دين ودنيا

تأملات قرآنية مع شيخ الإسلام ابن تيمية (12)

الدكتور حسين القحطاني

عرض مقالات الكاتب

{الإخلاص في سورتي الإخلاص} • من تبرأ من الشرك وأهله ، عملا واعتقادا ، علانية وسرا ، فقد حقق التوحيد بالإخلاص ، كما قال تعالى : (قل يا أيها الكافرون) إلى آخر السورة ، وبهذا التوحيد يتميز المخلص من غيره ، ويظهر الإيمان على الكفر ، ويصبح الناس على صنفين : الأول : أخلص العبادة لله وحده ، ولم يعبد إلا إياه مخلصا له الدين ولو كره الكافرون . والثاني : أشرك مع الله غيره ، ولم يكن من المخلصين ، فإن زعم أنه يعبد الله ، فإنه كاذب ؛ لأنه عبد الله مشركا به غيره ، وفي السورة يتبين لنا أن المؤمن لا يكون على مثل حال المشرك ، ولا يكون المشرك على مثل حال المؤمن ، وهذا الترتيب ليس بتكرار ، بل فيه التأكيد والإبلاغ . ومن أفرد الله بالألوهية ، لأنه المستحق للعبادة وحده ، لا يشاركه فيها أحد ، وأفرده بالربوبية دون سواه ، ووحده في أسمائه وصفاته ، فقد حقق التوحيد بالإخلاص ، كما قال تعالى : (قل هو الله أحد) إلى آخر السورة . ومن أحب هذه السورة بإخلاص ، لأن فيها صفة الرحمن ، أحبه الله تعالى . كما في الصحيحين : أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بعث رجلا على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم ، فيختم بقل هو الله أحد ، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال : “سلوه لأي شيء يصنع ذلك ؟ ” فسألوه فقال : لأنها صفة الرحمن ، وأنا أحب أن أقرأ بها ، فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- : “أخبروه أن الله يحبه” . من أعظم أصول الإيمان الإخلاص لله تعالى في كل العبادات ، والابتعاد عن كل ما يضاد الإخلاص وينافيه ، ومدار التوحيد ينصب على الإخلاص الذي لا يخالطه شيء من الشرك ، ولو كان كدبيب النمل ، فالإخلاص هو حقيقة الدين ، وهو مضمون دعوة المرسلين ، وأصل قبول الأعمال عند رب العالمين ، وهو مانع بإذن الله من تسلط الشيطان ، وحافظ بحفظ الله من المكاره والعصيان ، وفيه طمأنينة القلب وشعور بالسعادة ، وراحة من ذل الخلق ، ونيل لمحبة الرب . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : من “يميز بين المأمور المحبوب المرضي لله ، وبين غيره مع شمول القدر لهما ، وأثبت للخالق سبحانه الصفات التي توجب مباينته المخلوقات ، وأنه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته : أثبت التوحيد الذي بعث الله به رسله ، وأنزل به كتبه ، كما نبه على ذلك في سورتي الإخلاص : (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) . فإن : (قل هو الله أحد) تعدل ثلث القرآن . إذ كان القرآن باعتبار معانيه ثلاث أثلاث : ثلث توحيد ، وثلث قصص ، وثلث أمر ونهي . لأن القرآن كلام الله ، والكلام إما إنشاء وإما إخبار ، والإخبار : إما عن الخالق ، وإما عن المخلوق ، والإنشاء : أمر ونهي وإباحة . فقل هو الله أحد فيها ثلث التوحيد ، الذي هو خبر عن الخالق . وقد قال -صلى الله عليه وآله وسلم : “قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن” رواه البخاري في صحيحه ، وعدل الشيء – بالفتح – يكون ما ساواه من غير جنسه ، كما قال تعالى : (عدل ذلك صياما) “المائدة” وذلك يقتضي : أن له من الثواب ما يساوي الثلث في القدر ، ولا يكون مثله في الصفة كمن معه ألف دينار ، وآخر معه ما يعدلها من الفضة والنحاس وغيرهما . ولهذا يحتاج إلى سائر القرآن ولا تغني عنه هذه السورة مطلقا . كما يحتاج من معه نوع من المال إلى سائر الأنواع ، إذ كان العبد محتاجا إلى الأمر والنهي والقصص . وسورة (قل هو الله أحد) فيها التوحيد القولي العملي الذي تدل عليه الأسماء والصفات … وسورة (قل يا أيها الكافرون) فيها التوحيد القصدي العملي ، كما قال تعالى : (قل يا أيها الكافرون) ، وبهذا يتميز من يعبد الله ممن يعبد غيره ، وإن كان كل واحد منهما يقر بأن الله رب كل شيء ومليكه . ويتميز عباد الله المخلصون الذين لم يعبدوا إلا إياه ممن عبدوا غيره وأشركوا به ، أو نظروا إلى القدر الشامل لكل شيء . فسوى بين المؤمنين والكفار ، كما يفعل المشركون من العرب . ولهذا قال -صلى الله عليه وآله وسلم : “إنها براءة من الشرك” رواه أبو داود وغيره . وسورة (قل هو الله أحد) فيها إثبات الذات وما لها من الأسماء والصفات التي يتميز بها مثبتو الرب الخالق الأحد الصمد عن المعطلين له بالحقيقة ، نفاة الأسماء والصفات ، المضاهين لفرعون وأمثاله ممن أظهر التعطيل والجحود للإله المعبود ، وإن كان في الباطن يقر به” . (اقتضاء الصراط المستقيم)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى