مقالات

كان يبحثُ عن ضناه..

حسين الزعبي

صحفي سوري
عرض مقالات الكاتب

مازالت المساحة التي كانت تُسمّى سوريا تبثّ من الوجع أشكالاً وألواناً منها ما خطر على قلب بشر ومنها ما لم يخطر.
كان يبحثُ عن ضناه.. أغنية يرسم من خلالها الشاعر “ظافر صالح الصدقة” والفنان “سمير الأكتع” على أرواحنا لوحة وجع سوريالية ريشتهما نصلة سكين ماض.
(كان يبحث عن ضناه، راجياً ألا يراه، ساعياً أن يطمئن أن يخفّف من عياه.. كان يبحث في وجوه جفّفت فيها الشفاه.. عن سجين كان نجماً.. كم تغذّى من رؤاه.. راح يبحث ثم يبحث هارباً من مبتغاه.. بعد جهد صاح ابني.. ساد صمتٌ.. هل رآه؟ مات شوقاً.. مات قهراً.. مات سعياً كي يراه.. آه ثم آه).
الأب السوري “أبو يوسف” مات وهو يبحث عن صورة ابنه الوحيد -المعتقل منذ سبعة أعوام- بين صور شهداء المعتقلات المسرّبة.
لوحة الوجع هذه، تقودنا تفاصيلها، إلى “الضنا”، وتدور معظم معاني هذه المفردة ومشتقاتها في معاجم اللغة حول “الوجع” والأبناء كما في لسان العرب:
ـ ضَنْوُ: الوَلَدُ.
ـ ضَنِيَ ضَنًى فهو ضَنِيٌّ وضَنٍ: مَرِضَ مَرَضاً وأضْناهُ المَرَضُ.
ـ مُضاناةُ: المُعاناةُ.
“الضنا” السوري بات منتشراً في أربع جهات الأرض، واحدة منها سوريا التي ما عادت تلك التي نعرفها، ولا يعرفها “الضنا”، فأولئك الذين في داخل الوجع حفظت ذاكرتهم صور القتلى ورائحة الموت ووخزات الجوع والكراهية وأصوات الرصاص والصراخ، أما أولئك الذين يعيشون على أطراف الوجع الممتد إلى القارات الخمس، فاختلط عليهم مفهوم الوطن، بين وطن ينتمون إليه “نسبا” ولا يحملون من صوره سوى الخراب والدمار، وبين أرض أخرى تمنحهم مفهوم المواطنة قبل أن تمنحهم امتياز وطن، وطن لاشك سيمنحهم وقتاً أطول للتفكير بغدهم ومستقبلهم أكثر من التفكير في يوميات البحث عن لقمة عيش ما عاد الحصول عليها بالأمر الهيّن في وطن الآباء والأجداد، وما عادت تقاليده وعاداته هي نفسها التي تصلح لأن تُعاش في بلاد الإغتراب الباردة، بل لعلها أصبحت عبئاً على أبناء وآباء وعوائل تشظّت في العالم الجديد.
كانت سوريا، وكنا هناك، ركبنا الموت كي نغادرها، ولم نركب الموت كي نعود إليها، ولكل من غادر مبرراته وأسبابه، أسباب لا تلغي نتيجة واحدة.. اننا تركنا وطناً كان اسمه سوريا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى