مقالات

مصر بين أثيوبيا وليبيا هل غابت البوصلة أم الإرادة؟

أنور الغربي

الأمين العام لمجلس جينيف للعلاقات الدولية والتنمية
مستشار سابق في رئاسة الجمهورية
عرض مقالات الكاتب

أعلن اليوم وزير الري الأثيوبي البدء في عملية تخزين المياه والبدء بملء سد النهضة، وبالتوازي أكدت السودان انخفاض ما يصلها من مياه النيل، وعزت ذلك لإجراءات أثيوبية لتجميع المياه لديها باعتبارها بلد المنبع .

المتابع لتطورات الأحداث لا يجد أي منطق سياسي، وعقلاني في التعاطي المصري الرسمي مع المستجدات، والتي سيكون لها تداعيات كبيرة على حياة المصريين، وأمنهم المائي والغذائي والبيئي.

أمران أثارا تخوفاتي، وانشغالي وأنا أتابع تحليلات الساسة من عرب، وغربيين حول ردود الأفعال المصرية المتضرر الرئيسي من الخطة الإثيوبية.

الأمر الأول، وهو إيحاء مصر عبر إعلامها بأنها ستذهب لمجلس الأمن، وتطلب من فرنسا، وألمانيا دعمها في ذلك .  موقف ربما الهدف منه تهدئة الشارع المصري، وربح بعض الوقت، ومقياس درجة التفاعل الدولي،  ولكنه يعطي ورقة إضافية للخصم، ويعتبر تأكيد آخر على أن السلطات المصرية تدير الملف بطريقة عاطفية، وغير جدية، بل وبعيدة عن الدبلوماسية وفقه السياسة الخارجية.

 من البديهي أن هذه الخطوة ليس لها أي تأثير على مجريات الملف بل ستزيد من عزلة مصر، وذلك لعدة أسباب منها

–     من المعلوم أن جنوب أفريقيا هي حاليًا رئيسة الدورة الحالية في الاتحاد الأفريقي،  وهي من تقود المفاوضات على المستوى الإقليمي، وهي الوقت نفسه عضو في مجلس الأمن وتجاهلها في الخطة المصرية خطأ فادح، وغير مفهوم.

–     عدم الأخذ في الاعتبار الحساسية الكبيرة لدول الاتحاد الأفريقي من التدخلات الخارجية في ملفات القارة غير مفهوم خاصة، وقد عبرت كل من أثيوبيا، والسودان، وجنوب أفريقيا، والدول الفاعلة في الاتحاد عن رفضهم لأي خطوة من خارج المنظومة الأفريقية، وبأن حل سد النهضة يمر عبر التفاوض السياسي تحت إشراف الاتحاد

–     نجدد التذكير بأن أثيوبيا هي مقر الاتحاد الأفريقي، ودولة لها وزنها الاقتصادي والسياسي الكبير في القارة، وقد ربحت من خلال الخطوط الجوية الأثيوبية نقاط إضافية خلال أزمة كورونا، وإيصال المساعدات الطبية لعدد من البلدان أعطاها رمزية عالية، ومميزة، ومحاولة الذهاب لمجلس الأمن هو إعطاء أوراق إضافية لأديس أبابا، وتزيد من عزلة القاهرة على المستوى الإقليمي.

–     عمليًا لا يمكن لمجلس الأمن القيام بأي تحرك، أو حتى نقاش هذا الملف في الوقت الحالي لأسباب فنية نظرًا؛ لأن الملف مازال في طور المفاوضات، وأيضًا بسبب التوازنات السياسية، فأغلب الدول مصالحها مع أثيوبيا وليست مع، مصر  فالصين هي من أهم المستثمرين في بناء السد، وكذلك بريطانيا، وفرنسا، ولا مصلحة لهذه البلدان في تعطيل التشغيل، أو التأجيل.

–     طلب الدعم من ألمانيا في هذه الظروف لا معنى له أسبوع واحد  بعد اكتشاف عملية التخابر المصرية داخل ديوان رئيسة الحكومة ميركل،  والتمشي لسحب وإلغاء عديد من العقود والامتيازات، وفي ظل الهجمة الإعلامية الكبيرة على نظام عبد الفتاح السيسي، ولا يمكن لحكومة ميركل أن تدعم نظام عبد الفتاح السيسي  في الظروف الراهنة

–     سياسيًا طلب الدعم من فرنسا في ملف سد النهضة يعتبر انتحار سياسي، وتجديف ضد الحقوق  المصرية؛ لأن الفرنسيين مستثمرين، وداعمين رئيسيين لبناء السد،  ويعتبرون هذا المشروع أحد أهم حصونهم، وقلاعهم في أفريقيا مع التمدد الصيني، والماليزي، والتركي في المنطقة هذا فضلًا عن حساسية التدخل الفرنسي في الشؤون الأفريقية  لدى عديد بلدان القارة السمراء .

–     إن عدم إعلام المعنيين، والشركاء والأعضاء عبر القنوات الديبلوماسية قبل التسريب الإعلامي فيه إهانة للديبلوماسية المصرية، ورجال السياسة في هذا البلد العريق، وهو يعني غياب المؤسسات، و التمشي السياسي العقلاني في البلاد

–     إضافة لكل هذا، فإنه، وبالتوازي مع الإعلان عن الذهاب لمجلس الأمن يتحدث الإعلام المصري الموجه من السلطات عن خطط، لضربة عسكرية للسد، وهذا يدلل على غياب كامل للمنطق، والعقل السياسي، والاستراتيجي، فجميع العوامل الجيوستراتيجية ليست في صالح مصر، وميزان القوى أيضًا . 

الأمر الثاني الذي يثير الدهشة، والاستغراب من الموقف المصري هو محاولات صرف الأنظار، وتلهية الشعب

و التجييش الإعلامي من خلال التلويح بالتدخل في ليبيا ومواجهة …… تركيا عسكريًا – هكذا جهارًا نهارًا، وتحت دفع القوى المناهضة، لحرية الشعوب العربية  في المنطقة .

وبعيدًا عن العبث الإعلامي، ووهم القوة،  وعدم الجدية في التعاطي مع ملفات خطيرة، وكبرى، فإن مجرد الحديث عن رسم خطوط حمراء لليبيين، والإيهام بلعب دور عسكري وحاسم، فيه مغالطات كبيرة للشعب المصري، وتزيد من تعميق الخلافات العربية، وتدجين للمؤسسات القائمة.

فالجيش المصري اليوم لا يمكنه خوض معارك خارجية خاصة في مواجهة الأشقاء الليبيين، ولا أعتقد أنه تغيب عن صناع القرار في مصر الحقائق التالية:

–     لا يمكن تغيير عقيدة الجيش، والأولويات بين ليلة وضحاها، ومن الصعب إقناع الجندي المصري بأن أعداءه اليوم هم على بعد 600 كلم في الجفرة في  ليبيا، وأنهم سيواجهون أصحاب الأرض، والقضية و …. السلاح التركي هناك.

–     من البديهيات في التخطيط هو تحصين الجبهة الداخلية لمواجهة أي تطورات كبرى، ومعلوم أن التعاطي الأمني مع الأوضاع في مصر غيب بالكامل الأحزاب، والمجتمع المدني وقواه الفاعلة، وهذا لا يسمح للنظام بخوض أي معارك تحتاج لعقيدة قتالية مدعومة بتوجه وطني واضح.

–     إن مصر تعيش وضعًا اقتصاديًا في غاية الصعوبة، وجميع المؤشرات سلبية، مما دفعها للاقتراض بشروط البنك الدولي المجحفة، والتي سترهن البلاد، وقرارها السيادي لعشرات السنين.

–     لازالت البلاد ترزح تحت وطأة انتشار وباء كورونا، وتقارير منظمة الصحة العالمية، وما روج في الإعلام الأمريكي، والغربي، وحتى شركاء النظام وداعميه من العرب حول تعاطي السلطات مع الوباء تجعل الأولوية القصوى هي لإرجاع ثقة المواطن في مسؤوليه، وليس لخوض حروب خارجية، أو مهمات مدفوعة الأجر تحسب على الجيش المصري.

–     سيكون انتحار سياسي، ومحرقة عسكرية، لو أقدم النظام المصري بالزج بشكل علني، ومباشر بالجيش في ليبيا:

أولًا بسبب تعريض المصالح المصرية في غرب ليبيا للخطر، وثانيًا بسبب فتح جبهة عدائية مع دولة عربية ليست عدو لمصر، وشعبها.

–     إنه يكاد لا يمر يوم دون أن تعلن السلطات المصرية  عن قيام الجيش بعمليات في سيناء،  وتصفية “إرهابيين” ورغم الوعود المتكررة، فإن السلطات العسكرية لازالت بين كرٍّ وفرٍّ، ولم تقدر على حسم المعارك مع قبائل، ومجموعات تنشط  داخل الأراضي المصرية.

–     و بالنظر لتعقيدات الملف الليبي، وحرص الفاعلين الليبيين على إيجاد حلول داخلية سيكون من شبه المستحيل على جيش نظامي أجنبي أن يقاتل الليبيين على أرضهم، ويحقق مكاسب، خاصة في ظل وجود مصالح دولية متعددة وفاعلين كبار مثل الروس، والأتراك، والأمريكان.

إنه أصبح يستوجب على العقلاء في مصر التسريع بإيجاد مسار سياسي ينقذ البلاد من الانهيار، والتبعية لدول صغيرة وقوى وهمية تحمل أجندات مدمرة للثروة، والسيادة والأوطان.

يجب على صانع القرار في مصر قراءة الواقع، والتوازنات، والمتغيرات، وأن يدركوا بأن ما يقومون به في حلايب مع السودان غير ممكن في ليبيا، وبأن الأولوية القصوى هي لإرجاع كرامة المواطن المصري، وحفظ حقوقه في الداخل، والخارج، وتوفير الغذاء، والدواء بأيادي مصرية، والتركيز على التصنيع، والقيمة المضافة، والسيادة على الأرض، والقرار  في بلد عربي  غني بالثروات، ويعيش فيه أكثر من 100 مليون شخص حاليًا أكثر من نصفهم يعيشون الفقر، والضياع، وغياب الأفق .

أملنا كبير في مصر، وشعبها، وعقلائها، وحكمائها

وإنّ غدًا لناظره قريب .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى