دين ودنيا

تأملات قرآنية مع شيخ الإسلام ابن تيمية (6)

الدكتور حسين القحطاني

عرض مقالات الكاتب

{ غذاء القلوب وشرابها } قال الله سبحانه وتعالى : (وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم) .”سورة البقرة” أي : تغلغل حب العجل في قلوبهم ، كما يتغلغل الماء بعد الشرب في الجسم ، وسبب هذا التغلغل هو الكفر أولا ، ثم دخول حب عبادة العجل في قلوبهم ، ولذا قال “بكفرهم” أي : بسبب كفرهم ؛ فكأن الكفر هو الذي أسقاهم شرابا نجسا شراب العجل ، وبئس الشراب ، وهذا يدل على دناءة نفوسهم وقلة عقولهم وشدة جهلهم وكثرة وقوعهم في الكفر والفسوق والعصيان ، أولئك هم الضالون . ومن أحسن الأمثلة وأدقها وأجملها في بيان شراب القلوب ، ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث حُذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول : “تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا ، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء ، حتى تصير على قلبين : على أبيض مثل الصفا ، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض ، والآخر أسود مربادا ، كالكوز مجخيا ، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا ، إلا ما أشرب من هواه” . فمن اعتاد على المعاصي والذنوب ولم يتوب ، أشرب قلبه حب هذه المعاصي ، ودخلت في قلبه دخولا تاما ، وحلت منه محل الشراب من الكوز ، وإذا استمر على ذلك وعاند وكابر واتبع هواه ، دخل قلبه بكل معصية يعملها ظلمة ، وافتتن في دينه وزال عنه نور الإيمان ، ومثل القلب كالكوز فإذا انكب انصب ما فيه ، ولم يدخله شيء بعد ذلك من الخير ، وشبه القلب الذي لا يعرف خيرا بالكوز المقلوب أو المنحرف الذي لا يثبت الماء فيه ، لخروج النور منه ودخول الظلمة مكانه . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : “الشرائع هي غذاء القلوب وقوتها ، ومن شأن الجسد إذا كان جائعا فأخذ من طعام حاجته استغنى عن طعام آخر ، حتى لا يأكله إن أكل منه بكراهة وتجشم ، وربما ضره أكله أو لم ينتفع به ، ولم يكن هو المغذي الذي يقيم بدنه . فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته قلت رغبته في المشروع وانتفاعه به ، بقدر ما اعتاض من غيره ، بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع ، فإنه تعظم محبته له ومنفعته به ، ويتم دينه ويكمل إسلامه . ولهذا تجد من أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن ، حتى ربما يكرهه . ومن أكثر من السفر إلى زيارة المشاهد ونحوها لا يبقى لحج البيت المحرم في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة . ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع . ومن أدمن على قصص الملوك وسيرهم لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام ، ونظائر هذه كثيرة . ولهذا عظمت الشريعة النكير على من أحدث البدع وحذرت منها ، لأن البدع لو خرج الرجل منها كفافا – لا عليه ولا له – لكان الأمر خفيفا ، بل لا بد أن توجب له فسادا في قلبه ودينه ، ينشأ من نقص منفعة الشريعة في حقه ، إذ القلب لا يتسع للعوض والمعوض عنه . فيبقى اغتذاء قلبه من هذه الأعمال المبتدعة مانعا من الاغتذاء أو من كمال الاغتذاء بتلك الأعمال النافعة الشرعية . فيفسد عليه حاله من حيث لا يعلم ، كما يفسد جسد المغتذي بالأغذية الخبيثة من حيث لا يشعر” . (اقتضاء الصراط المستقيم)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى