جديد “محافظ وديمقراطي وعلماني وحداثي” رغم أنه ابن التجربة الإسلامية بالأساس .
بطبيعة الحال ، لكل دولة في المنطقة سياقها التاريخي ، والذي وضع بصمته على مكوناتها ومؤسساتها ومراكز القرار والسلطة فيها ، وبالتالي يصعب أن يتم استنساخ تجربة بكاملها إلى واقع آخر ، ولكن بالمقابل ، هناك أوجه تشابه كبيرة جدا بين تركيا الحديثة والعديد من الدول العربية ، خاصة في دول “الجمهوريات” والتي تشكلت بالأساس على القوام العسكري كمحور للسلطة وللتحديث ولصناعة القرار السياسي أيضا ، وبالتالي فإن النضال السياسي الذي خاضته أحزاب ومنظمات مجتمع مدني وإعلاميون وأكاديميون ونشطاء على مدار عقود طويلة يحمل الكثير من أوجه التشابه مع التجربة التركية ، كما أن تعثر جهود “تمدين” الدولة والمجتمع ، وأسباب هذا التعثر ، فضلا عن تعدد الانقلابات العسكرية في مراحل تاريخية مختلفة ، تحمل الكثير من أوجه التشابه بين التجربة التركية وتجربة الجمهوريات في العالم العربي ، وهو ما يستدعي قراءة التجربة التركية بشكل جيد وعميق ، لأن القراءة الصحيحة والجادة ربما توفر على الشعوب ونخبها سنوات طويلة في تجارب خاطئة أو طرق لا توصل إلى تأسيس دولة مدنية ديمقراطية راسخة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى