ثقافة وأدب

الشِّعار

محمد الفضلي

كاتب وأديب سوري
عرض مقالات الكاتب

تبدأ القصة منذ ولادتي، فلقد ولدت في أسرة ذات عزة نفس، ولديها حظ كبير في العلم والدين .
في أيام المدرسة كان النشيد الصباحي مملاً، وكنا نكرهه كثيراً… يبدأ الاجتماع بترديد الشعار:
(أمة عربية واحدة)
فنصيح كالبلهان:
(ذات رسالة خالدة)
ثم يقول: (أهدافنا)
فنصيح مرة أخرى:
(وحدة حرية اشتراكية)

ويبدأ مدير المدرسة بخطبة عصماء مكرورة حول عظمة وحكمة، ومنجزات حافظ المقبور، وكيف حولنا إلى مانحن عليه من عزة وكرامة، وقاوم ويقاوم المؤامرات الخارجية
ثم يطلب منا أن ندخل صفوفنا بقوله:
(واحد واحد يا حيوانات)
عزة مابعدها عزة!!!
ومع أننا كنا لاندري ماذا تعني رسالة الأمة في فكر المقبور ؟!!
إلا أن التكرار اليومي لذلك الشعار كان يثير في النفس اشمئزازا لا حدود له.
تجرأت وأنا الطالب المثابر المشاغب على أن أنقل سؤالي لمعلم مادة القومية الطائفي،
قأجابني بطلاسم دستور البعث، التي يحفظها كطلاسم كتب السحر.. قال:
” أنّ العرب في الماضي والحاضر والمستقبل لديهم رسالة محددة خارج المكان والزمان، يبشرون بها ويدعون إليها، بل كانت هذه الرسالة تهدف بالدرجة الأولى إلى تلبية حاجات الحاضر وضروراته، والعمل على تجاوز التجزئة المصطنعة المفروضة على العرب، وتعني أنّ الوحدة التي تسعى إليها ” الأمة العربية الواحدة”

ومع أني _وكطالب متوسط-لم أفهم ماذا قال؟! إلا أنني قمت بهزي رأسي، كما يفعل من يحضرون خطب الجمعة، ولا ييستطيعون أن يفهموا عماذا يتكلم الإمام.
عندما قدمت الثانوية العامة (البكالوريا) الفرع العلمي، لم استطع حفظ كتاب القومية، ولا الشعار، فحصلت على علامة متدنية في مادة القومية 13/20 أودت بي إلى تحويل مسار طموحي من هندسة الكهرباء إلى كلية الحقوق، مما حذا بي إلى دفن كتاب القومية في أحد الحمامات العامة.
وفي كلية الحقوق… حدثت أمور كثيرة، فحين كنت أراجع دكتور المادة للاستفسار عن خطأ في التصحيح، وظلم تعرضت له في ذلك…. كان يقيئ بطلاسم كتاب القومية، ومنطلقات حزب البعث.
تخرجت من الجامعة في زمن قياسي، ودخلت مهنة المحاماة في دمشق، وكلما كنت استفسر من موظفٍ أو شرطيٍّ أو قاضٍ حول قرار أو أوراق أو دعوى، وأسباب التلاعب بها….كان الجميع يرددون أمامي ذات الشعار، وكلمات كتاب القومية نفسه.
فتركت المهنة لأدخل سلك الشرطة
وعندما دخلت وظيفة الشرطة كضابط فيها… كنت أحمل معي أمانة عائلتي وتربيتي، وبعامل الواقع الذي كنت أعيشه كنت اخفيها في صدري، ولم استطع ان أظهرها دائماً.
حتى جاء ذلك اليوم، الذي كنت فيه أصول، وأجول للقبض على من ارتكبوا أجراماً جنائية مختلفة، وأقدمهم للقضاء
وكانت تردني اتصالات كثيرة من فروع الأمن، ورؤسائي لترك بعضهم، أو مرعاة البعض أو التوسط لهم.
ولما كان رأسي كبيراٍ…. كنت أجادلهم في كل كبيرة وصغيرة، وأنفذ في غالب الأحيان قناعاتي، وفي أحيان أخرى كانوا يبدأون بترديد الشعار ومنطلقات، وأهداف البعث، وكل طلاسم كتاب القومية، وإبراز أنني لم أحفظ الشعار، للضغط علي وتهديدي كي أنفذ اراداتهم.
بقي الحال هكذا بين أخذٍ و رد، حتى بدأت الثورة السورية العظيمة، وحينها وقف الجميع إما: موقف المعادي أو موقف المتفرج عليها، وانخرطت أنا فيها، أقدم لها ماكان بمقدوري، واستطاعتي، حتى تم القبض علي ووضعي في السجن.
حين تم عرضي على القاضي… سألني حول موقفي من الثورة، ومعادة النظام، فقمت بترديد الشعار
قلت له: أمة عربية واحدة
قال: ذات رسالة خالدة
قلت له: أهدافنا
قال: وحدة …وصمت
ثم بعد جدال حول الشعار… أطلق سراحي، وطلب مني ألا أعود إليه مرة أخرى.
ثم تركته ومضيت إلى الجانب الآخر.
كان الشعار في الجانب الآخر… أكثر بعداً وأعمق منهجا، وأعظم مطلباً، لكنه مقتول بطلاسم معرفته، وتطبيقه وتنفيذه، ثم انقسم إلى شعارات
فمن شعار (الشعب يريد اسقاط النظام)
و (واحد واحد الشعب السوري واحد)
إلى شعار:
(قائدنا للأبد سيدنا محمد)
وشعار:
(نريد دولة مدنية ديموقراطية موحدة ذات شعب واحد)

كنت أسأل نفسي:
كيف يكون ذلك شعارهم وكلهم منافقون؟!!
هل فعلا كانت العلة في الشَّعار، أم أن هناك سببٌ آخر لما حلّ، ويحلُّ بنا؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى