دين ودنيا

تأملات قرآنية مع شيخ الإسلام ابن تيمية (9)

الدكتور حسين القحطاني

عرض مقالات الكاتب

{لذة لباس النعمة وألم لباس النقمة في القرآن الكريم}
من سنن الله العظيمة ، التي لا تحابي أحدا ، سنة دوام النعم بالشكر وسلبها بالكفر ، وليس لأحد سواء أكان فردا أو جماعة ، أو قرية أو بلدة ، إلا وهذه السنن تشمله ، والعاقل من اتعظ بغيره ، وقد ضرب لنا ربنا سبحانه في بيان هذه السنة ، أعظم مثال على وجه الأرض ، وهو لأم القرى (مكة) ، وفيها أول بيت وضع للناس ، وهي أشرف بقعة وأكرمها على الله سبحانه ، قال : (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) “النحل” . هذه القرية هي مكة ، بلا خلاف عند أهل العلم ، فإنها كانت آمنة مطمئنة ، من دخلها كان آمنا ، وكان الناس يتخطفون من حولها ، وعندما كفرت بالقرآن ، أذاقها الله عز وجل لباس الجوع ، بعد أن كان يجبى إليها ثمرات كل شيء ، ويأتيها رزقها رغدا من كل مكان ، جاعت هذه القرية واشتد جوعها ، بسبب كفرها برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وبدل الله تعالى أمن أهل مكة خوفا بعد أن قامت دولة الإسلام في المدينة ، فقد كان الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابه يغزونهم ، ويسيرون إليهم الجيوش والسرايا ، قبل صلح الحديبية ، حتى فتحوا مكة ، وأصبح أهل الشكر (أهل المدينة) في عز ورفعة وأمان واطمئنان ، وأصبح المؤمنون أمراء الناس وحكامهم وسادتهم ، وأمنوا بعد الخوف ، ورزقوا بعد الفقر والقلة ، وسلب أهل مكة كل هذه النعم . نعوذ بالله من زوال النعم ، وتحول العافية ، وفجاءة النقم . والذوق في نظر الناس : وجود الطعم بالفم ، وأصله فيما يقل تناوله دون ما يكثر ، فإن ما يكثر منه يقال له : الشبع ، واختير في القرآن لفظ الذوق في الغالب في العذاب ؛ لأن ذلك – وإن كان في التعارف للقليل – فهو مستصلح للكثير ، فخصه بالذكر في العذاب ليعم الأمرين ، وكثر استعماله في العذاب ، نحو قوله : (ليذوقوا العذاب) “النساء” ، وقوله : (وقيل لهم ذوقوا عذاب النار) “السجدة” ، وقوله : (ذق إنك أنت العزيز الكريم) “الدخان” ، وقوله : (إنكم لذائقوا العذاب الأليم) “الصافات” ، وقوله : (ذلكم فذوقوه) “الأنفال” ، وقوله : (ولنديقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر) “السجدة” ، وقوله : (فذاقت وبال أمرها) “الطلاق” ، وقوله : (فذوقوا عذابي ونذر) “القمر” . وقد جاء الذوق في الرحمة نحو قوله : (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة) “هود” ، وقوله : (ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته) “هود” . والآيات السابقة وغيرها كلها تحيط بدوائر مرارة العذاب وحلاوة النعمة ، ولذة النعم وألم النقم . وورد لفظ (الذوق) في القرآن كثيرا وبصيغ عديدة ، وهي قد تحمل معاني الرحمة والنعم في الدنيا ، وأيضا قد تحمل معاني العذاب والنقم في الدنيا ، وأما في الآخرة ورد ذكر (الذوق) في العذاب فقط ، لأن العذاب الأخروي ليس فيه تقليل ونقص ؛ بل هو عذاب كبير وكثير ، لا ينقص ولا يقل ، وأما نعيم أهل الجنة فهو كامل وتام من جميع الوجوه ، لذا لم يصف الشارع نعيم الأخروي بالذوق . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : “لفظ الذوق يستعمل في كل ما يحس به ، ويجد ألمه أو لذته ، فدعوى المدعي اختصاص لفظ الذوق بما يكون بالفم تحكم منه ، لكن ذاك مقيد فيقال : ذقت الطعام ، وذقت هذا الشراب ، فيكون معه من القيود ما يدل على أنه ذوق بالفم ، وإذا كان الذوق مستعملا فيما يحسه الإنسان بباطنه ، أو بظاهره ، حتى الماء الحميم يقال : ذاقه ، فالشراب إذا كان باردا أو حارا يقال : ذقت حره وبرده . وأما لفظ اللباس : فهو مستعمل في كل ما يغشى الإنسان ، ويلتبس به ، قال تعالى : (وجعلنا الليل لباسا) “النبأ” ، وقال : (ولباس التقوى ذلك خير) “الأعراف” ، وقال : (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) “البقرة” ، ومنه يقال : لبس الحق بالباطل ، إذا خلطه به حتى غشيه فلم يتميز . فالجوع الذي يشمل ألمه جميع الجائع : نفسه وبدنه ، وكذلك الخوف الذي يلبس البدن ، فلو قيل : فأذاقها الله الجوع والخوف ، لم يدل ذلك على أنه شامل لجميع أجزاء الجائع ، بخلاف ما إذا قيل : لباس الجوع والخوف ، ولو قال : فألبسهم لم يكن فيه ما يدل على أنهم ذاقوا ما يؤلمهم إلا بالعقل من حيث إنه يعرف أن الجائع الخائف يألم بخلاف لفظ ذوق الجوع والخوف ، فإن هذا اللفظ يدل على الإحساس بالمؤلم ، وإذا أضيف إلى الملذ دل على الإحساس به ، كقوله -صلى الله عليه وآله وسلم- : “ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد -صلى الله عليه وآله وسلم- رسولا” رواه مسلم . فإن قيل : فلم لم يصف نعيم الجنة بالذوق ؟ قيل : لأن الذوق يدل جنس الإحساس ، ويقال : ذاق الطعام ، لمن وجد طعمه وإن لم يأكله ، وأهل الجنة نعيمهم كامل تام لا يقتصر فيه على الذوق ، بل استعمل لفظ الذوق في النفي ، كما قال عن أهل النار : (لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا) “النبأ”، أي : لا يحصل لهم من ذلك ولا ذوق ، وقال عن أهل الجنة : (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) “الدخان”. (الإيمان) وفي الختام : ما نراه ونسمعه من أخبار وأعمال الإجرام والاعتداء على المسلمين وعلى حقوقهم ، نذير شر على الأمة بأسرها ، فقد وصل الكفر بالنعمة منتهاه ، وموجبات النقمة حلت قريبة من الديار ، ربنا لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا ، واغفر وارحمنا وأنت خير الغافرين .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى