لا تطع من في الأرض واسجد واقترب من الذي في السماء ، دعوة من الله لكل مسلم ، لمواجهة طغيان الطغاة ومكر الماكرين وعدوان الظالمين ، وعدم الانصياع لهم مهما كانت قوة العدو وعدده ؛ لأن الذي تسجد له وتقترب منه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، وله صفات الكمال والعظمة ، وهو يتولى الصالحين ، فهذه دعوة ربانية للإستعانة بالدعاء والسجود ، وتحقيق العبودية لله ، وبها ينال العبد المعية الخاصة من رب العالمين ، وإذا اقترب منه الطغاة والظلمة بعد اقترابه من ربه ، ليمنعوه من العبودية له ؛ فإن مصيرهم عاجلا أو آجلا سيكون كمصير أبي جهل -عليه لعنة الله – لما أراد منع نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- من الصلاة ، وقال : “لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه ، فبلغ النبي -صلى عليه وآله وسلم- فقال : (لو فعله لأخذته الملائكة ) . رواه البخاري في صحيحه ، أي : لأخذت كل عضو منه ولمزقته كل ممزق ، قبل الاقتراب منه ، فالمتأمل في علاقة العبد بربه يجد عجبا ، يجد أن الذل لله بالاقتراب منه هي العزة الحقيقية ، وذلك لأن ذل العبد مقترن بالقرب من ربه ، وأنه أضيف لعبوديته ، وأكبر شاهد على شرف منزلته قوله : (كلا لا تطعه واسجد واقترب) “العلق” ، وقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كما في صحيح مسلم :” أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء” . فالاقتراب من الله ، سبيل السيادة والرفعة ، وهو يورث العبد عزة في قلبه ، ويصير سيدا بين الناس ، وإن علا بعضهم على بعض ، فهذه هي منزلة العبودية التي نمت في قلبه وتفرعت على جوارحه . فالقرب من الله من أعظم منازل العزة والشرف في الدنيا والآخرة . ومن معتقدات أهل السنة والجماعة ، أن الله سبحانه وتعالى فوق سماواته ، مستو على عرشه ، بائن من مخلوقاته ، وهو مع ذلك مع عباده أينما كانوا ، يعلم ما هم عاملون ، واستواؤه على عرشه ثابت بالكتاب والسنة والإجماع ، ومع الإيمان بهذا العلو وتلك المباينة من الخلق ، إلا أن الله سبحانه قريب من عباده قربا يليق بعظمته وجلاله ، وله نزول إلى السماء الدنيا كل ليلة في الثلث الأخير منها ، وهذه الأفعال تتعلق بمشيئته وإرادته واختياره ، فإن شاء فعلها ، وإن لم يشأ لم يفعلها ، ونزول الله إلى سماء الدنيا ، لا يستلزم خلو العرش منه ، ولا يقال أيضا : إن قرب الله يتناقض مع علو الله على عرشه ، ولشيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الصدد ، كلام نفيس يكتب بماء العيون قبل ماء الذهب ، يقول فيه -رحمه الله- : “القرب فذكره تارة بصيغة المفرد ، كقوله : (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب … ) “البقرة” . وفي الحديث : “اربعوا على أنفسكم ” إلى أن قال : “إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته” (متفق عليه واللفظ للإمام مسلم) . وتارة بصيغة الجمع كقوله : (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) “ق” وهذا مثل قوله : (نتلوا عليك) و (نقص عليك) و (علينا جمعه وقرآنه) و (علينا بيانه) ، فالقراءة هنا حين يسمعه من جبريل ، والبيان هنا بيانه لمن يبلغه القرآن … فإنه سبحانه وتعالى هو وملائكته : يعلمون ما توسوس به نفس العبد ، من حسنة وسيئة ، والهم في النفس قبل العمل ، فقوله (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) ، هو قرب ذوات الملائكة ، وقرب علم الله ؛ فذاتهم أقرب إلى قلب العبد من حبل الوريد ؛ فيجوز أن يكون بعضهم أقرب إلى بعضه من بعض ؛ ولهذا قال في تمام الآية : (إذ يتلقى المتلقيان) ، فقوله ( إذ ) ظرف ، فأخبر أنهم أقرب إليه من حبل الوريد حين يتلقى المتلقيان ما يقول ، فهذا كله خبر عن الملائكة . وقوله : (فإني قريب) ، “وهو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته” ، هذا إنما جاء في الدعاء ، لم يذكر أنه قريب من العباد في كل حال ، وإنما ذكر ذلك في بعض الأحوال . كما في الحديث “عند مسلم”: “أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد” ونحو ذلك . وقوله : “من تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعا ، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة” (متفق عليه واللفظ للإمام البخاري) . فقرب الشيء من الشيء مستلزم لقرب الآخر منه ؛ لكن قد يكون قرب الثاني هو اللازم من قرب الأول ، ويكون منه أيضا قرب نفسه . فالأول : كمن تقرب إلى مكة ، أو حائط الكعبة ، فكلما قرب منه قرب الآخر منه من غير أن يكون منه فعل . والثاني : كقرب الإنسان إلى من يتقرب هو إليه ، كما تقدم في هذا الأثر الإلهي . فتقرب العبد إلى الله ، وتقريبه له نطقت نصوص متعددة ، مثل قوله : (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب) “الإسراء” ونحو ذلك ، فهذا قرب الرب نفسه إلى عبيده ، وهو مثل نزوله إلى سماء الدنيا . وفي الحديث الصحيح : “إن الله يدنو عشية عرفة ، ويباهي الملائكة بأهل عرفة” (رواه مسلم) . فهذا القرب كله خاص في بعض الأحوال دون بعض ، وليس في الكتاب والسنة – قط – قرب ذاته من جميع المخلوقات في كل حال ؛ فعلم بذلك بطلان قول الحلولية ؛ فإنهم عمدوا إلى الخاص المقيد فجعلوه عاما مطلقا ؛ كما جعل إخوانهم الاتحادية ذلك في مثل قوله : “كنت سمعه” وقوله : “فيأتيهم في صورة غير صورته” ، وإن الله تعالى قال على لسان نبيه : “سمع الله لمن حمده” ، وكل هذه النصوص حجة عليهم . فإذا تبين ذلك ؛ فالداعي والساجد يوجه روحه إلى الله تعالى ؛ والروح لها عروج يناسبها . فتقرب إلى الله بلا ريب بحسب تخلصها من الشوائب ، فيكون الله عز وجل منها قريبا قربا يلزم من تقربها ؛ ويكون منه قرب آخر ، كقربه عشية عرفة ، وفي جوف الليل ، وإلى من تقرب منه شبرًا تقرب منه ذراعا ، والنَّاس في آخر الليل يكون في قلوبهم من التوجه ، والتقرب ، والرقة ما لا يوجد في غير ذلك الوقت . وهذا مناسب لنزوله إلى سماء الدنيا ، وقوله : هل من داعٍ ؟ هل من سائل ؟ هل من تائب ؟” متفق عليه . ثم إن هذا النزول : هل هو كدنوه عشية عرفة ؟ لا يحصل لغير الحاج في سائر البلاد – إذ ليس بها وقوف مشروع ، ولا مباهاة الملائكة ، وكما أن تفتيح أبواب الجنة ، وتغليق أبواب النار ، وتصفيد الشياطين إذا دخل شهر رمضان : إنما هو للمسلمين الذين يصومون رمضان ؛ لا الكفار الذين لا يرون له حرمة ، وكذلك اطلاعه يوم بدر ، وقوله لهم : “اعملوا ما شئتم” كان مختصا بأولئك – أم هو عام ؟ فيه كلام ليس هذا موضعه . والكلام في هذا القرب : من جنس الكلام في نزوله كل ليلة ، ودنوه عشية عرفة ، وتكليمه لموسى من الشجرة ، وقوله : (أن بورك من في النار ومن حولها) “النمل” … والصواب : قول السلف : أنه ينزل ولا يخلو منه العرش . وروح العبد في بدنه لا تزال ليلا ونهارا إلى أن تموت ، ووقت النوم تعرج ، وقد تسجد تحت العرش ، وهي لم تفارق جسده . وكذلك أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد ، وروحه في بدنه ، وأحكام الأرواح مخالف لأحكام الأبدان ، فكيف بالملائكة ؟ ! فكيف برب العالمين ؟ ! … ومن الناس من غلط فظن أن قربه من جنس حركة بدن الإنسان : إذا مال إلى جهة انصرف عن الأخرى ، وهو يجد عمل روحه يخالف عمل بدنه ؛ فيجد نفسه تقرب من نفوس كثيرين من الناس ؛ من غير أن ينصرف قربها إلى هذا عن قربها إلى هذا . وبالجملة فقرب الرب من قلوب المؤمنين ، وقرب قلوبهم منه : أمر معروف لا يجهل ؛ فإن القلوب تصعد إليه على قدر ما فيها من الإيمان والمعرفة ، والذكر والخشية والتوكل . وهذا متفق عليه بين الناس كلهم ؛ بخلاف القرب الذي قبله”. (الأسماء والصفات)
