غير مصنف

مسؤولية الأوروبيين في تفكيك بلاد الشام (3)

معاذ السرّاج

باحث في تاريخ سورية المعاصر وشؤون الحركات الإسلامية
عرض مقالات الكاتب

في هذه الحلقة سنتابع قراءة ما فعلته القوى الكبرى ببلدان الشرق الأوسط نتيجة تلاعبها بشؤون الأقليات منذ القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا, ولم تكن هذه القوى يوما مستعدة للتضحية من أجل مساعدة الشعوب, وتنفيذ وعودها لها, بالحرية والديمقراطية, وإنشاء دولة قومية ذات سيادة, على النمط الأوربي للدولة الحديثة, وإن نظرة واحدة إلى بلدان المنطقة تؤكد أن شيئا من هذه الوعود لم يتحقق على الإطلاق, وأن شعوب المنطقة لاتزال تعاني من مشكلات متكررة ورثت أكثرها من حقبة الاستعمار, وفي مقدمتها الحكومات المستبدة, ومشكلة الأقليات.

يحرص الأوربيون في سياساتهم على تضخيم وإبراز الاختلافات والتنوعات العرقية والمذهبية, وجعلها عوامل خلاف ونزاع بعد أن ظلت ولقرون مصادر تنوع وغناء. ورأينا كيف سعى الأوربيون إلى تحريض الشعوب والأقليات ضد دولها, وأججوا نيران الحروب الداخلية, وحالات الثأر المتبادلة, وابتكروا لها صفة “الحروب الأهلية”, التي أصبحت مع مرور الزمن, نوعا من التكتيك السياسي, و”وظيفة في السياسات والاستراتيجيات الدولية, تلتقي عليها القوى الكبرى, متنافسة أو متصارعة أو متواطئة”, حسب تعبير الدكتور وجيه الكوثراني.

ويتركز بحثنا في هذه الورقات على التأثيرات المدمرة للسياسات والعقليات الأوربية, ومسؤوليتها الأساسية في المشكلات التي لاتزال تتعرض لها الكثير من الشعوب, ومن بينها شعب سوريا الذي تعرضت بفعل تقسيمها إلى دويلات والتلاعب ببناها الاجتماعية والثقافية والسياسية, إلى تغييرات وتحولات كبرى, تركت فيها وعلى المدى الطويل آثارا بالغة السوء.

وعلى سبيل المثال فإن انتزاع فلسطين وقتل أهلها تهجيرهم, ومنحها لليهود, كان نتيجة تواطؤ السياسة البريطانية والفرنسية, وكذا إقامة إمارة شرق الأردن, وتنازل الفرنسيين عن الموصل ثم لواء اسكندرون, وهكذا..

ألبرت حوراني, المؤرخ المعروف, وصف بريطانيا بأنها “سقطت في كل مكان باتهامها بأنها تحتفظ بمواقفها في كل مكان بالتحالف مع أصحاب المصالح الثابتة, لذا صارت تعتبر عائقا في طريق التغيير المفيد”. ووصفها أيضا بأنها “بلغت الحد الأقصى في خصلة المرونة الانتهازية التي يعتبرها عدد من الانكليز مزية في سياستهم, رغم أنها في الحقيقة ضعف شديد..”, وانعكس هذا في كافة سياساتها تجاه بلدان الشرق الأوسط وشعوبها.

وفي كتابه “سورية والانتداب الفرنسي”, يتحدث فيليب خوري مطولا عن السياسات الفرنسية, عن الآثار السيئة التي تركتها على الدولة السورية الناشئة, نتيجة “السياسات المالية والإدارية غير الكفية وغير الملائمة”.. و”الطائفية المستشرية, التي كانت ترافق الأنشطة الفرنسية وتؤازرها حيثما حلت, والتي ستؤدي إلى مشكلات كبرى عصية على الحل والمعالجة, ستظهر آثارها جلية بعد الاستقلال.

ويذكر الدكتور وجيه كوثراني في كتابه “سورية في مطلع القرن العشرين” كيف قامت سلطات الانتداب الفرنسي, بإعادة تنظيم سورية بين عامي (1919 و 1922) وفق رؤيتها الاستعمارية, واستندت في ذلك إلى المعلومات التي جمعتها أجهزة الاستخبارات والدبلوماسية الفرنسية خلال عقود, عن الطوائف والقبائل والأقوام, وخصائص المناطق والمدن والمرافئ, من الناحية الديمغرافية والاقتصادية, شكلت بمجموعها مادة الفهم السياسي بالنسبة إلى مخططي السياسية الفرنسية وكبار مسؤوليها. وقد أدخلت سلطات الانتداب, الكثير من التغييرات القانونية والجغرافية, لوضع هذا “الفهم السياسي” موضع التنفيذ, ومنع البلاد من التوحد جغرافيا وسياسيا.

وهكذا, فقد كان أول ما فعلته سلطات الانتداب, وبعد أسابيع فقط من احتلالها سورية, إصدار مرسوم بإقامة “دولة لبنان الكبير”, في أواخر آب 1920, أي بعد أسابيع قليلة من احتلالها سورية في 24 تموز 1920.

ويبرر الفرنسيون خطوتهم هذه تارة بذريعة “حماية المسيحيين” و”الوصاية” على شؤونهم, وتارة بذريعة “الخشية” على “الشيعة المتاولة”, من العزلة التي تحصرهم بين لبنان والمستعمرات الصهيونية, وتارة ثالثة بالبحث عن الكيفية المجدية للتعامل مع “المناطق السنية المكتظة”, والتي “من شأنها أن تبتلع هذه الدولة المستحدثة في حال تم تطبيق “نظام اتحادي” مع سورية, وهكذا..

وتشير المصطلحات, بين قوسين, وهي عبارات الدبلوماسية الفرنسية ذاتها, إلى الجذور العميقة والمتأصلة لفكرة التجزئة, كما يصفها الكوثراني, وأنها لم تكن وليدة ساعتها, ولا نتيجة سوء تقدير من الدبلوماسيين الفرنسيين كما ورد في تحليل بعض الباحثين والمؤرخين.

اشتملت دولة “لبنان الكبير”, بالإضافة إلى الجبل ذي الأكثرية المسيحية, على مدن طرابلس وصيدا وصور ذات الأكثرية المسلمة, وعلى امتداداتها الإدارية ممثلة بالعاصمة بيروت بسكانها المؤلفين مناصفة بين المسلمين والمسيحيين, وعلى وادي البقاع الخصيب ذي الأكثرية المسلمة, وبطبيعة الحال فقد كان على سلطات الانتداب أن تتلاعب بالتنظيمات الإدارية لشمول هذه المناطق وغيرها, باعتبارها “ضرورة من أجل إيجاد وحدة قابلة للحياة جغرافيا واقتصاديا”, لكن هذا كله “بالكاد سيمكن من إيجاد دولة قادرة على الحياة السياسية”, بحسب تعبير فيليب خوري.

في المحصلة ستخرج الدبلوماسية الفرنسية بصيغة “لبنان طائفي”, بكل ما تعنيه الامتيازات الطائفية, اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا, إلى جانب سوريا مختزلة في شريط ساحلي وعدد من المدن الداخلية بين دمشق وحلب. وسيؤدي هذا بدوره, إلى ما هو أكثر من نقل مقاليد الحكم إلى مجموعة أقليات حاكمة, ونشوء تحالفات متضادة بين الطوائف نفسها, وبروز فئات على حساب أخرى, وظهور شخصيات وزعامات, تجد نفسها لأول وهلة, في واجهة السلطة والسياسة, وفي دائرة النفوذ والامتيازات اللامتناهية. وسيبقى لبنان, الدولة المستحدثة, بحاجة دائمة للاعتماد على الوصاية الخارجية, بحثا عن استقرار منشود, سيخسره لأقل هزة سياسية أو اجتماعية, كما ثبت في السنوات التالية.

في مسألة انتزاع إقليم كيليكيا يتأكد مرة أخرى تركيز القوى الكبرى على “الفوارق الاجتماعية والثقافية بين السوريين, وتفسيرها على أنها نتاج صراع طائفي مستديم” لتبرير فصل هذه المناطق عن سورية, بذريعة الفروقات القومية والمذهبية. وقد ورد في إحدى مراسلات الرئيس الفرنسي ملِّران مع مفوض الانتداب الجنرال غورو, قوله:

“ومهما يكن من أمر يجب في الوقت الحاضر إقامة تمييز واضح بين هذه المناطق والأراضي السورية”, أي (عينتاب, بيره جك, كلِّس), باعتبار أنها –وبحسب ملّران- أراض تركية. ومثلها مناطق (شرق الفرات مع أورفة وماردين), باعتبار أنها –وبحسب ملّران- أراض كردية, و”لا يمكن إدخالها في الفدرالية السورية المقترحة”, كونها “لا تمتلك أية روابط قومية مع باقي المناطق”..

وتشترك بريطانيا مع الفرنسيين في هذه المسألة, ولكن من زاوية أخرى, فقد كانت بريطانيا ترى أن فصل الأناضول عن سوريا, ضرورة حيوية لقيام “دولة تركية حديثة”, ومن جهة أخرى إقامة دولة مِصدّ أو (حاجزة) في فلسطين لتحد من مطامح فرنسا في ذلك الاتجاه, وهم في ذلك كله لا يقيمون أي حساب لشعوب تلك البلاد وقاطنيها.

وفي إطار المصالح الاستعمارية, فقد عُوّضت فرنسا بالحصول على مكاسب أخرى في الميدانين التجاري والاستراتيجي, حيث الثروة القطنية في شوروكوفا (سهول أضنة أو كيليكيا), والموانئ الاستراتيجية حول حافة شرق المتوسط.

وقد ذكر جيرمي سولت في كتابه “تفتيت الشرق الأوسط”, أن جورج كليمنصو وزير خارجية فرنسا آنذاك, وافق في كانون أول ديسمبر 1918 على التنازل عن مطالبة فرنسا بالموصل (التي كانت ضمن المنطقة الفرنسية التي جرى تحديدها في تفاهمات سايكس بيكو عام 1916), بمقابل حصولها على حصة من بترول المنطقة, أما الكمية فلقد حددت لها في عام 1920, عندما وافقت بريطانيا على إعطائها (25%) من الناتج الصافي لحقول البترول في بلاد ما بين النهرين, بسعر السوق, أو 25% من أي شركة خاصة تُشكّل لتطوير حقول البترول هناك, وتتسلم أيضا 25% من البترول الإيراني, الذي تضخّه الشركة البريطانية الإيرانية عبر الأنابيب التي تمرّ في البلاد الواقعة تحت الانتداب الفرنسي, إلى مصب على البحر المتوسط.

ولا يكتفي الفرنسيون بهذا وحسب. لاحقا, وفي سنة 1939 وبعد عامين طويلين من المماحكات, ستتخلى فرنسا عن لواء الاسكندرون لصالح تركيا, بذريعة محاولة لتحييدها في حالة اندلاع الحرب العالمية الثانية, بحسب التبرير الدبلوماسي, دون أن تقيم أي اعتبار لواجبها الأخلاقي والقانوني الذي تنص عليه بنود الانتداب, وهو احترام سلامة أراضي الدولة التي تحت وصايتها.

وهكذا فإن سواحل بلاد الشام التي تمتد من العريش إلى الاسكندرونة, والتي ظلت مترابطة ومتصلة لقرون عديدة, ستختزل في النهاية بميناءي اللاذقية وطرطوس أي بحدود 180 كيلومترا بعد أن كانت نحو سبعمائة كيلومترا.

ولعل في هذا أبلغ دلالة على حجم الاختزال والتفكيك الذي لحق ببلاد الشام, وتجاهل التاريخ الحي والحافل لهذه البلاد, التي كان سكانها وحتى وقت قريب, يعيشون جنبا إلى جنب, يحلون ويرتحلون, ويتنقلون لأغراضهم المعاشية والدينية والعلمية دون أية حواجز أو عوائق, بل إن كثيرا من المدن والبلدات الصغيرة لا تزال تحتفظ واقعيا بالكثير من سمات ومقومات التنوع والتعايش.

في الورقة التالية سنستعرض سياسة التجزئة الاجتماعية والثقافية التي اتبعتها بريطانيا وفرنسا للإمعان في تفكيك مجتمعات بلاد الشام, وزرع بذور الخلاف والفتنة فيما بينهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى