في تمام الساعة الواحدة ليلاً وبينما كنت أنوي الخلود إلى الفراش بعد أن فقدت الأمل بعودة التيار الكهربائي الذي مضى على انقطاعه أربع ساعات متواصلة ، وأخذت إضاءة ” الليدّات” الصينية التي تعمل على البطارية بالخفوت حتى باتت إنارتها ضعيفة إلى درجة مزعجة ومؤذية للعين أكثر من العتمة.
في تلك الليلة كان الصمت مخيّماً على بلدة جديدة عرطوز القريبة من دمشق وكنت أستطيع رؤية جبل قاسيون من الشرفة بأضواءه المتناثرة بين بقع من الظلام الحالك على سفحه المطل على دمشق والذي يعرف بمنطقة المهاجرين حيث يقيم رأس النظام في قصره القديم ليشعر ببعض الأمان وسط الأحياء السكنية التي حولها لدروع بشرية تحميه من أية محاولة لإستهدافه من الجو ـ أو هذا ما كنّا نعتقده ـ حتى بات يطلق عليه تهكماً بمختار المهاجرين .
فجأة بدأت زخّات الرصاص تكسر صمت تلك الليلة وبشكل متواصل ومن عدة جهات، بعضها قريب جداً وبعضها بعيد فقفزت من الفراش باتجاه الشرفة لأستطلع الأمر رغم تحذيرات الأولاد وأمهم لي من خطورة الخروج إلى الشرفة ، ولكنني طمأنتهم بأنها ستكون مجرد إطلالة خاطفة لأعرف ما يجري، وفعلاً خرجت إلى الشرفة وسط ضجيج الرصاص الذي استقرّ في البعيد أكثر ومن مختلف الأسلحة التي تعودنا على تمييزها، كانت السماء المعتمة قد اشتعلت بالرصاص الخطاط على طول المسافة الممتدة بين الجديدة ودمشق والتي تصل إلى ثمانية عشر كيلو متراً .
كانت مصادر النيران عديدة جداً كشفت لي عن ضخامة انتشار القوات العسكرية والميليشيات حول العاصمة ، واستمرت حبال النار تملأ السماء على مدى أكثر من ساعة تقريباً دون انقطاع ، كان خلالها قد التحق بي جميع من في المنزل بعد أن اطمئنّوا مني بأنّها نوع من الإحتفال لشيء نجهله ولكنّه أبداً لم يكن يشبه الاشتباكات.
كنّا نلاحظ عشوائية اتجاهات الطلقات الخطاطة مع اختلاف أحجامها وحتى ألوانها، وبدت لنا احتفالية من النوع الثقيل ولكن لا ندري حقيقتها، مع استمرار انقطاع التيار الكهربائي لأكثر من خمس ساعات متواصلة ، ونحن منقطعون عن العالم بلا نت ولا تلفاز، وفجأة جائني اتصال من أحد الأصدقاء ليخبرني بأن الجيش التركي قام بانقلاب واستولى على الحكم ، وأن الرئيس التركي غادر على متن طائرة إلى وجهة مجهولة، ويرجّح إلى دولة أوربية.
في الثانية والنصف تقريباً من بعد منصف الليل عاد التيار الكهربائي وبدأت أقلب بين القنوات التي كانت تملأها العواجل عن الإنقلاب وسط تضارب شديد بالأنباء، وكنت أنظر في العيون من حولي وقد طفا عليها مسحة من الإنكسار، مع مايشاهدونه على الشاشة وما يسمعونه من أصوات الرصاص التي لم تنقطع ابتهاجاً وكأنّهم يعلنون فرحة النصر، ولكن مع مرور الوقت أخذت زخّات الرصاص تتقطّع بين الفينة والفينة مع ورود عواجل جديدة تحمل في طياتها احتمال فشل المحاولة الإنقلابية ، ثم امتلأت الشاشات بالبث المباشروهي تنقل نزول الآلاف من المواطنين الأتراك إلى الشوارع للتصدي للإنقلابيين بعد النداء الشهير الذي وجهه الرئيس رجب طيب أردوغان للشعب من هاتفه المحمول بواسطة إحدى القنوات المحليّة على الهواء مباشرة، وطلب منهم حماية الديمقراطية من هؤلاء المغامرين العملاء.
في تمام الرابعة من فجر يوم 15/07 سكتت أصوات الأسلحة في الخارج تماماً وساد الصمت من جديد ولكنّه كان صمتاً مختلفاً، يشبه الهزيمة والخيبة ، مع ورود الأنباء بالقبض على قادة الإنقلاب من الضباط ومقتل أحدهم واسقاط مروحية عسكرية من طراز ” سيكورسي” كانت تحت سيطرة الانقلابيين.
طوال تلك الساعات كنت على يقين بأن الانقلاب سيفشل وعندما سألني ابني عن سبب ذلك ، أجبته بأن عهد الحكم العسكري في تركيا قد ولّى إلى غير رجعة، والشعوب التي ذاقت طعم الديمقراطية لن تتخلّى عنها بسهولة، وهذه الفرحة العارمة التي اجتاحت كلّ حواجز النظام وقطعاته لن تدوم، وستطلع شمس الغد لتكشف انكسارهم وخيبة أملهم، ولكنّي سعيد جداً بما فعلوه إذ أنّهم يفضحون غباء النظام الرهيب وعدم فهمه لسيرورة التاريخ، ويكشفون للمرة المليون بأنّهم مجرّد عصابة مافيوية لا تفقه شيئاً في السياسة ولا في حركة التاريخ وبأنّه لا يعود إلى الوراء.