بحوث ودراسات

مواقف ‘‘الديانات الإبراهيميَّة’’ من متاع الدنيا (الحداثة) وحساب الآخرة: أين يكمن الخطأ؟ 1 من 3

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

الديانات الإبراهيميَّة-Abrahamic religions، أو Abrahamism-هو مصطلح صاغه المستشرق الفرنسي البارز، ومستشار وزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال أفريقيا، والراعي الروحي للجمعيَّات التبشيريَّة الفرنسيَّة في مصر، لويس ماسينيون، للإشارة إلى للديانات المشتقَّة عن ملَّة أب الأنبياء إبراهيم، أو تقاليد أبرام العبراني، في إقرار بالجوانب المشتركة بينها، وأهمَّها توحيد الألوهيَّة، وإن اختلف مفهوم التوحيد في كلِّ ديانة. وفي الغالب، فالمقصود بالديانات الإبراهيميَّة يكون الإسلام واليهوديَّة والمسيحيَّة، وإن كانت هناك ديانات إبراهيميَّة مُعترف بها، ولكن أقل شيوعًا، مثل المندائيَّة و‌السامريَّة و‌الدرزيَّة و‌البابيَّة و‌البهائيّة والمورمونية و‌الراستافاريَّة، كما تنشر موسوعة ويكيبيديا الرقميَّة. ويعترف علماء الغرب بأنَّ هناك اختلافات جذريَّة بين الإسلام واليهوديَّة والمسيحيَّة، وبخاصَّة في مفهوم الوحدانيَّة للخالق، ومن هؤلاء ألان برجر، أستاذ الدراسات اليهوديَّة، الذي رأى في كتابه Trialogue and Terror: Judaism, Christianity, and Islam after 9/11-الحوار الثلاثي والإرهاب: اليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلام بعد 11/9 (2012)، أنَّ اليهوديَّة هي أصل المسيحيَّة والإسلام، لكنَّ الديانتين المتولِّدتين عنها افترقتا عنها، بل احتفظت كلٌّ منهما بمفهوم توحيدي خاص؛ فتفاوتت العلاقات بين الديانات الثلاث، وصارت “غير متوازنة ديمغرافيًّا، ومتنوعة أيديولوجيًّا” (صxiii).

إن كانت الديانات الإبراهيميَّة الثلاث، الأهم والأكثر اتِّباعًا، قد اتَّفقت على توحيد الألوهيَّة، فقد اختلفت في اعتقاد كلٍّ منها بالآخرة، وبيوم الحساب، ولا شكَّ في أنَّ لذلك تأثيره الكبير في المساعي الدنيويَّة. لا جدال على أنَّ تعامُل المؤمن بزوال متاع الدنيا وحقارة زينتها بالمقارنة بنعيم الآخرة، لن ينكبَّ على تحقيق الثراء المادِّي، وتطبيق وسائل الارتقاء الحضاري، وكأنَّما سيعيش أبدًا، لن يكون مثل تعامُل الموعود بالنعيم الأبدي بمجرَّد الإيمان بعقيدة لا تستلزم العمل، بخاصَّة إذا ندُر الحديث عن الموت والحساب والوعيد بالنَّار للمذنبين في الكتاب المنزَّل على النبي الذي يؤمن به، هذا ما يوضحه هذا القسم في الدراسة.

الإيمان بالآخرة والحساب يوم القيامة في الإسلام

أمَرَنَا الله تعالى في مُحكم آيات كتابه الكريم، المنزَّل على خاتم النبيين وإمام المرسلين، سيدنا مُحمَّد (عليه وعلى سائر أنبياء الله ورُسُله أزكى الصلوات وأتم التسليم) بتلاوة القرآن “وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ ۖ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ” (سورة النمل: الآية 92)، وكذلك بتدبُّر آيات “كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ” (سورة ص: الآية 29)، أي أنَّ هدف التدبُّر أن “يَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ“. وسيكتشف من يتلو كتاب الله أنَّ هناك فكرة أساسيَّة لا يتوقَّف الكتاب عن تكرارها، وتكاد لا تخلو منها سور القرآن، وهي تذكير الله تعالى خَلْقَه بأنعمه عليهم، وبتسخيره الكون لهم، وبتنزيله الشريعة الحقَّة ليطبِّقوا في تسيير أمورهم الحياتيَّة، ولا يريد مقابل ذلك إلَّا أن يشهدوا له بالربوبيَّة؛ فيعبدوه وَحدَه لا شريكَ له “أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)” (سورة لقمان).

آثرت فئة ممن خَلَق الله تعالى أن تتَّبع الهوى، الذي أغراها الشيطان باتِّباعه، وتعبد من دونه أربابًا ما أنزل الله بها من سُلطان، متناسين شهادتهم لله وَحَده بالربوبيَّة يوم أخذهم من ظهر آدم ذريَّته، وأشهد بني آدم جميعًا على ذلك، خشية أن يصيب “عَذَابِ السَّعِيرِ” في الآخرة، إذا ما نسوا ميثاقهم مع الله، وفعلوا ما ينقضه “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَى ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)” (سورة الأعراف). ونقلًا عن موقع الإسلام سؤال وجواب، روى الإمام أحمد (2455)، والحاكم (75) عن تفسير هاتين الآيتين، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ (ﷺ)، أنَّه قَالَ: (أَخَذَ اللهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا، فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلًا، قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا…)، وأكمل الرسول قوله تعالى إلى نهاية الآيتين.

ويتَّفق الفقهاء المعاصرون، ومنهم عبد العزيز بن فوزان الفوزان-أستاذ الفقه المقارن في المعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة-مع هذا التفسير ويقول في تفسيره للآيتين في ظهور له على قناة الرسالة الفضائيَّة “نحن لا نذكر هذا الآن، ونحن من ذريَّة آدم”، مشيرًا إلى قول العلماء بأنَّ “الْمِيثَاقَ” هو “فطرة الله التي فَطَر الناس عليها”، وهي فطرة التوحيد. وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة (رضي الله عنه) “مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ”؛ أي أنَّ لو تُرك كلُّ مولود على الفطرة، لصار موحِّدًا لله، عابدًا إيَّاه، بلا ند ولا شريك. ويقول الشيخ محمَّد متولي الشعراوي-العالم الديني، وأستاذ علم التفسير واللغة الغربيَّة، ووزير الأوقاف المصري الأسبق-عن هاتين الآيتين، أنَّ الله تعالى أراد أن يربط البشر من ذريَّة آدم بإلف معه، بإشارته إلى ارتباط البشر جميعًا بآدم في تسلسُل، من خلال انتقال جزيء حيٍّ من آدم إلى كلِّ بنيه، وارتباط البشر به عزَّ وجلَّ من قبل ميلادهم. ولهذا السبب، اختار الله الإشارة إلى علاقته بالبشر بقوله “أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ“، كما خاطب نبيَّه مُحمَّدا بالتركيز على نفس الصلة “رَبُّكَ“؛ فأكَّد الله بهذا أنَّ كلمة “رب” هي “الإلف الأوَّل” الذي يصاحب الإنسان مع الله من قبل ميلاده، وهذا ما يفسِّر قوله “وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ ۚ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا ۖ إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ” (سورة الزمر: الآية 8). يتذكَّر الإنسان “رَبَّهُ“، قديم الصلة به، في الشدائد، لكنَّه سرعان ما ينساه بعد أن تُقضى حاجته، بل وربَّما “جَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا“؛ فاستحقَّ بذلك أن يكون “مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ“. ونلاحظ أنَّ الله تعالى قد استخدم كلمة “رب” كذلك لمَّا ذَكَر قصَّة الخلْق “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ” (سورة البقرة: آية 30).

بالعودة إلى قصَّة خلْق الله تعالى آدمَ، نجد أنَّ الله أراد أن يجعل في الأرض “خَلِيفَةً“، واختلفت آراء المفسِّرين حول المقصود بقوله تعالى “خَلِيفَةً“. فمن المفسِّرين من رأى أنَّ المقصود أنَّ جيلًا يخلف جيلًا من بني آدم إلى قيام الساعة، مصداقًا لقول الله في الآية 165 من سورة الأنعام “وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ”، وفي الآية 62 من سورة النمل “وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ”. وهناك رأي آخر أكثر شيوعًا، وهو أنَّ الإنسان خَلَف الجنَّ على الأرض، ويعزز ذلك التفسير قوله تعالى في الآية 30 من سورة البقرة “أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ“؛ إذ نما هذا الاعتقاد لدى الملائكة من قياسهم على ما فعلته الجنُّ على الأرض. وقد روى الطبري في تفسيره (1/232) عن ابن عباس (رضي الله عنه) قال “أول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها، وسفكوا فيها الدماء، وقتل بعضهم بعضًا”، نقلًا عن موقع الإسلام سؤال وجواب. وبرغم أنَّ هذا الأثر يدعمه أثر يحمل نفس المضمون للصحابي عبد الله بن عمرو، يرى الداعية الإسلامي المعاصر الشيخ محمَّد حسَّان أنَّ هذا الأثر من الإسرائيليَّات، ولا يصح أن يُستدل به في تفسير الآية، لا محيث السَّند ولا من حيث المتن. وسواء كان الإنسان أوَّل من استُخلف على الأرض، أو كان خليفةً لقوم آخرين أفسدوا وأُهلكوا بشؤم ذنوبهم، فقد أبان الله تعالى للمخلوق الجديد أنَّ حياته في الأرض مؤقَّتة، وأنَّ له ولذريَّته “فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ” (سورة البقرة: الآية 36). سبقت الإشارة في الدراسة السابقة عن القبَّالة اليهوديَّة وعقيدة بابل السريَّة، إلى أنَّ المقصود بقول الله في الآية 37 من سورة البقرة “فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ” أنَّ آدم تقلَّى وعدًا من الله بالعودة إلى الجنَّة، في حال تاب وأصلح؛ غير أنَّ اليهود أعادوا تعريف هذا التلقِّي، وشكَّلوا عقيدتهم السريَّة، التي سبق شرحها بالتفصيل.

قد حذَّرنا الله تعالى من مغبَّة الركون إلى “مَتَاع” الدنيا، واعدًا الساعين وراءه بالخلود في النار “لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)”، كما جاء في سورة آل عمران؛ وأوضح الله تعالى أنَّ ميراث الجنَّة يكون بالتقوى “لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ (198)”. ما يعنيه ما سَبَق ذكره، أنَّ الله تعالى خَلَق البشر، واستخلف أجيالهم المتعاقبة في الأرض، وأمرهم بعبادته طالما حيوا فيها، مصداقًا لقوله في سورة الذاريات “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)”؛ لأنَّ تلك في هذه العبادة السبيل إلى حياة الخلود في الآخرة في الجنَّة. أمَّا عن مهر الجنَّة، فهو الإيمان والعمل الصالح، وهذا ما تقوله آيات الله تعالى في العديد من سور القرآن، ونذكر من ذلك قول الله “وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)” (سورة البقرة)، و “وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)” (سورة الأعراف)، و “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ ۖ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ۚ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)” (سورة يونس)، و “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)” (سورة هود)، و “إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)” (سورة الإسراء)، و “إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ۖ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)” (سورة الحج).

يفوز الإنسان بنعيم الجنَّة بصدق العبادة لله، والإخلاص في الطاعة لله، وتقواه عزَّ وجلَّ، والتوبة إليه في حال الوقوع في الإثم؛ فالخطأ سمة ابن آدم، كما قال النبي (ﷺ)، عن أنس بن مالك، في حديث رواه ابن ماجة والترمذي والدرامي وأحمد “كلُّ بني آدم خَطَّاءٌ، وخَيرُ الخَطَّائِينَ التوَّابُون”. وإذا ما طالعنا الآيات التي وردت عن أهل الجنَّة، لوجدنا أنَّ صفتهم الأساسيَّة، بعد الإيمان والعمل الصالح، هي التقوى، ومن أمثلة ذلك ما جاء في قوله تعالى في “إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)” (سورة الحجر)، و “وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ۚ قَالُوا خَيْرًا ۗ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ۚ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (32)” (سورة النحل)، و “لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)” (سورة الزمر)، و “إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55)” (سورة القمر).

 سخَّر الله تعالى الأرض وما عليها لخدمة الإنسان، واستحقَّ العبوديَّة؛ لأنَّه “اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)” (سورة إبراهيم. مع كلِّ نعم الله، ينسى الإنسان ميثاق الله معه؛ لأنَّ “الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ“. يتحدَّى الله تعالى كلَّ من يتَّخذ من نفسه إلهًا على الأرض، وينسى أنَّ الله “ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ“، ويحسب “أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ” (سورة البلد: آية 5). كما سبقت الإشارة، فسور القرآن الكريم تكاد لا تخلو من تذكير الله تعالى للإنسان، الذي خَلَقه ” نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)” (سورة يس)، وسبقت الإشارة في الدراسة عن دور القبَّالة/الصوفيَّة المغالية في إسقاط دولة آل عثمان، إلى أنَّ هاتين الآيتين نزلتا لدحض تحدِّي أبيٍّ بن خلف للرسول قائلًا “يا محمد، أتزعم أن الله يبعث هذا؟” فقال الرسول، في حديث رواه مجاهد، وعكرمة، وعروة بن الزبير، والسدي، وقتادة “نعم، يميتك الله تعالى ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار”. وسبقت الإشارة كذلك إلى أنَّ الله ردَّ على هذا الادِّعاء في قوله ” وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ (51)” (سورة الإسراء)، وإلى مصدر هذا الادِّعاء وسبيل النجاة من تصديقه “قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)” (سورة الصافَّات). أراد قرين الجن أن يقنع الإنسان بألَّا حياة بعد الموت، وأنَّ جسده يفنى بعد هلاكه؛ ومن ثمَّ لا سبيلَ لحساب أو عقاب، وهذا هو بالضبط مفهوم القبَّالة اليهوديَّة والصوفيَّة المغالية المحسوبة على الإسلام لحال الإنسان بعد موته، كما سبقت الإشارة، وقد تبيَّن كذلك أنَّ لهذا الاعتقاد أصل في التلمود اليهودي.

يتحدَّى الله تعالى في قرآنه من تناسوا الميثاق الذي قطعه عليهم منذ أخذهم من ظهر أبيهم آدم، بإظهار من القدرة والسلطان ما يتفرَّد به سبحانه عن غيره، فقال “يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)” (سورة الرحمن)، واتَّفقت آراء المفسِّرين على أنَّ المقصود بتلك الآية تحدِّي الله تعالى خَلْقه من الجن والأنس أن يفلتوا من قَدَره، أو يتجاوزا سُلطانه، وإن اختلفت حول إذا كان ذلك في الحياة الدنيا، أم عند الموت، أم يوم القيامة. لا يريد الله من عباده سوى الإقرار بالوحدانيَّة، والعمل الصالح، وشكر النعمة، والصبر عند البلاء، وعدم الافتتان بـ “مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا” الزائل؛ لأنَّ مهما “أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وازَّيَّنت“، ومهما اغترَّ أهلها بقوَّتهم وظنُّوا “أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا“، وعصوا ربَّهم وتناسوا ميثاقه معهم، فالله قادر على أن يجعل الأرض وما عمروه فيها “حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ” بسبب كفرهم. وتذكيرًا بمعنى كلمة “كفر” في المعاجم العربيَّة، فهو كتم الشيء، وتغطيته، ومنها هذا المعنى اشتُقَّت كلمة Cover في الإنجليزيَّة، وCouvrir في الفرنسيَّة؛ والكتم في هذه الحالة هو لميثاق الله تعالى مع بني آدم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وألَّا يدَّعوا يوم القيامة أنَّهم اتَّبعوا آباءهم في ضلالهم عن الحقِّ، كما ورد في الآيتين 172 و173 من سورة الأعراف. وتعبِّر الآيات التالية من سورة يونس عن هذا المعنى بمنتهى الوضوح: “هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم ۖ مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وازَّيَّنت وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (25) (سورة يونس).

ومن إعجاز الله تعالى في قرآنه الكريم أن أشار إلى تقلُّب الذين كفروا، وتناسوا ميثاقه معهم، في البلاد، وتكثر الآيات التي تناولت إهلاك الله للكافرين ممن غرَّتهم الحياة الدنيا واطمأنوا بها، بل وتتكرَّر قصص تلك الأقوام في القرآن، ويُعاد سردها بتفاصيل جديدة في كلِّ مرَّة. ومن أكثر الآيات التي تتناول عاقبة أقوام اغتَّرت بالقوَّة والمنعة والسيطرة على مصادر الطاقة اللازمة لتكوين حضارات والارتقاء بأحوال المعيشة الدنيويَّة، ما ورد في سورة الرُّوم “أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)”. سبقت الإشارة في استعراض أهم ما جاء في كتاب هلاك ودمار أمريكا في الكُتُب السماويَّة (2012) للكاتب هشام كمال عبد الحميد، إلى تشبيه الكاتب للولايات المتَّحدة في حضارتها الحاليَّة وما توصَّلت إليه في التمدُّن والتحديث، بقوم عاد، الذي بُعث فيهم نبي الله هود، فعصوه وأصرُّوا على الكفر وكتم حقيقة عبوديَّتهم لربِّهم؛ وكان التقدُّم الحضاري السبب الأكبر وراء ذلك الكِبر والعناد في مواجهة الدعوة إلى سبيل ربِّهم. اعتبر عبد الحميد، كما ذُكر آنفًا، أنَّ أمريكا هي “عادٌ الثَّانيَةُ”، مستدلًّا على ذلك من قوله تعالى في الآية 50 من سورة النجم “وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى“. وبعد إيضاح أهم مواطن التشابه بين حضارتي قوم عادٍ وأمريكا، وأسباب غطرسة قوم عادٍ المتسبِّبة في نهايتهم المأساويَّة، تجدر الإشارة إلى قصَّة أخرى من قصص القرآن الكريم، تناولت صراع الحضارة مع الإيمان، وتألُّه الخَلْق على خالقهم، والتنكيل بالمؤمنين لإجبارهم على اتِّباع سبيل الكُفر.

تحدَّى الله تعالى المكذِّبين بآياته بأن ترك من آثار الأمم الهالكة بسبب آثامها ما يحضُّ على أخذ العبرة والعظة ممَّا حلَّ بغيرهم، فقال في سورة غافر “أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)”. ومن بين الأمم الهالكة التي حدَّثنا عنها القرآن، وأثارها لم تزل على أعين النَّاس ثمود، قوم رسول الله صالح، أو أصحاب الحجر، الذين نزلت بشأنهم سورة من سور القرآن تحمل اسمهم، وتذكِّر بنهايتهم المأساويَّة. تقول سورة الحِجر عن قصَّة قوم صالح “وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)”. تعدَّدت أنعُم الله تعالى على قوم صالح، ومن بينها الأمان والسِّلم، وتوافر كافَّة احتياجات المعيشة، بل ووصل الأمر إلى حدِّ الرفاهية ببناء البيوت في الجبال، كما يخبرنا جانب القصَّة في سورة الشعراء “أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)”.

كفرًا بأنعُم الله، ونزولًا على رأي المفسدين-حيث كان بينهم “وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ” (سورة النَّمل: آية 48) -كذَّب أصحاب الحِجر رسول الله إليهم، ورفضوا الخضوع لأمر الله بالتقوى والصلاح، “إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144)” (سورة الشعراء). ونلاحظ من قول الله تعالى، على لسان رسوله صالح، “فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ” أمرين: الأوَّل معرفة أصحاب الحِجر اللهَ عزَّ وجلَّ، وتناسيهم ميثاقه معهم، وانشغالهم بمتاع الدنيا عن اجتناب المحرَّمات؛ أمَّا الثاني، فهو معرفة هؤلاء الخطأ والصَّواب، وإلَّا لما قال لهم “أَلَا تَتَّقُونَ“. ونتيجة التكذيب والامتناع عن تقوى الله أن همَّ أحد اللهاة المفسدين بذبح النَّاقة، التي جعلها الله آيةً للمنعَّمين من قوم صالح “إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)” (سورة الشَّمس). وبرغم أنَّ التفسير الشائع لمقصود الله من قوله تعالى “أَشْقَاهَا” هو الإشارة إلى أشقى أهل قبيلة ثمود، كما يوضح الحديث في صحيح البخاري، أنَّ رسول الله (ﷺ) قال أنَّ المقصود “انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه، مثل أبي زمعة”، فهناك افتراض أنَّ المقصود هو أشقى أهل الأرض، كما يروي حديث يُنسب للرسول (ﷺ) مع عليٍّ-كرَّم الله وجهه-يقول ” ألا أحدثك بأشقى الناس؟ ” قال: بلى، قال: “رجلان; أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذا-يعني قرنه”. وأيَّما كان التفسير الأصح للمقصود من قوله تعالى “أَشْقَاهَا“، فمن المؤكَّد أنَّ عاقبة السكوت عن الإفساد وعدم إنكار المنكر تكون وخيمة، ليس على المفسد وحده، إنَّما على كلِّ من سايروه وتعاونوا معه. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى