ثقافة وأدب

15 يوليو 1904.. ذكرى وفاة أنطون تشيخوف

محمود القاعود

كاتب واديب مصري.
عرض مقالات الكاتب

“إيش ستيرب” Ich ist trap جملة أخيرة لفظها الروائي الروسي الكبير أنطون تشيخوف قبل أن يغمض عينيه عن العالم للمرة الأخيرة، وكان ذلك في 15 يوليو 1904م.
ليست الجملة بالروسية إنما بالألمانية تعلمها تشيخوف قبيل وصوله إلى مدينة بادنويللر في محاولته الوحيدة للعلاج مِن مرض السل الذي كان يفتك بصدره منذ سن المراهقة، وحين دخل الطبيب إلى غرفته وقد استدعته الممرضة على وجه السرعة لعدم قدرة تشيخوف على التنفس، رفض الأخير وضع الأوكسچين على أنفه، واكتفى بكلمتين فقط ودع بهما هذا العالم الذي بخل عليه كثيراً منذ طفولته التي غابت عنها السعادة، فرحل عن 44 عاماً و6 مسرحيات و 9 مشاهد مسرحية مِن فصلٍ واحد وروايتين و240 قصة قصيرة.

مات المسرحي والروائي والقاص تشيخوف عام 1904م ورثاه النقاد في روسيا والعالم كواحد من عظماء البلاد وأيضاً رثى الفقراء والمحتاجون تشيخوف الطبيب الذي كان يُعالج مرضاه مجاناً.
وُلِد أنطون تشيخوف في منطقة مرفأ تاغانروغ الصغيرة في روسيا لوالدين أميين، عاش طفولة بائسة في طبقة اجتماعية وصفها فيما بعد في مؤلفاته، وكان قاسيا في تصويره لهذا المجتمع على أنه يضم أناساً جشعين يسعون وراء المال ضاربين عرض الحائط بكل المقاييس والاعتبارات.
وتعتبر أولى كتاباته بعنوان “فتافيت الخبز” أرسلها ضمن مراسلات خاصة مع شقيقه ألكسندر حين بقى مع والده للعمل في الدكان الصغير الذي تمتلكه العائلة وقد سافرت والدته مع أشقائه إلى موسكو. هذه السنوات في ظل العمل الليلي في دكان الوالد جعلته يتأمل في الحياة ويراقب المارة ويستمع إلى أخبارهم “محاولا أن ينتزع النعاس” من عينيه.
عرف أنطون المراهق حياة صعبة في ظل والد عنيف يقسو عليه ويضربه. وسرعان ما انتهت هذه المرحلة بعد أن انتقل إلى كلية الطب في موسكو عام 1879م بعد أن لاحظ الولدان نبوغه وذكاءه الحادين. لكنه استمر في العمل لمساعدة العائلة بالكتابة تحت أسماء مستعارة في مجلات هزلية وساخرة، في سانت بطرسبرغ.
تخرج طبيباً من دون أن يعطي الموضوع أهمية قصوى وكأنه بالطب يؤمِّن مصاريف العائلة وبقيت اهتماماته الأدبية والمسرحية لها الأولوية في حياته. فكتب مع بداية تعاونه مع الكسي سوفورين في الصحيفة اليومية “الوقت الجديد” أولى قصصه القصيرة، فكانت البداية مع “الحزن” و”الساحرة”.

غير أن عمله المسرحي الأول “إيڤانوڤ” لم يلق التجاوب الكبير من الصحافة، فغادر عام 1890م إلى جزيرة سخالين عن طريق سيبيريا حيث راح يعالج المرضى والمساجين الذين يعيشون ظروفاً قاسية، وهناك كتب “التراجيدي رغما عنه” و”عرس”.
سافر بعدها إلى ايطاليا وڤيينا وفرنسا وكانت أولى رحلاته إلى خارج البلاد حيث كتب ونشر “المبارزة”.
عاش تشيخوف طوال حياته بائساً أو متعاطفاً مع بؤس الآخرين.
في العام 1892م اشترى منزلاً ريفياً وحقلاً أخضر في “ميليخوفو” حيث راح يكتب من ناحية ويمارس مهنته كطبيب ويعالج الفلاحين الفقراء والبائسين مِن حوله مجاناً.
وقد أكد تشيخوف أكثر من مرة لأصدقائه أنها الحياة المثالية التي يمكن أن يعيشها على الأرض، أي بالكتابة وبمساعدة الآخرين.
كانت روسيا في تلك المرحلة في حال من الفقر وقد ضربت المجاعة الأرياف الروسية والمناطق النائية. في كل هذا، كان تشيخوف أيضاً يعيش المرض، فقد كانت إصابته بالسل تفاقمت، لكنه تعايش مع المرض.
عام 1895م التقى ليو تولستوي الذي كان يومها نجم البلاد وأديبها المكرس. وفي تلك المرحلة كتب “سخالين” و”النورس” و”منزل مزانين”، ورواية “الفلاحون” و”لوفيتش”. غير أن بعض الأعمال كان لها وقعها فرسمت عالمه: “السيدة صاحبة الكلب”، وأيضاً مسرحية “العم فانيا” وبعدها مسرحية “الشقيقات الثلاث”، و”بستان الكرز”.. هذه الأعمال جعلت تشيخوف يكسر القاعدة ويتخطى المفهوم الروسي لنجومية الكتاب. فحين كانت الرواية هي سيدة الموقف وروادها مثل تولستوي، دفع تشيخوف بالقصة القصيرة إلى مكان رفيع المستوى وجعل العالم بأسره يتفاعل مع قصصه وشخصياته. وقد تمسك تشيخوف بالبساطة والصدق في أسلوبه القصصي وفي شخصياته وكان يعترف ويقول بأنه أراد دائماً أن يُصوِّر الحياة اليومية التافهة لعل القاريء يدرك معه حقيقة اقترابه مِن الهاوية بسبب حياته “المغفلة”.
كتب في مذكراته:كان هدفي دوماً من الكتابة أن أقول للناس بأن يتأملوا ملياً في حياتهم التافهة والمملة وحينما يدركون حقيقة الأمر سيحاولون خلق حياة جديدة وأفضل لهم، إذ يرتقي الإنسان حين يلمس بيده حقيقة الحياة التافهة التي يعيشها..”.

وفي أعمال المسرحية، لم يخرج تشيخوف من إطار الريف الروسي والمناطق النائية حيث يعيش أبطاله تماما كما عاش هو، ذاك الريف البائس حيث لا تتعدى أهم الأحداث مرور ساعي البريد أوموظف الضرائب أو الأعراس أو المآتم أو الاحتفالات الموسمية التي تجعل السكان يتلاقون، يتحابون، أو يختلفون ثم لا يلبث كل واحد أن يعود إلى قوقعته ووحدته.

الشقيقات الثلاث:
من أجمل أعماله المسرحية “الشقيقات الثلاث” يحكي فيها كيفية غرق الشقيقات الريفيات في عالم يتحلل أمام أنظارهن وحين تسقط كل واحدة من الثلاث في واقع يفشل في تحقيق أحلامها، يبدأن بالبحث عن سبب لوجودهن وكأنهن يطرحن السؤال التالي: “ما جدوى الحياة؟” أو “ما معنى كل ما يحدث من حولنا؟” ويسقط المشاهد تماماً كما البطلات على الخشبة في عبثية خانقة ظاهرها أحداث بسيطة من الحياة اليومية وباطنها عميق مثقل بأسئلة تبقى بلا اجابات وتضفي غموضاً وسحراً وشاعرية مضمرة لا مثيل لها. وسرعان ما يكتشف المشاهد أنه لم يعد مشاهداً وحسب بل وكأنه انتقل إلى الخشبة، فالمشكلة لم تعد مشكلة الشقيقات الثلاث والسؤال لم يعد يعنينهن وحدهن، ومغامرتهن صارت مغامرة الجميع واليأس صار يأس الجميع والضياع صار مشتركا والحلول مؤقتة والمتع آنية.
“الفودكا، البوكر.. والنساء يدخلن في متاهة الخيانة، والرجال يكذبون ويتصرفون كأنهم لا يلاحظون الخيانة ولا يسمعون شيئاً وكل هذا يرخي بثقله على الأولاد ويطفئ الشعلة المقدسة داخلهم فيصبحون مجرد جثث أكثر تعاسة من الآباء والأمهات…”.

بستان الكرز
كذلك صوّر في “بستان الكرز” نهاية عائلة في نهاية مسكنها المرهون للفأس وحاجة الحطّابين وصور في “العم فانيا” ملل الحياة الرتيبة في الريف وحاول أن يجعل بعض الشخصيات الساعية فيها إلى المثال الإيجابي تتواجه مع شخصيات هزمتها أحلامها الخائبة. وقد يصل القارئ أو المشاهد معه إلى حقيقة رهيبة وهو يلخصها في نهاية مسرحية “النورس” بالقول: “الطقس بارد، بارد، بارد. والمكان صحراء، صحراء، صحراء”. لكن تشيخوف لا يترك أبطاله وشخصياته في ضياع كامل، فهو يفتح لهم بعض النوافذ وهو يشير إلى مكامن مستقبل ممكن أو سعادة ممكنة، ولكن حتماً هو لم يعتبر ولا في أي عمل من أعماله أن السعادة في الحاضر الراهن، بل دوماً في حنين إلى الماضي أو في توق إلى مستقبل ممكن. وللحاضر ولسطوته لا يجد تشيخوف لأبطاله سوى أن يسعوا إلى قتله بالروتين والحياة البسيطة والحركات اليومية المملّة.
كل هذا أوحاه تشيخوف وجسّده في أدبه وتحديداً في قصصه ومسرحياته بالإيجاز وهو اعتبر أن “في الإيجاز موهبة”، فسرعان ما صار في بلاده “نجم” القصة القصيرة ومبدعها، وروسيا التي كانت تسهر وتنام على مئات الصفحات من روايات مبدعيها الكتاب والروائيين مثل تولستوي ودستويفسكي وجوجول أصابتها لسعات تشيخوف المحفّزة على التحرك والنهوض والمضي في السعي نحو عالم أفضل ومستقبل أجمل.

قصص تشيخوف:

قصص تشيخوف القصيرة حرّكت وتفاعلت وتركت أثرها في نفوس مواطنيه وفي أحلامهم اليقظة. كذلك وصل أثر أعماله خارج بلاده وليس بجديد القول بأهمية أثر تشيخوف وأعماله على العالم العربي برمّته أيضاً. غير أن أعماله المسرحية لم تلقَ النجاح في بداياتها كما حصل مع قصصه القصيرة لما تمتع به هذا المسرح.
ففي مسرح تشيخوف نفتقد البطل بالمعنى التقليدي للكلمة. فما من بطل جيد ولا آخر شرير ومرفوض. هناك فقط شخصيات تعيش يومياتها وتتخبط في واقعها.
وغالباً ما تكتشف شخصيات تشيخوف مأساة عيشها متأخرا، مع اقتراب موتها أو تماماً مع حصول أحداث مأساوية لا رجوع عنها أو بكل بساطة مع فشلها. وكل هذا يتناقض مع المسرح.

أما أبرز قصص تشيخوف القصيرة ونذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر: “الممثل الهزلي”، “المرآة المشوّهة”، “في أرض غريبة”، “الزائر”، “الكاتب”، “نهاية ممثل”، “بولينكا”، “ولوديا”، “السيدة صاحبة الكلب”، “بعد المسرح”، “قصة غريب”، “مملكة النساء”، “كمان روتسشيلد”، “الخوف” وغيرها… فإن تشيخوف يبدو سوداوياً ومحباً للنكتة في آن، فهو ساخر من الدرجة الأولى ولكي يكتب فهو ليس بحاجة لأن يخترع شيئاً فكل شيء جاهز وواضح أمامه، وما عليه سوى المراقبة والكتابة، وهو اشتهر بقوله: “لكل وجود إنساني أو لكل شخصية سرّها الغامض وما على الكاتب إلاّ النظر في كيفية ولوج هذا السر”.
والأمر يبدو أكثر تعقيداً مع الشخصيات الأنثوية في أعماله حيث أن المرأة تشكل لغزاً صعباً دوماً مع أنه كان يصفها بأجمل الأوصاف: “ليس من قصة ناجحة أو جميلة إذا ما وجدت فيها النساء، فهي تبدو مثل آلة من دون محرّك”.
وفي قصص تشيخوف كما في مسرحه تلتقي نساء من كل الفئات ومن كل الأعمار ومن كل المجتمعات، لكنهن دائماً وعلى رغم جمالهن أو شبابهن ضعيفات، بائسات وأحياناً شريرات وهو مِن موقعه ككاتب، يحاول فهمهن وتحليل تصرفاتهن ومواقفهن التي تحمل دائماً شيئاً مِن الغرابة. وفي حياته، لم يعرف تشيخوف الحب الكبير والشغف بالمرأة، فكان يتقن فن الهروب حين يجد نفسه ضعيفاً أمام إحداهنّ: “بعيداً عن شهرتي في الكتابة، تجدون حياتي مملّة وحزينة لكني عرفت كيف أجد السعادة في أمكنة محايدة، منها الكتابة”.

كما ظل هارباً من الارتباط والزواج حتى التقى الممثلة “أولغا كنيبر” وكانت بصدد قراءة نص له مع فريق مسرحي. أُغرم بها على الفور وتزوجها قبيل وفاته بثلاثة أعوام.
كانت كثيرة الأسفار لتقديم أعمالها المسرحية، كذلك تشيخوف وهو لخّص علاقتهما بالآتي: “كم أحب هذا الواقع بأن تكون لي امرأة تصل إلى سمائي ثم لا تلبث أن تغادر وتغيب تماماً مثل القمر في تحوّلاته، وحين يكون القمر مكتملاً تمرّ علاقة الحب هذه بأجمل لحظاتها”.

تشيخوف الطبيب:

أما عن ممارسته لمهنة الطب والكتابة معاً فكان يصف الأمر بالآتي: “مهنتي كطبيب هي التزام مني كالزواج تماماً والكتابة هي العشيقة التي ألجأ إليها حين تدعو الحاجة إلى ذلك”. وهذا الإحساس القوي بالحرية لدى تشيخوف ميّزه وهو يتحول إلى إنسان حاد ومباشر في الهجوم حين كانت حريّته تُنتَهك مِن قبل الآخرين، تماماً كما أراد دائماً أن تنتهي قصصه وأعماله المسرحية مشوشة ومفتوحة على المجهول، وغالباً ما أتت الجمل الأخيرة في أعماله تحمل الشكّ وأيضاً الخيال والحلم والأمل. فتشيخوف في أعماله لا يجرح لكنه يشد على ذراعك بقبضة يده ويجعلك تفكّر وتعيد النظر بالامتلاء الإنساني العميق كما يجعلك تمضي في رحلة على دروب عزلة الإنسان اللامتناهية، وحين يرصد الحقيقة، فهي صارخة وفاعلة وحين يصمت والصمت كثير في مسرحه فهو يعطي المتفرّج فرصة لإطلاق العنان لمخيلته ولأحلامه ولإرادته.
أنطون تشيخوف الذي ولد وعاش في روسيا وكتب بلغته الأم أجمل مؤلفاته أنهى كل كلامه بلغة لا يتقنها ولا يفهمها، فاختار بالألمانية كلمتيّ “إيش ستيرب” بالألمانية وتعني: أنا في ورطة!
ليودّع العالم وكأن في ذلك علامة لاواعية منه على تشابه الصراخ هنا وهناك أمام الألم الإنساني وأمام حقيقة الموت التي أدركها ربما بعد ومضة على تلفّظه هاتين الكلمتين الغريبتين عنه، فاتّحد في لحظة المعلوم بالمجهول والملموس بالمبهم والجليّ بالغامض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى