مقالات

أيا صوفيا أو كيف تكتب الشعوب تاريخها

عماد العبدلي

محام وناشط حقوقي وسياسي
عرض مقالات الكاتب

كان قرار مصطفى كمال أتاتورك بتحويل مسجد أيًا صوفيا إلى متحف ومزار قرارا إيديولوجيا وسياسيا بامتياز يندرج في سياق حركته التاريخية لتحويل تركيا إلى دولة علمانية منفصلة عن جذورها التاريخية والدينية قدر الإمكان.
وللتنويه ليس من غايات هذه المقالة الحكم على مصطفى كمال أتاتورك وإنما قراءة الديناميكيات الداخلية التي مكنت الشعب التركي من استعادة حقه في مسجد أيا صوفيا.
فالذي استعاد هذا المسجد هو الشعب التركي وليس حاكموه الحاليين وعلى رأسهم الرئيس رجب طيب اردوغان.
فهذا الأخير، وبالرغم من الإصرار على تحقيق هذا الحلم في كل مسيرته السياسية احترم توازنات وقوانين تركيا ولم يتدخل من قريب أو بعيد في المسار القضائي الطويل الذي أعاد أيًا صوفيا إلى مستحقيه وثبت من جديد وفاء الأتراك لوصية محمد الفاتح بهذا الشأن.
ربما يحسب لأردوغان ما بثه في قلوب الأتراك من أنفة سيادية قومية و من تعلق بإمكانية انجاز كل الأحلام على قاعدة الجهد و الإبداع و اتخاذ الأسباب المؤدية إلى ذلك في ظل تعدد عوامل التثبيط وتعقيدات المشهد التركي الذي تعرض باستمرار لعمليات خلخلة اقتصادية وسياسية و أمنية وحتى عسكرية مثل محاولة الانقلاب الفاشلة سنة 2016.
فالذي خاض هذه المعركة القانونية الطويلة والشاقة منذ عقود، وبشكل أكثر إصرارا منذ سنة 2006، هو المجتمع المدني التركي ممثلا في “جمعية خدمة الأوقاف والآثار التاريخية والبيئة”،.
ففي كل مرة تمت الاستفادة من نقائص واخلالات الدعاوى السابقة وصولا إلى استكمال الملف بشكل لم يترك لمجلس الدولة حلا أخر سوى الإقرار بحق الشعب في استعادة ممتلكاته.
وخلف هذا الإنجاز القانوني عمل طويل من التحقيق التاريخي والأبحاث والمساهمات العلمية و السياسية و التي مكنت من دحض كل الحجج التي استعملت لحد الآن لإبقاء أيًا صوفيا متحفا، وصولا إلى تهديد تركيا بكل العواقب الوخيمة إذا أصرت على استعادة سيادتها على هذا الصرح التاريخي المتميز، وهو ما لم يتوقف حتى بعد صدور القرار النهائي للمحكمة الإدارية العليا التي يعرف الجميع انه كلمته فاصلة وباتة في الموضوع..

كما توجد خلف هذا الانجاز التاريخي نضج سياسي كبير جعل الجميع تقريبا، و عدا استثناءات قليلة مثل عمدة اسطنبول لاعتبارات انتخابية استباقية، يقبلون قرار المحكمة الإدارية العليا بتفهم وهدوء. فحين ترى ان القيادي العلماني المعروف في حزب الشعب الجمهوري محرم اينجه يعتبر قرار إعادة أيا صوفيا إلى مسجد قرارا سياديا يخص تركيا ويعد بأنه سيشارك في أول صلاة جماعية تقام فيه، نفهم أن المشترك التركي حول الديمقراطية (نبذ الانقلابات) و الاحتكام إلى الدستور والمؤسسات وأولوية مبدأ السيادة الكاملة على ما سواه هو الذي انتصر في النهاية.
كذلك عندما تقرا لأحمد داوود اوغلو، المعروف بمخالفته القوية للنهج الاردوغاني الحالي في الحكم، يتحدث عن تحقق حلم لطالما انتظاره، نفهم أن الذي حصل ليس مجرد “انجاز” سياسي لاردوغان الذي لطالما وعد بذلك، وإنما لكل أطياف الشعب التركي.
طبعا، لا يمكننا التغاضي عن ردود الفعل الخارجية المنددة بهذا القرار الذي قد يبدو مشكلة إضافية تضاف إلى مشكلات تركيا التي لا تنتهي، ولكن إذا دققنا النظر سنتأكد سريعا أن هذه الردود هي للاستهلاك الإعلامي لان تركيا التي صارت لاعبا أساسيا في كل الملفات الدولية (فلسطين، سوريا، ليبيا، العراق، اليمن، دول الربيع العربي، الحرب الدولية على الإرهاب، التصدي العالمي لوباء كورونا و الذي تصدرت فيه تركيا موقفا متفردا، الخ) لم يعد بالإمكان إخضاعها بتهديد من هنا أو هناك.
طبعا، لن تستطيع فرنسا إلا أن تسارع بكل ألتها الإعلامية إلى تصوير هذا القرار كمصيبة حضارية وكدليل على تسارع المشروع العثماني في تركيا، و لكن فرنسا (التي خسرت كل تحدياتها الأخيرة مع تركيا في سوريا و ليبيا وحلف الناتو) ليس لها ما تقدم من دروس لأنها حاملة لواء أكثر علمانية استئصاليه في العالم و لان تاريخها الاستعماري مظلم فيما يتعلق باحترام حقوق الإنسان و تحديد الحريات الدينية، و لان علمانيتها متطرفة و اقصائية ولا إنسانية إلى الحد الذي يجعلها تمنع الأمهات من مرافقة أولادهن في خرجات المدرسة فقط لأنهن يرتدين الحجاب الشرعي الإسلامي.
أما اليونان فغياب أي مسجد للمسلمين في عاصمتها، هذا فضلا عن كل الجرائم التي ارتكبتها بحق المساجد الأخرى التي كانت على ترابها يجعلها اعجز من أن تعطي دروسا لتركيا التي تنتشر ما لا يقل عن 450 كنيسة.
أما روسيا و الولايات المتحدة الأمريكية، فليس لهما سجل انصع من تركيا في حفظ الحقوق الدينية, و المقارنة العلمية الموضوعية المبنية على الوقائع والأدلة و التاريخ ستجعلهما تلميذين فاشلين في هذه المادة بشكل لا يجعلهما في موقع إعطاء الدروس.
أما مرتزقة الخراب العربي في ملكيات الخليج المتهرئة وديكتاتوريات مصر وسوريا وما شابه، فلا أظن الحراك الشعبي و المجتمعي في تركيا يعمل حسابا لنهيقهم الذي لا ينقطع ولن ينقطع إلا بزوال عروشهم الظالمة الفاسدة.
ان تركيا تعطينا اليوم درسا في أن السيادة تبنى على قاعدة الانجاز المتكامل الذي يوحد الشعب (انجاز سياسي اقتصادي تعليمي صحي عسكري استراتيجي)، و القوة التي تردع العدو والوضوح الاستراتيجي الذي يمكن الدولة وشعبها الملتف حولها من عدم إضاعة الوقت في المعارك الوهمية أو الكلاب التي لن تنفك عن النباح لأنها لا تتقن فعل شيء أخر غير هذا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى