مقالات

بعد مرور أكثر من قرن على إتفاقية سايكس-بيكو: هل رُوضَ الوحش الكاسر ليصبح حيوانا أليفا

فهد السالم صقر

محلل سياسي وباحث في العلاقات الدولية
عرض مقالات الكاتب

 لا يوجد إتفاقية  في التاريخ  لاقت من سخط  المشاعر والتنديد بمقدار ما  لاقته إتفاقية سايكس بيكو للعام 1916 بين فرنسا وبريطانيا ،  فالأدبيات التاريخية العربية  التي تستنكر وتُدين هذة الإتفاقية و تقول فيها ما لم  يقُله  مالك في الخمر، لا يمكن حصرها بآلاف المجلدات. ومع ذلك ،  فإن بعض سكان بلاد الشام والهلال الخصيب المعنيين مباشرة بتبعاتها ، أصبحوا  يُقدًسون واقع هذه الإتفاقية  ويتعبدون بها ،  في تناقض صارخ بين الأفعال والأقوال .  فعندما يرفع أحدهم شعار  ” الأردن خط  أحمر”  فهو ضمنيا يقول : سايكس – بيكو خط أحمر ،  وعندما تُزيًن فتاة عنقها  بشعار الأرز رمز  لبنان ، أو بخارطة  فلسطين المصنوعة من الذهب،  فهي من حيث تدري أو لا تدري تُعظِم شعائر سايكس بيكو، وتعظيم شعائر الإستعمار ليست من تقوى القلوب.  

 في الخامس من ديسمبرعام 1917 سقطت مدينة القدس على يد القوات البريطانية بقيادة الجنرال إدموند ألنبي الذي أعلن قولته الشهيرة عند دخوله المدينة: الآن إنتهت الحروب الصليبية .  وفي الخامس والعشرين من أيلول 1920 عندما دخل الجنرال الفرنسي غورو قائد القوات الفرنسية إلى دمشق وقف عند قبر صلاح الدين مفاخرا : ها قد عُدنا يا صلاح الدين.  بهذه الخلفية الثأرية عادت الجيوش البريطانية والفرنسية إلى بلادنا بعد هزيمة دول المحور وإنهيار الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ، و لم ينسى  أحفاد الفرنجة عداءهم  للإسلام  بعد مرور أكثر من 625 سنة على إنتهاء الحروب الصليبية.

لكن مع الأسف ، لم يُدرك أهل المنطقة هذة الحقيقة إلا متأخرين ، وانبروا لمحاربة  هذا الإستعمار اللعين بالقومية والإشتراكية والليبرالية وبكل فكر أو مبدأ، ما عدا الإسلام . الأمر الذي كان له إسقاطات خطيرة جدا على مسار الأحداث في منطقتنا إلى يومنا هذا .    فبإستثناء ثورة الشيخ عز الدين القسام في فلسطين ، وحركات المقاومة والثورات الفلسطينية  المتفرقة ضد الإنجليز ( ثورة البراق 1929 وثورة ال 1936 مثالا) ، فإن معظم الحركات السياسية المناهضة للإستعمارفي القرن العشرين  في بلاد الشام  إتخذت طابعا قوميا عروبيا ، إستلهم القومية الشوفينية ( المخفًفة) من النموذج الأوروبي، أو الفكر النضالي اليساري الأممي  – التقدمي بزعمهم –  من النموذج السوفييتي الشرقي. وكلاهما لم يُسمن ولم يُغني من جوع  ، غير الشعارات الرنانة والنظريات المثالية رغم مرور 100 سنة . بدليل ، أن  الممارسة على أرض الواقع نقلتنا من سيء إلى أسوأ، فمتى نتوقف لكي نراجع أنفسنا ونتأمل،  بدلا من أن تأخذنا العزة بالإثم.

دينيا،  لم  تكن أوروبا في القرن العشرين  كأوروبا  في القرن الحادي عشر،  فقد تجاوزت الهوًس والتعصب الديني  بعد  صراع  طويل مع الكنيسة،  ومخاض سياسي دخلت فيه عصر النهضة The Renaissance  وحيَدت خلاله الدين عن السياسة والحياة العامة ، ودَخَلَت بعد النصف الثاني من القرن السابع عشر فيما سمي  بحقبة  ظهور “الدولة القومية ” (The Nation State) المتجانسة عرقيا ولغويا ، ولها حدود جغرافية معترف بها (أنظر معاهدة ويستفاليا لسنة 1648)  .  فبينما كان التحشيد الصليبي في القرون الوسطى ذو دوافع إقتصادية مغلفة بالدين،  فإن الإستعمار في القرنين التاسع عشر و العشرين كان ذو دوافع إقتصادية مغلفة بالقومية ( تعظيم الوطن National aggrandizement ) . أما المبررات المثالية  للإستعمار، التي ساقها بعض الأكاديميين الغربيين كتمدين الشعوب المتخلفة ،  ومساعدتها على التنمية  والتقدم  والوقوف على رجليها حتى  تنضج و تحكم نفسها بنفسها،  وما إلى ذلك من تبريرات زائفة ، فكانت محض هُراء عُنصري وكذب  بواح ، ومبررات واهية لا تستقيم مع واقع الحال ( كأكذوبة “عبء الرجل الأبيض The White man burden “)  .

وبالرغم من ذلك ، لا يمكن القول بأن صراع أوروبا والحضارة الغربية  مع أهل المنطقة كان مجرد  تدافع  سياسي  إقتصادي (براجماتي)  لا دخل للدين فيه ، لأن العقيدة الإسلامية كانت – ولا تزال – المُستهدف الرئيسي  في حروبهم مع العرب، و أقصد هنا ،  الإسلام كفكر.  فقد عبَر هذا العداء الديني عن نفسه في روح ونص إتفاقية سايكس بيكو  التي تضمنت تفاهمات وبنود  بين الدولتين لتقسيم  بلاد الشام إلى دويلات،  وتكريس هذا التقسيم على أسس دينية  وطائفية  بتمكين الأقليات ( دروز، علويين، مسيحيين،  يهود، أكراد)  من الحكم  بحجة حمايتهم، وخلق كانتونات طائفية لهم ، و ربطها بالمركز ( أنظر جدلية المركز والأطراف في الإستعمار Periphery vs. Centre ) ولكبح التطلعات السياسية المشروعة للأغلبية المسلمة ، وتسهيل الهيمنة على الكل ، ( فرق تسد). وفي نفس هذا السياق ، تم زرع  الكيان المغتصب في فلسطين عام 1948،  وأصبح أمن وبقاء هذا الكيان محورا رئيسيا في سياسات هاتان الدولتان وحليفتهما الثالثةً الأخرى، الولايات المتحدة الأمريكية.

 لاحظوا كيف أن أوروبا كانت دائما مهووسة جدا بالأقليات الدينية عندنا، وحريصة على حمايتهم من خطر وهمي مزعوم ، ومعنية جدا بالمحافظة على حقوقهم غير المنقوصة أصلا.   بمعنى آخر، سعت القوى الأوروبية دائما لجبر ماهو ليس بمكسور.! فقد عاش المسيحيون والمسلمون في بلاد الشام  قرونا طويلة في سلام  ووئام ،  و تعايش مشترك بين  كافة الطوائف دون تمييز.   ولم يكن هناك يوما أحياءاً  خاصة باليهود وأخرى للمسيحيين أو مناطق مسيحية  وأخرى يهودية ، كما كان الحال في أوروبا، ( ثقافة الغيتو Ghettos) ،  فالكل كانوا يعيشون سواء في مناطق مختلطة ، متساوون في الحقوق والواجبات  كجيران ، يجمعهم  وطن واحد ، ولغة واحدة ، ومصير مشترك.  علما بأن أي مقاربة سياسية في أوروبا ( أو أمريكا) اليوم ، تستحضرالإعتبار الديني أو الطائفي تعتبر ضربا من الجنون ، وأن تمييز المواطنين بناءا على معتقداتهم الدينية يعتبر من أكبر الموبقات سياسيا عندهم ، فالدساتيرالغربية  كلها مبنية على المواطنة المتساوية فقط لا غير.

  ولكن من المفارقات العجيبة،  والمعايير المزدوجة في السلوك الغربي تجاه العرب ، أنهم لم يطبقوا دساتيرهم الوطنية  فى بلداننا ،  ويا ليتهم فعلوا .  بل على العكس،  فرضوا  علينا  بالقوة الغاشمة  قوانين ودساتير لا يمكن أن يقبلوها بها  في  بلدانهم  تحت أي ظرف من الظروف. ( دستور لبنان 1947 ودستور بريمر في العراق 2003 على سبيل المثال).  هدفهم من ذلك بكل وضوح،  هو صناعة وإدارة التخلف السياسي والفكري ، وإدامته لنبقى تابعين لهم و نبقى أسواق  لمنتجاتهم و مصادر للمواد الخام  لمصانعهم يأخذوها بأبخس الأسعار ليعيدوا تصنيعها وتصديرها لنا بأضعاف مضاعفة.

في سوريا  الإنتداب ،  عملت فرنسا منذ أول يوم – كما عملت أمريكا في العراق لاحقا – على تأليب االطوائف ضد بعضها البعض، وزرع بذور الطائفية ، على حساب المصلحة الوطنية العليا.  فعلى سبيل المثال،  كان هناك محاولة لفصل الساحل السوري وإنشاء دولة علوية مستقلة فيه ، وفعلا ، أعلنت هذه الدولة العلوية في الثالث والعشرين من سيبتمبر 1923 وعاصمتها اللاذقية، ( أُنظر دولة جبل العلويين) .  ولكن ، في العام 1936 وبإتفاق مع القوى السياسية في دمشق ، أعيد دمج الإقليم مع الوطن الأم .

 لكن كما تبين لاحقا،  فإن الفرنسيين قاموا بتعديل مخططهم الإستعماري  على ما يبدو، وقرروا المراهنة على العلويين ،  و تسليم سوريا كلها  لهم، كما حدث فعلا في نهاية المطاف.  ُيذكر في هذا الصدد  أن فرنسا  حاولت  و فشلت في إستمالة الدروز الذين رفضوا التعاون معها من منطلقات وطنية ( أنظر ثورة سلطان باشا الأطرش) ،  بينما وجدت ضالتها عند العلويين .  ويستدل على ذلك من قيام فرنسا منذ بداية عهد الإنتداب بتشجيع العلويين بالإنخراط في جيش الإنتداب والإلتحاق بالمعاهد العسكرية، ومنحهم إمتيازات ومكاسب وترقيات لم تمنحها للسنة،  فقبل الإنتداب كان العلويون يستنكفون عن الإنخراط في الجيش، أو بمعنى أدق ، لم يكن مرحبا بهم في الجيش العثماني لأسباب عقائدية. وقد تغير هذا الوضع فقط بعد مجيء فرنسا.   

مما لا شك فيه ، أن العقيدة الإسلامية ( الفكر الإسلامي) عدا عن كونها أسلوب حياة ،  كانت دائما ملجأ وصمامَ أمان الأمة للتصدي للغزاة من مختلف أجناسهم عبر التاريخ،  فقد هزم  العرب إمبراطوريتي الروم والفرس في القرن السابع الميلادي  تحت راية الإسلام ، ومضوا قدما ليبنوا حضارة  تليدة أنارت العالم بالعلم والنور والمعرفة.  ثم جاء التتار والصليبيين كغزاة برابرة في القرن الثاني عشر الميلادي ،  وتصدى لهم العرب تحت راية الإسلام  وهزموهم بعد صراع دام قرابة  القرنين من الزمان (1096-1291).  وفي القرن الحديث ، لعبت العقيدة الإسلامية دورا مهما في مكافحة المستعمر الأوروبي في بلدان مسلمة كثيرة ،  خاصة في  شمال أفريقيا ، حيث  رفع الجزائريون شعار “الإسلام ديننا، والعربية لغتنا والجزائر وطننا”  بقيادة  العالِم والمجاهد الجليل عبد الحميد بن باديس،  كما فعل الليبيون نفس الشيء بقيادة المجاهد الكبير  شيخ الشهداء أسد الصحراء عمر المختار( 1858-1931) ، الذي حارب الإستعمار الإيطالي لأكثر من عشرين عاما إلى أن قُبض عليه من قِبل الجنود الطليان وأجريت له  محاكمة صورية انتهت بإصدار حكم بإعدامه شنقا، رحمهما الله.

إنحسار “الإسلام السياسي ” 1920-1979 والمد القومي العربي

لم يدخل مُصطلح “الإسلام السياسي”  في القاموس السياسي الحديث  ( The political lexicon  ( إلا مع نهايات القرن العشرين، فالإسلام أساسا دين وعقيدة ومبدأ ومنهج حياة شامل، وفي الأصل ، ليس هناك شيء إسمه “إسلام سياسي” أو “إسلام إقتصادي” بالمعنى الحرفي للكلمة، فالإسلام هو الإسلام.  وإن كثيرا من المصطلحات المستحدثة (كالأصولية الإسلامية والجهادية والسلفية والتطرف الإسلامي والإسلام المعتدل وما إلى ذلك من تسميات ما أنزل الله بها من سلطان،  ما هي إلا مفردات دخيلة ذات دلالات سلبية ، روًج لها الإعلام الغربي من باب شيطنة الإسلام ، وتبعه الإعلام العربي كالعميان،  فأصبحت المصطلحات حقائق  يتداولها الناس دون تفكير.  فقياسا على معايير الإعلام  والقاموس السياسي المعاصر، فإن  صلاح الدين الأيوبي والظاهر بيبرس وسيف الدين قطز بطل عين جالوت ، وشيخ الإسلام إبن تيمية وعمر المختار وعزالدين القسام وغيرهم ينتمون إلى “الإسلام السياسي”.  ولكن لو فرضنا جدلا،  أن هذا المصطلح كان موجودا في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية ، أي في الفترة ما بين  1920-1959 تقريبا ،  وهو بطبيعة الحال لم  يكن موجودا،  فيمكننا القول،  بأن “الإسلام السياسي” إنقرض تماما ، وأختفى عن الساحة السياسية في  بلاد الشام والهلال الخصيب  في تلك الفترة، وأصبح أثرا بعد عين.  

لقد أخلى الإسلام السياسي “المُفترض جدلا”، الساحة السياسية في  تلك الفترة في بلاد الشام كليا للتيارات القومية واليسارية والإشتراكية والشيوعية والإقليمية والعلمانية مما هب ودب، من قوميين- سوريين إلى بعثيين إلى قوميين عرب إلى إشتراكيين إلى شيوعيين ماركسيين (تروتسكيين ولينيين  وماويين نسبة إلى تروتسكي ولينين وماو) إلى علمانيين تغريبيين من المضبوعين بحضارة الغرب (الذين  لديهم شعور بالدونية أمام الإنسان الغربي) ، إلى عدميين سلبيين و قُطريين ( من جماعة سايكس بيكو خط أحمر) .   لم يبقى مبدأ أو فكر سياسي متداول في العالم ، إلا ومشت وراءه الجماهيرالعربية، وتبنته النُخب السياسية إلا الإسلام… حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم ( الحديث الشريف).

سياسيا،  لم يكن في الهلال الخصيب ( سوريا والعراق تحديدا ) في هذه الحقبة التاريخية أي أحزاب أو حركات إسلامية  ذات وزن يُذكر على الساحة السياسية ، فقد إنقرض الإسلام السياسي تماما كما أسلفت . أما إجتماعيا ، فقد أصبح سفور المرأة وشرب الخمر وترك الصلاة والإبتعاد كليا عن الإلتزام الديني من الأمور العادية والطبيعية جدا ، وأصبحت هي  القاعدة،  وليس الإستثناء.   وأصبحت نظرة المجتمع للمسلم الملتزم نظرة سلبية بالمُجمل، أنه إنسان رجعي متزمت ، متخلف  وجاهل .  وفرغت المساجد من المصلين تماما إلا من العجائز و كبار السن، وأصبحت الصلاة ( وهي ذروة سنام الدين) عند غالبية الناس مجرد طقس من الطقوس يؤدونه مرة في الأسبوع ، يوم الجمعة، هذا إن أدًوه.

وأصبح القبول إجتماعيا ، أو حزبيا ( داخل صفوف حزب البعث، الحزب الشيوعي، القومي السوري ، الخ) أن يكون الشخص الناشط  في صفوف الحزب  لا يقرب الصلاة  بتاتا ،  وشاربا للخمر ( يسمونها تحببا المشروبات الروحية) لزوم القبول، وبالتأكيد ، ذو ذقن حليقة. وتسارعت وتيرة هذا التغريب مع وصول حزب البعث إلى السلطة في سوريا في آذار من العام 1963 على يد العصابة الطائفية  المشبوهة ( صلاح جديد وزمرته) ،  فتعمقت هذة الظاهرة ، وأصبحت سياسة رسمية ممنهجة ، لإستئصال كل مظاهر الإلتزام الديني في المجتمع السوري بحجج  زائفة.  بدأوا بالجيش أولا وأحكموا سيطرتهم عليه ،  ثم إنتقلوا تدريجيا إلى الدولة السورية ، ثم إلى المجتمع ، وأصبح حزب البعث  “قائدا للدولة والمجتمع” على رأيهم .  لقد كان مجرد ممارسة الفرد للصلاة  يعتبر نقيصة كافية لتسريحه أو فصله من عمله  بحجة عدم إنتمائه  لفكر البعث العربي القومي،  وقد جرى تسريح  آلاف الضباط السوريين السُنة من الجيش بعد الإنقلاب مباشرة ، وجرى إحلال ضباط علويين ( “بعثيين” قال يعني) مكانهم.

يقول أكرم الحوراني ( 1911-1996) ، وهو علم من أعلام القوميين العرب ، وأحد مؤسسي حزب البعث في مذكراته في باب (هل كان تصفية الجيس السوري مطلبا أمريكيا):  

” … فخلال الايام الاولى لانقلاب الثامن من آذار 1963 تم تسريح اكثر من 500 ضابط من مختلف الرتب من كوادر الجیش المدربة والمحترفة، وحل محلھم ضباط الاحتیاط من معلمین وموظفین، وكان تسريح ھؤلاء الضباط يتم تحت ذرائع مختلفة بحجة ان بعضھم انفصالي، او ان بعضھم الآخر من البورجوازيین او الشعوبیین او الحورانیین. يقول لؤي الأتاسي عضو الوفد والضابط الذي نُصٍب رئیسا للدولة السورية بعد انقلاب الثامن من آذار في محادثات الوحدة التي بدأت في الرابع عشر من  آذار 1963م، اي بعد سبعة ايام من الانقلابحتى الان صار عندي” 300 ضابط مسرح من مختلف الرتب، وماشیین بالتسريح، واي انسان لو أشك انه “ممكن” الا يمشي مع الاتجاه على طول يخرج (من مذكرات أكرم الحوراني).

كما جاء على لسان الضابط فھد الشاعر عضو الوفد ما يلي : ان التجانس العسكري والمدني سیكون دائما العامل المحرك لدفع القومیة العربیة الى الامام وحمايتھا من أي خطر، وانا لا يمكنني ان اتصور وجود ضابط سوري قومي في كتیبة مشاة، وضابط كردي يريد دولة كردية، وضابط شیوعي يدين بلنین وستالین وماركس، وضابط انفصالي يسیطر علیه عامل الدين” ثم يضیف : ان الاسلوب الذي اشار الیه الفريق الاتاسي ھو المتبع حالیا في الجیش، أي الابقاء على العناصر التي تؤمن بالعروبة والقومیة“. ( نفس المصدر).

لقد كان هناك عوامل وأسباب موضوعية متعددة أخرى أدت لضعف الإسلام السياسي (المفترض جدلا) ، في بلاد الشام تحديدا ، في الفترة ما بعد 1920- وحتى مراحل متقدمة من القرن العشرين .  ليس أقلها التعسف التركي وسياسات التتريك والظلم التي نفذتها جمعية الإتحاد والترقي بإسم الدولة العثمانية ، خاصة بعد العام 1908 ، وطالت الأحرار والنشطاء السياسيين العرب في بلاد الشام ،  فقد أحدثت هذه السياسات بلا أدنى شك،  ردود أفعال عكسية ضد كل ما هو “حكم إسلامي” أو يمت إلى الخلافة  بصلة ، فقد طفح كيل العرب من السياسات العثمانية ، وإنخفضت أسهم ” الإسلام السياسي” – إذا جاز التعبير- إلى أدنى المستويات تبعا لذلك. ومن الإسقاطات الخطيرة  لهذه الظاهرة على المنطقة ، أنها تسببت ليس فقط بضعف الوازع الديني ، بل في حالة من التشرذم الفكري كما ذكرت سابقا،  مما كان له آثارا سلبية بالغة على الوحدة الوطنية للشعب ، وجعلنا ننشغل بمواجهة أنفسنا بمناكفات حزبية وأيديولوجية ( شيوعيين بعثيين قوميين سوريين الخ )  بدلا من مواجهة تحديات الخارج ،  بينما أعداؤنا يحاربوننا في جبهة موحدة على قلب رجل واحد.

 أضف إلى ذلك الدعم المباشر وغير المباشر من قبل الدولتين المُستًعمرتين ، بريطانيا وفرنسا لكل الحركات القومية فيما يمكن تسميته مجازا بالإنجليزي guilt by association ، فقد فُتحت لهم المنابر والجامعات ، ومُنحت لهم التراخيص اللازمة لتأسيس الأحزاب القومية ولم يُعرف أبدا عن بريطانيا أو فرنسا أنهما قمعتا أحدا من قادة القوميين العرب ، أو إعتقلت عروبيا قوميا لأفكاره السياسية مطلقا ، أو قاومت فعلا هذا التيار الجارف في حينه. بل على العكس ، كان هناك سكوت وصمت قبور يَنُم عن الرضا.  وعندما شَنًت الدولتان عدوانهم الثلاثي  مع الكيان الصهيوني على مصر عبد الناصر في العام 1956 لم يكن هذا العدوان ضد أفكار عبد الناصر القومية مطلقا  ، وإنما كان نتيجة لصراع  ضباع بين بريطانيا وفرنسا من جهة ، والولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى ، لا أكثر ولا أقل.

في سوريا مثلا،  تم  تأسيس حزب البعث العربي الإشتراكي من قبل مثقفين درسوا في فرنسا وتأثروا بالمجتمع الفرنسي (ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار ).  ورفع الحزب شعارات وحدوية ؛  أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة،  (حرية ، وحدة، إشتراكية).  أما في لبنان والأردن ومصر فقد إنتشر فكر “حركة القوميين العرب” بعد نكبة فلسطين، و كان هناك نشاطا  كبيرا وحراكا مهما  لهذا التنظيم في داخل أروقة الجامعة الأمريكية في بيروت ، حيث رفع التنظيم في البداية ثلاث شعارات ( الوحدة والتحرر والثأر) أي الثأر من الصهيونية  التي تسببت في  نكبة فلسطين ،  ونكبة الشعب العربي. وفي العام 1959 أضيفت كلمة الإشتراكية  إلى شعارها و إستبدلت شعار الثأر بشعار تحرير فلسطين.  وكان من أبرز قادة هذا التيار قسطنطين زريق  ( 1909-2000) الأب الروحي للتنظيم و جورج حبش ووديع حداد ونايف حواتمة وغيرهم ، وقد عقدوا مؤتمرهم الأول في عمان في العام 1956. وكان وجه الإختلاف الوحيد  بين هذه الحركة و حزب البعث  في أنها آمنت بالعمل العسكري المسلح لتحرير فلسطين ، وإعتبرت القضية الفلسطينية هي القضية المحورية لهذا التنظيم.

فكريا  ، كانت “عصبة العمل العربي ” هي نواة تنظيم القوميين العرب ، حين ضمت في عضوية مؤسسيها بالإضافة إلى قسطنطين زريق ، زكي الأرسوزي وصبري العسلي ورئيسها عبدالرزاق الدندشي ،  إلا أن قسطنطين زريق كان هو العضو البارز والعقل المدبر والمنظر للقوميين العرب منذ الحرب العالمية الأولى ، بحكم موقعه في الجامعة الأمريكية في بيروت وإحتكاكه  بالطلبة  ، الذين قدم لهم قسطنطين زريق كل  الدعم اللوجستي والفكري وساهم في تشكيل وعيهم القومي ( أدلجتهم) . سافر قسطنطين زريق بعدها إلى الولايات المتحدة عام 1928 لإكمال دراسة  الدكتوراة في جامعة شيكاغو ( أنظر قسطنطين زريق – ويكيبديا الموسوعة الحرة)  ثم عاد ثانية لتدريس التاريخ في الجامعة الأمريكية في بيروت ، حيث إستأنف عمله في التنظير القومي،  وتشكيل وعي الطلبة.  وفي العام 1945 تم إستدعاؤه إلى دمشق لمقابلة الرئيس شكري القوتلي الذي قام بتعيينه مستشارا أولا في المفوضية السورية في واشنطن وعضوا في الوفد السوري المؤسس للأمم المتحدة ، وسفيرا لدى إدارة الرئيس هاري ترومان.

إذن لم تمنع سلطات الإنتداب الفرنسي إنتشار الفكر القومي العربي الممثل بحزب البعث  في سوريا ولبنان وتمدده السريع.  فقد إنتشر أتباع الحزب في كافة المدن والأرياف والمحافظات في سوريا،  خاصة بين أبناء الطوائف والأقليات ( علويين ، دروز، إسماعيليين وبالطبع المسيحيين)  كإنتشار النار بالهشيم. منحت فرنسا ميشيل عفلق ورفاقه كارت بلانش ( شيك على بياض) في التنظيم والتحشيد الحزبي، وتجنيد الأتباع  والأعضاء بكل سهولة وأريحية.    وعُقد مؤتمر الحزب الأول التأسيس في دمشق في العام  1947 على مرآى ومسمع السلطات الفرنسية كما سُمح للحزب بخوض الإنتخابات و المشاركة في الحكومات المتعاقبة منذ تأسيسه في العام 1940 . بمعنى أدق ، شَرعَنتهُ ومنحته القوة السياسية ( Political profile) الضرورية، حتى أوصلته إلى السلطة في نهاية المطاف.  ويمكن القول الآن بأثر جعي (At hindsight)  أن حزب البعث كان على تعايش وتوافق سياسي تام مع سلطة الإنتداب الفرنسي ورضا الشريك البريطاني والحليف الصهيوني.

مما لا جدال فيه ، أن  المثقفين السوريين (The Syrian intellectuals) من مؤسسي البعث كانوا متأثرين بالأفكار القومية السائدة في أوروبا في ذلك الوقت ، ومنهم ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وقد حاولوا تقليد و إسقاط التجربة الأوروبية على المجتمع العربي في بلاد الشام .

”  خضعا  ( أي عفلق والبيطار ) لجملة من التأثيرات الثقافية التي تركت عندهما إنطباعات متباينة ، ثم عندما عادا إلى الوطن خضعا أيضا لتأثيرات محلية، قومية ودينية وسياسية مختلفة ، وكانت حصيلة  هذه التأثيرات الداخلية والخارجية المتباينة أن وقع الإثنان تحت وطأة أزمة روحية وفكرية عميقة  إستمرت عامين إنقطعا خلالها عن الكتابة، كان جوهر الأزمة التي كان يعاني منها ميشيل عفلق، في تلك الفترة هو الموقف من الشيوعية ومن الحزب الشيوعي السوري.”  ( المصدر: ميشيل عفلق ويكيبيديا الموسوعة الحرة ).

 يقول ميشيل عفلق حول هذه النقطة:   ” كان لا بد لحركتنا منذ التعبير الأول عن فكرتها أن تتخذ موقفا أساسيا ومحددا من الشيوعية كنظرية معدة للتطبيق، وكنظرة إلى الإنسان، ذلك لأن الشيوعية أظهرت نفسها كخلاصة للفلسفات التي عرفها البشر، وكدين جديد لمستقبل الإنسانية، فتحديد موقفنا منها كان مفروضا علينا من هذه الاعتبارات. ( نفس المصدر السابق).

عالم الإستخبارات الدولية ، وفوق كل ذي عمالةٍ عَميل.

 ليس سرا ( ولا جديدا) ،  أن أجهزة الإستخبارات الدولية التابعة لإستخبارات الدول الإستعمارية الكبرى تملك ميزانيات ضخمة ( بلا سقف)  لا يُفصح عنها للعامة ،  تكون عادة جزءا من ميزانيات الدفاع.  وتعمل هذه الأجهزة  تحت درجة كبيرة من الحصانة  والسرية التامة،  وغالبا  بعيدا عن  أي  مساءلات علنية قانونية أو برلمانية .   وتخترق هذه الأجهزة المجتمعات في العالم الثالث والعالم العربي بشكل خاص،  من خلال  أحزاب وحركات ثورية  ومؤسسات مجتمع مدني ورجال سياسة وإعلاميين ، وذلك  لتحقيق مآربها والحفاظ على مصالحها الحيوية.  

 وللعلم ،  فإن الإستخبارات الأمريكية والبريطانية والكندية والأسترالية والنيوزيلاندية تعمل كفريق واحد ضمن تحالف إستخباراتي وثيق جدا ،  تأسس بعد الحرب العالمية الثانية يسمى هذا  الحلف “بحلف الخمس عيون.) أنظر (The Five Eyes . ويضم الكيان الصهيوني كعضو شرف  فاعل.      فعلى سبيل المثال ، عندما تجند بريطانيا  مثلا جاسوسا ما ، فإن عملية جمع المعلومات التي تحصل عليها من هذا الجاسوس أو ذاك العميل هي بحكم المنفعة العامة للدول الخمس ( ستة دول مع الكيان) ،   ويجب مشاركتها  ولا يجوز كتمانها ، خاصة إذا كانت ذات علاقة أمنية أو دفاعية.  وقد إنضمت فرنسا إلى هذا الحلف كعضو سادس  في سنة 2009  ( ليس كعضو كامل الصلاحيات لأسباب خاصة) . ولكن بكل الأحوال،  فإن تاريخ 200 سنة  من التنسيق والتعاون الإستعماري لإقتسام النفوذ في هذا الإقليم من العالم أو ذاك بين فرنسا وبريطانيا ، تجعل من عضوية فرنسا الكاملة في هذا الحلف تحصيل حاصل.  ( أنظر Entente Cordiale) وهو إتفاق تفاهم تاريخي عقد سنة 1904 بين فرنسا وبريطانيا ، أنهى حالة العداء بينهما ، وأدخلهما عمليا في حالة شراكة وتحالف.

الأمر الآخر، هو أن عالم الإستخبارات والجاسوسية ( (Clandestine activities عالم تراتبي (Hierarchical ) قائم بذاته  بمعنى،  أن جهاز الإستخبارات لدولة ما ،  قد يخترق حزبا أو حركة تحررية  بزمرة عميلة،  ثم يخترق  الزمرة  بعميل  خسيس ، يكون خائنا لوطنه وخائنا لزملاءه  الخونة أمثاله وهكذا،  ومثال  حافظ الأسد و اللجنة العسكرية لحزب البعث في سوريا خير مثال  على ذلك.  تكونت اللجنة العسكرية من 5 ضباط علويين ( وهم محمد عمران، عبدالكريم الجندي، صلاح جديد، حافظ الأسد وأحمد المير، قاموا بإنقلاب آذار 1963) . صفاهم حافظ الأسد بالقتل والإغتيال والتغييب في السجون الواحد تلو الآخر بعد وصوله إلى السطة. 

  لم تكن الحركة الصهيونية المتنفذة  في كل عواصم  القرار في العالم في فترة بعد  الحرب العالمية الأولى ، بغافلة أو (نائمة على ودانها) ، عن التطورات السياسية والإجتماعية التي تحدث في بلاد الشام ( دول الطوق) وتحديدا في سوريا ، فهي دولة محورية جدا بالنسبة لهم  ولأمن الكيان في فلسطين حاضرا ومستقبلا ، وبدون ضمان نظام عميل ينفذ ما يريدون بدقة في دمشق ،  لا يمكن أن تقوم للكيان الصهيوني  قائمة .  بالإضافة إلى أن سوريا كانت  موضع تنافس محموم بين الإتحاد السوفييتي السابق والحلف الغربي بقيادة ( اللاًتُ والعُزى ومناةُ الثالثة الأخرى)  على النفوذ في منطقة حيوية جدا من العالم .  لقد مرت سوريا  في فترة الخمسينات والستينات من القرن العشرين بمخاضات وصراعات داخلية  ، كانت تعكس واقع هذه العلاقات الدولية والإقليمية، مما شكل بيئة ملائمة  جدا للإختراق التجسسي .  ولم لا   ؟   فلدى الحركة الصهيونية المال الوفير ومرضى النفوس، والإنتهازيين والوصوليين، والطائفيين  الشعوبيين من كل الأصناف .   أضف إلى ذلك ،  الإعلام الموجه والمسيطر عليه، والجمعيات الأندية السرية .  وفوق هذا وذاك  ، التربة الخصبة المعادية للإسلام ، مقرونة بالسيطرة السياسية الأجنبية والنفوذ الغربي المباشر على القرار السيادي في العواصم العربية دون إستثناء.  فمن يملك السيطرة على القرار السيادي في أي دولة ،  يملك سلطة تعيين من يشاء ونزع الوظيفة العامة ممن يشاء،  ويعز من يشاء ويذل من يشاء.  بكل بساطة.

الآن ، ونحن في العام 2020  فإن المحلل السياسي الموضوعي  أصبح  يملك  الكثير من الأدوات  في التحليل وليس أقلها ترف “الحكمة  بأثر رجعي” ( The benefit of hindsight)   و قراءة واقع  أحداث تاريخية مفصلية  حصلت  وعاصرناها بأم أعيننا أو سمعنا رواياتها من شهود عيان.  فالتحليل بهذه الصفة ليس مبنيا على التخمين أو إلقاء التهم جزافا بل بناءا على  حجج وقرائن وقراءات نقدية. 

لقد نجحت  الحركة الصهيونية من خلال تغلغلها ونفوذها الكبير في  عواصم القرار العالمي لندن وباريس وواشنطن ( وموسكو أيضا)  من نسج شبكة معقدة من  المصالح والتحالفات مع البرلمانات والأحزاب السياسية ، ومن ثم داخل السلك الديبلوماسي والإستخبارات العسكرية لتلك الدول،  مكنتها من تحقيق أهدافها في فلسطين أولا ( وعد بلفور ) وقرار التقسيم والإعتراف الدولي بالكيان عام 1948.  وبقية دول الطوق ثانيا.   وليكن معلوما لدى الجميع  أن الحركة الصهيونية لم  تؤسس دولة  صهيونية على أرض فلسطين بشجاعة وبسالة جنودها وعصاباتها الإرهابية الجبانة،  بل فعلت ذلك بالدسائس والمؤامرات وزرع الجواسيس في الجيوش العربية وإختراق الأنظمة العربية الفاقدة لسيادتها أصلا.  وإن كل من يتوهم أن إسرائيل إنتصرت على العرب بحروبها بفعل تفوقها العسكري فهو واهم ومُضلًل إلى يوم الدين .     وقد كانت سوريا بلا شك دولة محورية ومهمة جدا في مخطط إستكمال وإنجاز المشروع الصهيوني في المنطقة إخترقتها الصهيونية طولا وعرضا وتُوًج هذا الإختراق مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970.  

القوات الإسرائيلية إحتلت الجولان عام 1967 بعد إنسحاب الجيس السوري ب 16 ساعة بناءا على أوامر من حافظ الأسد ( أنظر البيان 66) المكذوب جملة وتفصيلا ، وقس على ذلك . فإسرائيل مثل لاعب الورق الذي يفوز في لعبة الطرنيب  بالغش في كل مرة ثم يقنع نفسه والناس من حوله أنه بارع.

القومية والعروبة – رضينا بالهم والهم ما رضي بنا

ليس هناك أدنى شك ،  بأن الشباب المتحمسين الذين إنضووا في الحركات القومية العربية والحركات الإشتراكية التحررية والأحزاب الشيوعية  وغيرها،  كانوا مدفوعين بالوطنية وكل معاني التضحية والفداء، ومن الضروري عند إجراء أي تقييم لمسيرة هذه الحركات منذ بدايات القرن العشرين وحتى 1979 – عام إنفجار الثورة الإيرانية بقيادة آية الله الخميني وهو العام الذي يعتبره  كاتب هذه السطور بداية الصحوة الإسلامية وعودة الإسلام ” السياسي” بقوة إلى الساحة.  أقول ، يجب التفربق بين جذور العشب ( The grassroots) من المناضلين الذين حملوا السلاح في المقاومة الفلسطينية و اللبنانية وغيرها ووضعوا أرواحهم على أكفهم في سبيل القضايا العربية ، فلهؤلاء الشهداء والأسرى من كافة التنظيمات ننحني إجلالا وإكبارا ونرفع لهم القبعات ونقول لهم أنتم الشموع المضيئة وأمل الأمة  ، وقسما بالله لن تذهب تضحيتهم هدرا.   أما القيادات الوصولية والإنتهازية المشبوهة التي إمتطت صهوة العروبة والقومية فهؤلاء تقييمنا لهم وحكم التاريخ سيكون قاسيا جدا، وكثيرا منهم حجزوا أماكن مميزة لهم في مزابل التاريخ كحافظ الأسد.

في المحصلة النهائية ، لم يكن حزب البعث العربي الإشتراكي ، ولا حركة القوميين العرب إلا حصاني طروادة إمتطاهما قادة إنتهازيون تستروا بالوطنية والعروبة للوصول إلى السلطة ،  وتحقيق أهداف لا علاقة لها بالقومية ولا بالوطنية ولا بالإشتراكية أوالعدالة .  حركة القوميين العرب حلت نفسها عام 1970  بعد إنقسامات وإنشقاقات حيث ذهب كل صاحب دكانة بدكانته ( جورج حبش في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ونايف حواتمة، في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين والتجمع الوطني الناصري” بقيادة جاسم القطامي  والحركة التقدمية والديمقراطية ” بقيادة أحمد الخطيب في الكويت ، والحركة الثورية الشعبية في عُمان والخليج العربي، ودقي يا مزيكة ) .

أليست مفارقة هزلية وكوميديا سوداء أن التنظيم الذي أخذ على عاتقه توحيد الوطن العربي  لم يستطع توحيد نفسه في تنظيم واحد .   ولم يستطع حتى تحقيق أضعف الإيمان ألا وهو توحيد فكره السياسي أو إعتماد  أيديولوجية موحدة أو إستراتيجية عمل مشتركة .  أليست مفارقة عجيبة غربية ،  أن الحزب الذي أراد توحيد الأمة العربية  الواحدة   ذات الرسالة الخالدة ، لم يستطع توحيد دولتين متجاورتين ( العراق وسوريا) ،  على مدى ثلاثين عاما من الحكم ،  بل أسوأ من ذلك ،  لم يستطع حتى أن  يقيم علاقات أخوية ودية بينهما ، وبقيت حدودهما المشتركة مغلقة تماما لحركة الأفراد والبضائع لأكثر من  عشرين عاما،  والمخفي أعظم.

ولأن المتنطعين والدافني رؤوسهم في الرمال في مجتمعاتنا من الكثرة بمكان،  ومن السفسطة بمكان،  بحيث أنك تكاد تصطدم بهم في كل زاوية وفي كل مكان ، سواءا في الحياة العادية أو على وسائل التواصل الإجتماعي،  أو في الإعلام والفضاء الأكاديمي ليجادلوك طويلا جدلا عقيما  بلا كلل ولا ملل ،  لدرجة أن بعضهم لو قلت له : لا إله الا الله  ، لبادرك بالسؤال ، وما يدريك أن لا إله إلا الله .  بل أن بعضهم يوشك أن يقول كما قالت بنو إسرائيل لسيدنا موسى عليه السلام :  أرنا الله جهرةً.

إذا أردنا أن نحكم على الأقوال والخطابة أو النوايا الحسنة ، كما يفعل البعض فإننا سوف نُنصًب آله جديدة كما فعلوا ، فهناك الإله الصنم المعبود المنزًه عن النقد كجمال عبدالناصر، وهناك الشهيد صدام حسين، والزعيم الخالد حافظ الأسد ، وحكيم الأمة العربية صاحب الكتاب الأخضر معمر القذافي، وهناك الآن معمر القذافي رقم 2 في مصر عبدالفتاح السيسي،  الذي أوتي الحكمة ومجامع الكلم ومن يُؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا .  بالنسبة لصدام حسين فكان تجسيدا حيا للمثل الإنجليزي القائل ” الطريق إلى جهنم معبدا بكل أنواع النوايا الحسنة” وإفهموها مثل ما تفهموها. أما الخسيس حافظ الأسد  فكان أسطورة القومية والعروبة ، بدأ حياته الخيانية برتبة طيار ثم أصبح رائدا طيار ثم قفز من رتبة رائد إلى رتبة لواء ( 4 رتب دفعة واحدة، وقائدا لسلاح الجو) بمرسوم رئاسي، عام 1964 ثم أصبح وزيرا للدفاع عام 1965 ليسلم الجولان دون حرب في سنة 1967 ثم يصبح بعد ثلاث سنوات عام 1970  رئيسا للجمهورية.  ثم قائدا لسوريا مدى الحياة ثم وثنا معبودا ،  وعندما مات عام 2000 وًرًث الألوهية والربوبية لإبنه القاصر بشار على طبق من ذهب، فأصبح بشار يَهذي بالسوريين :  يا أيها الملأ ما علمت لكم من أله غيري.

وعندما ثار الشعب السوري عام 2011 ضد القمع والفساد والإستبداد ، مطالبا بالحرية والكرامة والإصلاح رفع النظام شعار  ( الأسد أو نحرق البلد) ونفذه بحذافيره،  وأستدعى بشار الميليشيات الطائفية  من إيران وأفغانستان والعراق ولبنان والجيوش الروسية ثم وقف الأبله ليخطب بالناس على المنابر ويصرح  إن الوطن ليس لمن يحمل جواز سفره بل الوطن هو لمن يدافع عنه  ..! أين الوحدة والحرية والإشتراكية، أين الرسالة الخالدة ؟ في تدمير المدن والقرى وتهجير 6 ملايين سوري؟

في العام 1966،  وبعد ثلاث سنوات من إنقلاب الزمرة العلوية في آذار 1963  وإحكامهم السيطرة بالكامل على الجيش “بالعلونة” و تسريح آلاف الضباط السنة الأكفاء،  والممارسات اللاوطنية المفضوحة والمشبوهة بات واضحا للعيان ، ولكل ذي بصيرة أن هذة الزمرة المشبوهة  قد إتخذت من حزب البعث مطية للوصول الى السلطة ليس أكثر ،  فحدث صدام بينها وبين القيادة السياسية لحزب البعث الممثلة بميشيل عفلق ومنيف الرزاز وصلاح الدين البيطار وغيرهم في 23 شباط 1966 و فر ميشيل عفلق وأعضاء قيادة آخرين إلى لبنان وقال كلمته الشهيرة ” ليس هذا حكم البعث، وليست هذه ثورة البعث ، ولا الأهداف أهداف حزبنا وشعبنا  ولا الأخلاق أخلاق حزبنا وشعبنا ”  (أنظر إنقلاب شباط 1966 ويكيبيديا الموسوعة الحرة)

إذن فإن شخصا مثل حافظ الأسد جاء إلى السلطة بأجندة خارجية لم يكن يمثل إلا نفسه والجهات الخارجية التي أتت به إلى السلطة . إن شخصا مثل آرييل شارون الذي إرتبط إسمه تاريخيا بمجزرة صبرا وشاتيلا،  وأصبح لقبه سفاح صبرا وشاتيلا على سبيل المثال أو شخص مثل شمعون بيريز الذي  لقب بسفاح قانا أو مناحيم بيغن سفاح دير ياسين أوعبدالفتاح السيسي سفاح رابعة . إن كل واحد من هؤلاء سواءا الذين ذهبوا إلى مزبلة التاريخ  أو الذين سيلحقوا بهم إرتبط إسمه بجريمة ، أما الخسيس حافظ الأسد فيحتار المرء إلى أي مجزرة ينسب إسمه؟  هل نسمية سفاح حلب، أم سفاح حماة، أم سفاح سجن تدمر أم سفاح مخيم تل الزعتر أم بطل تسليم الجولان دون حرب ؟ أم ماذا  ؟ لقد تفوق الرجل في إجرامه وخسته حتى على زعيم الخمير الحمر بول بوت وورثه إبنه في نفس مستوى الخسة والوضاعة وتفوق عليه.

هل سمعتم بمفكرعروبي واحد يوجه نقد أو إتهام لحافظ الأسد على ما أرتكبته يديه من مسلسل جرائم في حق السوريين واللبنانيين والفلسطينيين؟  هل سمعتم بمفكر عروبي واحد ينتقد نظام الاسد لمشاركته في تحالف حفر الباطن عام 1991؟ هل قرأتم  مقالا واحدا لمفكر قومي عروبي ينتقد تأسيس جامعة الدول العربية ، التي أسستها بريطانيا عام 1945 لتكريس الفرقة والدولة القطرية ومنع قيام أي وحدة؟ أليس ميثاق الجامعة العربية ينص على إحترام الدول العربية لإستقلال وسيادة أراضي بعضها البعض؟ أليس معظم الوحدويين العرب دعموا قرارات الجامعة العربية وإعتبروها مؤسسة وحدوية تمثل كل العرب؟  إن الفكر والأيديولوجية التي تتناقض كليا بشكل صارخ مع الممارسات على أرض الواقع هي أيديولوجية عفنة منتنة لا خير فيها.

يتساءل المرء لماذا تحارب أمريكا والغرب كله اليوم الإسلام السياسي بهذه الشراسة وتحشد الأموال ومراكز الأبحاث ( Think tanks) وتسلط الإعلام والأنظمة العميلة والإعلام المرتزق لشيطنة الإسلام ،  بينما هي لم تفعل ذلك يوما ضد المد القومي والقوميين العرب؟ .  بل على العكس ، إحتضنتهم وفتحت لهم المنابر والجامعات وشجعت إنتشار فكرهم بلا مقاومة أو عوائق. عندما أطلقت الجامعة الأمريكية في بيروت العنان للقوميين العرب بتنظيم أنفسهم وتحشيد الأتباع وأدلجتهم بينما هي جامعة يحكمها مجلس أمناء مكون من شخصيات مرموقة في نيويورك، وكان قسطنطين زريق الأب الروحي للقوميين العرب أحد أساتذتها لسنوات طويلة حتى تعيينه من قبل الحكومة السورية الخاضعة للإنتداب الفرنسي سفيرا في واشنطن. كيف تقبل فرنسا بتعيين قومي عربي أصيل ومنظر القومية العربية الأول سفيرا لدى واشنطن، ثم لماذا لم تعترض إدارة الرئيس هاري ترومان على تعيينه سفيرا لديها وتتهمه يالتطرف والإرهاب؟  لو كان هذا الفكر “المعادي للإمبريالية والإستعمار” يشكل خطرا على مصالحهم ؟؟

بعد كل الكوارث التي تسبب بها الفكر القومي العربي للأمة إبتداءا من الثورة العربية الكبرى ( الخديعة الكبرى) التي جلبت لنا سايكس بيكو ،  إلى الجبهة الوطنية لتحرير الجزائر التي إختطفت ثورة المليون شهيد،  وإختزلت كل إنجازاتها بحزبها العلماني فرنسي الهوى  الفاسد المفسد على مدى أكثر من نصف قرن، إلى تجربة جمال عبدالناصر الفاشلة والكارثية بكل المقاييس (1952-1970) . لم يكن عبدالنصر أكثر من ظاهرة خطابية جوفاء يدغدغ المشاعر. إلى كارثة التجربة البعثية المزدوجة في كل من العراق وسوريا 1963-2003 وما زالت فصولها في الجزء السوري تنسدل أمام أعيننا بمجزرة دم مفتوحة يقودها شخص مهووس طائفي متعطش للدم لا يرى في نفسه إلا إلها و  مصمم على تدمير سوريا حجرا حجرا ، لكي يبقى هو وطائفته في  الحكم ولو على جماجم عشرين مليون سوري، إلى تجربة االجماهيرية الليبية العظمى بقيادة مهووس آخر منفصم ، مجنون إسمه معمر القذافي وصولا إلى الفكر القطري الضيق الذي يرفع شعار سايكس بيكو أولا ،  وسايكس بيكو خط أحمر.

 أما آن الأوان لمراجعة عقم وخطيئة هذا الفكر، والعودة إلى عقيدتنا الإسلامية حصن الأمة المنيع؟  إلى متى سنبقى نحلب في الثور ؟ متى سنتوقف لنراجع أنفسنا ونقيم كل تجاربنا منذ الثورة العربية الكبرى في 1916 وحتى سقوط بغداد الثاني في إبريل 2003؟ متى؟  لا نريد أن نكون إسلاميين بل نريد نكون كما كنا دائما وأن نبقى كما نحن ، مسلمين.  نعيش كمسلمين ونموت كمسلمين. نقطة على السطر

إلتقيت في عمان في أوائل التسعينيات من القرن الماضي بالمناضل الشيوعي الأردني الكبيرعبدالعزير العُطي رحمه الله.( 1925-2016) عميد الشيوعيين الأردنيين ، الذي أفنى عمره كله في النضال من أجل فلسطين والكفاح لقضايا الطبقة العاملة إبتداءا من عصبة التحرر في فلسطين ، ثم لاحقا الحزب الشيوعي الفلسطيني، ثم الحزب الشيوعي الأردني .  كان ذلك بعد البريسترويكا  وإنهيار الشيوعية في الإتحاد السوفييتي، فبادرته بالسؤال : يا عمي أبو الوليد ما رأيكم بما يحدث في روسيا وماذا أنتم فاعلون ؟ فقال لي بما معناه ، لعن الله غورباتشوف وجماعته ، والله لن نستسلم ولن نتراجع وسنواصل االنضال من جديد !  هل يا ترى كان هناك واقعية في جواب العم أبو الوليد عبدالعزيز العطي رحمه الله ، هل هو فعلا ثبات على المبدأ أم  كانت مجرد مكابرة ؟  رحمك الله يا عبدالعزيز العطي ورحم الله كل رفاقك.

أقول هذا للقوميين الإشتراكيين العرب ، هل بعد التجارب التي خضتموها مع الحكيم جورج حبش ووديع حداد ونايف حواتمة ، وتجارب صدام حسين وخسة وخيانة حافظ الأسد الذي كان بعيدا عن القومية العربية والإشتراكية والحرية كبعد النجوم عن الأرض، هل ستعاودون الكفاح من جديد ، ألم يتحسس رأسكم الجدار بعد ؟ هل ستبقون تكابرون وتراهنون مثلا على نظام الأسد ليحقق لكم ما فشل في تحقيقه طوال 57 سنة؟ وماذا عن ايران ؟ هل ايران دولة عروبية قومية ستدعم قضاياكم العادلة؟

 السؤال بل الصرخة : إلى متى تبقون كقول الشاعر ؟

 كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

يا ناطح الجبل العالي ليكلمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مقالة ثرية تختصر مسيرة القرن العشرين في تحكم دول الاستعمار في بلادنا، وأهم ذلك التحكم الذهني في العقول التي روضتها لتقبل ثقافة سايكس بيكو وما بني عليها من أوهام و سموم الوطنية والقومية الخ ..ومع ذلك يبقى الإسلام متجذرا في قلوب الأمة وقد أثبتت الأحداث هذه الحقيقة، وشاهدنا جماهير الكرة في الجزائر و تونس تهتف بفلسطين بشكل عفوي. ولو أن الحركات الاسلامية امتلكت الوعي السياسي لآمكنها من اغتنام فرصة الربيع العربي، ومع ذلك فالصراع مستمر ولا بد من ان يكون النصر بالتحرر من الهيمنة الغربية بكل توابعها والعودة الى العيش في كنف الشريعة الاسلامية هو المصير ولو بعد حين…..هناك تصحيح بسيط لمقولة ان الحركة الصهيونية “تمكنت” من بناء شبكة من النفوذ في الأوساط الفاعلة في العواصم الغربية…الحقيقة هي ان مارك سايكس هو الذي “دق باب” قادة الصهيونية في لندن وايزمان وسولوكوف وطلب الاجتماع بهم، فعرض عليهم فكرة اقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وطبعا هم رحبوا بالفكرة، فقال لهم ولكن يجب الحصول على موافقة فرنسا والفاتيكان، وطلب منهم العمل على تحقيق ذلك فقالوا له انت صاحب الفكرة، وأنت تمثل بريطانيا العظمى اما نحن فمن نحن؟ فقال لهم لا بد من الاتصال بالفرنسيين وبالفاتيكان وقام بترتيب موعد لهم مع وزير الخراجية الفرنسي، وايضا موعد مع بابا الفاتيكان ووافقت فرنسا على فكرة الوطن القومي لليهود، وقبلها كذلك بابا الفاتيكان، كما قبلها حكام اليابان و امريكا..ولهذا جاء في خطاب وايزمن امام مؤتمر “السلام” في فرساي لقادة الدول املنتصرة: أنتم وعدتم(في وعد بلفور) بمساعدتنا في اقامة وطن قومي في فلسطين فعليكم تنفيذ هذا الوعد، وهذا ما تم حين ادرج وعد بلفور في صك “الانتداب” من عصبة الامم لبريطانيا…القصد ان الحركة الصهيونية لم تكن بالقوة والنفوذ كما يشاع خطأ…بل بريطانيا هي رأس الأفعى وهي التي قامت بهندسة كل تفاصيل سايكس بيكو، ومن ذلك انها رغم منح الانتداب لفرنسا في لبنان الا ان السفير البريطاني في لبنان كان هو الحاكم الفعلي….وتوضيح أخر الدستور اللبناني الاول وضع 1926 مقتبسا من الدستور الفرنسي، ثم تم تعديل أجزاء منه في 1943، ولاحقا تم تعديله في الطائف 1989… د عثمان بخاش

اترك رداً على د عثمان بخاش إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى