مقالات

بلدياتى د. مصطفى محمود 1 من 2

أ.د. إبراهيم عوض

كاتب ومفكر مصري.
عرض مقالات الكاتب

حين اتصل بى الأستاذ فيصل أكرم الكاتب بجريدة “الجزيرة” السعودية للمشاركة بكلمة فى الملف الخاص الذى كانت الجريدة المذكورة تنوى أن تخصصه للدكتور مصطفى محمود، شفاه الله وأطال عمره وأسعده وهنّاه، والذى صدر فعلا مع عدد الاثنين الرابع من رجب 1429هـ، الموافق للسابع من يوليه 2008م، لم أستطع أن أمنع نفسى من الحزن بسبب طبيعتنا غير المتحضرة القائمة على إهمال العلماء والمفكرين وكل من ينفعنا من كبار الرجال، وإن كنت لا أبالى أن يحدث هذا لى عندما يحين دورى، ولسوف يحدث بكل يقين، مع فرق هام هو أننى لم أكن فى يوم من الأيام مشهورا شهرة الدكتور مصطفى محمود ولا غير الدكتور مصطفى محمود. إلا أننى قد دعوت الله منذ وقت بعيد أن يصرف عنى الرغبة فى الشهرة أو انتظار المكافأة على ما أفعل من أحد من البشر، وهو دعاء أحس أن الله تعالى جَدُّه قد استجابه لى. وهذه منة عظيمة لولا هى لكانت حياة الإنسان مرة مرارة لا تطاق. فالحمد لله. إلا أن لموقفى من حالة الدكتور مصطفى محمود وضعا آخر. ولقد فكرت فى طبيعة الكلمة التى أُسْهِم بها فى الملف المذكور، واحترت لمدة يومين، وأنا لا أدرى ماذا أصنع… إلى أن انفرجت الحيرة بُعَيْد مغرب الجمعة الثامن من جمادى الآخرة لعام 1429هـ الموافق للثانى عشر من يونيه من عام 2008م، إذ برقت خاطرة فى ذهنى وأنا أتوضأ للصلاة مؤداها أن أنظر فى بعض أحداث حياة كاتبنا اللافتة للنظر ثم أحاول استلهام الدروس منها، فوجدت نفسى بعد الانتهاء من الفريضة أتجه إلى الكاتوب وأجلس إليه وأبدأ الرقن، فكانت تلك الكلمة التى انتهيت منها فى شوط واحد تقريبا لم أقطعه إلا لأداء بعض الأمور البسيطة.
والآن إلى بعض ما شدنى فى حياة الدكتور مصطفى محمود: لقد لفتتنى بقوة فى حياة الرجل ذلك التبرع الذى قدمه له أحد رجال الأعمال فى صورة “صَكٍّ على بَيَاض” كما يقولون كى ينفق منه على إعداد حلقات برنامجه الشهير: “العلم والإيمان”. وكان التلفاز المصرى قد قرر لكل حلقة مبلغ ثلاثين جنيها لا غير، فى الوقت الذى تتكلف فيه الحلقة أضعاف أضعاف ذلك المبلغ، مما وقف الدكتور مصطفى أمامه حائرا يائسا لا يدرى ماذا يصنع، فجاءت مبادرة رجل الأعمال الشهم الكريم لتنقذ الموقف. والحق أن ذلك الشخص الذى تحمل كل تلك النفقات الطائلة هو عندى أفضل ممن يبنى مسجدا مثلا، إذ إننا لا نشكو، والحمد لله، من قلة المساجد فى بلادنا، بل من انتشار الجهل وعدم اهتمام الأغنياء بنشر الثقافة والعمل على إيصالها لمن يحتاجها ولا يستطيع القيام بنفقاتها. وأنا أنتهز هذه الفرصة وأدعو أغنياء العرب والمسلمين إلى تبنى هذا المشروع، مشروع نشر الثقافة بين جماهير المسلمين المغيبة العقل، تاركا لهم الاستعانة بالمختصين كى يرسموا لهم الطرق الموصلة إلى هذا الهدف، وإن كان من الممكن أن أشير هنا إلى ما أكرره دائما من أن معظم أغنيائنا للأسف (وكذلك الحال مع الفقراء وأوساط الناس أيضا حتى لا يغضب أحد) لا يفكرون أبدا فى شراء كتاب ولا فى قراءته.
ورأيى أنهم إذا كانوا لا يقرأون ولا يريدون أن يقرأوا، وهذا بلا أدنى ريب عيب، وعيب قبيح، فلا ينبغى لهم أيدا أن يضيفوا إلى هذا العيب القبيح عيبا آخر، وهو عدم تشجيع من يريد القراءة ولكنه يعجز عن تدبير المال اللازم لها، وكذلك عدم تشجيع المؤلفين، الذين يستطيعون أن يكتبوا ويبدعوا ويخدموا أمتهم ودينهم وشعوبهم، إلا أنهم تنقصهم نفقات طبع الكتب التى يؤلفونها فيتوقفون يائسين مكروبين، على حين يستطيع الأغنياء أن يتقربوا إلى الله بشراء مثل هذه الكتب وإهدائها حسبةً إلى القارئين غير القادرين فينفعوا بذلك الطرفين: المؤلفين والقارئين على السواء، ويكسبوا بذلك أجرين لا أجرا واحدا، والله يضاعف لمن يشاء. وأنا من هذا المنبر أرفع يدى إلى السماء وأبتهل إلى الله أن يكرم ذلك الغنىّ الذى قدم الصك المفتوح إلى الدكتور مصطفى وقال له: أنفق على حلقاتك كل ما يحتاجه هذا المشروع، ولا تشغل بالك من هذه الناحية، وأدعوه سبحانه أن يكتب له الفردوس الأعلى. فهذا الرجل هو مثال للمسلم الغنى المتحضر الذى يفهم الإسلام فهما عميقا ولا يكتفى بذلك بل يطبق هذا الفهم أحسن تطبيق. اللهم آمين. أما التلفاز المصرى الذى أوقف إذاعة تلك الحلقات بعد أن نجحت نجاحا هائلا واستولت على ألباب المشاهدين، وكانوا يجنون منها شهدا علميا صافيا، فليس له عندى إلا أن أقول: أنت بهذه الطريقة لا ترحم ولا تترك رحمة ربنا تنزل. وهنيئا لك اهتمامك بالتفاهات والمضار الكثيرة التى أفسدت عقول الناس على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم، وإن لم تكن أنت وحدك الذى تصنع هذا، بل كل التلفازات العربية تفعل نفس الشىء. روحوا، منكم لله!
ومما له دلالته هنا أن د. مصطفى محمود قد جمع بين الخيرين: العبادة والعلم، إذ بنى من أموال أهل الخير والصلاح مسجدا، وألحق به أربعة مراصد ومتحفا تلقى فيه المحاضرات العلمية، ثم زاد فأنشأ مستشفى لمعالجة المرضى بأجر رمزى. ولو أنه أضاف إلى هذا تشجيع الكتاب المبتدئين الذين يُشَام منهم الخير، من خلال طبع ما يؤلفون من كتب ودراسات فى المجالات التى لا تجد من يقبل عليها من الباحثين والعلماء، لكان قد بلغ سماء عالية من سماوات الخير والنفع الجزيل، وبخاصة أن هذا العمل لو تم لاجتذب الانتباه وحذا حذوه كثير من الناس. ومع هذا فيحمد له ما فعل، وعلى غيره أن يواصل الطريق ويكمل المشروع. أقول هذا لأن للعلم والثقافة فى الإسلام مكانة لا تدانيها مكانة حتى لقد فضل الرسول الكريم العلماء على العابدين تفضيلا كبيرا، وأكد صلوات الله عليه أن سبيل العلم توصل صاحبها إلى الجنة. كذلك فالله لم يأمر رسوله بالاستزادة من شىء سوى العلم: “وقل: رب، زدنى علما”، وبيَّن عز شأنه أنه لا يمكن أن يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون. ومع هذا فإن المسلمين، فى هذه الفترة التاعسة البائسة من تاريخهم، يبغضون القراءة وأمور الفكر والثقافة بغضا شديدا كأنها سمٌّ ذُعَافٌ رغم أن الإسلام لا يصلح دون علم، إذ هو عنصر جوهرى فى بنائه لا يتم إلا به، فضلا عن أنه لا مستقبل للمسلمين إلا بالعلم والثقافة مهما ظن العوام والقاصرون منهم خلاف ذلك.
ومما لفت نظرى أيضا بقوة فى حياة الدكتور مصطفى محمود ما قرأته من‏ أن الرئيس السادات قد ‏طلبه‏ ذات يوم‏ ‏ليكلفه‏ ‏بمهام‏ ‏وزارة‏ ‏من‏ ‏الوزارات‏، بَيْدَ أنه ‏اعتذر‏ ‏قائلاً:‏ لقد‏ ‏فشلت‏ ‏في‏ ‏إدارة‏ ‏أصغر‏ ‏مؤسسة‏، ‏وهي‏ ‏مؤسسة الزواج‏، ‏فقد‏ ‏تزوجت وطلقت مرتين‏، فكيف أستطيع أن أنهض بأعباء وزارة من الوزارات؟ وفوق ذلك فإنى ‏أرفض‏ ممارسة ‏السلطة‏ ‏بكل‏ ‏أشكالها. ولأنى أنا مثله لا أحب الأعمال الإدارية فقد أحببت هذا الموقف منه حبا عظيما. وإنى لأستغرب تهافت كثير من المفكرين وأساتذة الجامعة على أن يتولَّوْا منصبا وزاريا، مع أن مكانة المفكر والمبدع والأستاذ الجامعى لا يعادلها، فى رأيى، أى منصب وزارى مهما علا شأنه، وبخاصة أن الوزراء فى بلادنا لا قيمة لهم فى كثير من الأحيان ولا يتمتعون بأية حرية، بل هم أقرب إلى الخدم، إذ عليهم أن يصدعوا بالأمر دون أن يتنفسوا. أو هكذا نفهم الأمر. وأنا دائما ما أقارن بين رجلين فى العصر العباسى: أحدهما هو الجاحظ الأديب المفكر المبدع العظيم الذى عُيِّنَ كاتبا فى ديوان الخليفة العباسى المأمون بن الرشيد فتردد عليه لمدة ثلاثة أيام، ثم لم يطق الاستمرار بعد ذلك فاستعفى فأُعْفِى. والثانى هو سهل بن هارون، الذى كان يتولى شؤون بيت الحكمة فى عهد المأمون أيضا، وهى مؤسسة تشبه هيئة الكتاب المصرية الآن. ومن كلام سهل فى هذا الموضوع أن الجاحظ لو كان بقى فى الديوان لأفل نجم الكتاب جميعا. ومع هذا فقد رفض الجاحظ الاستمرار فى ذلك العمل الإدارى لما فيه من تضييق على حريته. ورغم أن سهلا لم يكن شخصًا عاديًّا ولا كان الإداريون بوجه عام فى ذلك العصر أشخاصا عاديّين، بل كان كثير منهم من كبار المثقفين، كما كان عدد غير قليل منهم كتابا وأدباء يشار لهم بالبنان، فإن أعباء العمل الإدارى لم تترك له من الفراغ وروقان البال ما كان يتمتع به الجاحظ. وهذا سبب من الأسباب التى تكمن وراء الفرق الهائل بين ما خلّفه الجاحظ وما خلّفه سهل من الإبداعات كمًّا وكيفًا. وأنا أوثر الجاحظ على سهل إيثارا شديدا لهذا، ويكفينى أنه قد أمتع ويمتع وسيظل يمتع العقول الكبيرة والأذواق الراقية على مدى الدهور إلى يوم يبعثون، ويأخذ بأيديهم إلى الأعالى دائما أبدا. وهذا عندى أفضل وأعظم وأكرم من وزارات الدنيا جميعا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى