حقوق وحريات

مدى اختصاص القضاء التركي بمحاكمة قتلة خاشقجي في القانون الدولي

الدكتور السيد مصطفى أبو الخير

خبير أكاديمي في القانون الدولي
عرض مقالات الكاتب

     يبدأ القضاء التركي في محاكمة قتلة جمال خاشقجي أمام المحاكم التركية، تبدأ أولى جلسات المحاكمة يوم الجمعة المقبل 3 يوليو 2020م، وستكون غيابًيا لتعذر إحضار المتهمين السعوديين عقب رفض الرياض تسليمهم للسلطات القضائية التركية، وقد طلب المدعي العام للجمهورية في إسطنبول من وزارة الخارجية التركية إصدار مذكرة توقيف حمراء دولية للقبض على المتهمين وإحضارهم للمحاكمة، وكان المدعي العام التركي قد نشر يوم 11 أبريل الماضي لائحة الاتهام الكاملة ضد 20 متهمًا سعوديًا شاركوا في تخطيط، وتنفيذ عملية قتل خاشقجي بشكل وحشي، وتقطيع جثته وإخفائها يوم 2 أكتوبر  2018م.

     نتناول في هذا المقال مدى اختصاص القضاء التركي بمحاكمة أفراد فريق الاغتيال السعودي، وقد رفضت الرياض طلب تسليم المتهمين، وأسست ذلك على عدة دفوع هي أنها قد قامت بمحاكمة المتهمين، وطبقًا للقاعدة القانونية الجنائية التي تنص على أنه لا يجوز محاكمة الفاعل عن جريمته مرتين، فضلًا عن عدم جواز تسليم مواطني الدولة لأي دولة أخرى لمحاكمتهم، وتلك قاعدة دستورية واردة في معظم الدساتير المعاصرة، فضلًا عن أن الجريمة تمت داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، وهي تعد طبقًا للقانون الدولي أرض سعودية يطبق عليها القانون السعودي وليس التركي، كما أن القنصلية ومن يعملون فيها من السعوديين ومنهم المتهمين يتمتعون بالحصانة الدبلوماسية والقنصلية، وقد أعلن أبناء خاشقجى العفو عن القتلة، وبذلك يكون لا أساس قانوني – من وجهة نظر الرياض- لمحاكمة المتهمين أمام القضاء التركي.

     في معرض تفنيد أسانيد الرياض سالفة الذكر، تذكر الرياض أنها قامت بمحاكمة المتهمين بقتل خاشقجى وحكمت على خمسة منهم بالإعدام والباقي بالسجن، هذا وقد قدمت الرياض للمحاكمة أحد عشر متهمًا، بينما تطالب إسطنبول بمحاكمة عشرين متهمًا، وهذه المحاكمة التي قامت بها الرياض تفتقر لأبسط ضمانات المحاكمة العادلة، وأصابها العطب القانوني مما يجعلها باطلة، ومن ثم لا يترتب عليها أي آثار قانونية، ولا تعد محاكمة، مما يعنى – في نظر القانون الدولي، والقانون الدولي الجنائي- أن المتهمين لم يحاكموا على جريمتهم، ومن العيوب التي أصاب تلك المحاكمة الآتي:

     المحاكمة كانت سرية بالمطلق، ولم يعرف بها أحد، وتعاملت معها الرياض على أنها سر حربي، المحاكمة وجميع جلساتها كانت محجوبةٌ بشكل كلي عن الإعلام، أو المحامين، أو المنظمات الحقوقية، ولم تنشر الرياض تفاصيل إجراءات المحاكمة  فقد كانت تطورات التحقيق، ومواعيد عقد الجلسات كذلك مجهولة، حتى أسماء الـمتهمين، وقيد ووصف التهم المسنودة إليهم كانت مجهولة، وهذا عيب جوهري يلغي المحاكمة، ويجعلها باطلة بطلانًا مطلقًا لمخالفتها العديد من الضمانات القانونية للمحاكمات الصحيحة منها مبدأ علانية الجلسات، لذا فهي –قانونًا- لا تعدّ محاكمة عن الجريمة، ولا تمنع من إعادة المحاكمة، وكان يجب على الرياض التفاهم مع الأمم المتحدة، والحكومة التركية على آليات المحاكمة وفق مبادئ القانون الدولي العام والجنائي، حتى تتحقق العدالة. وطبقًا للقانون الدولي لا يمكن اعتبار ما حدث من قبل الرياض محاكمة بالمعنى القانوني إنما مسرحية لإخفاء معالم الجريمة كما اختفت جثة خاشقجي.

     المحاكمة انعقدت خلف الأبواب المغلقة، لذلك لا تنسجم مع المعايير الدولية، وهي غير شفافة، فضلًا عن عدم محاكمة السلطات السعودية لـ (سعود القحطاني) المتهم الرئيسي في ارتكاب الجريمة، كما أن الرياض لم تحاكم القنصل العام السابق محمد العتيبي، المتورط في تخطيط وتنفيذ الجريمة، والذي أجرى تحضيرات لفريق الاغتيال الذي جاء من الرياض قبيل العملية، ونفى أمام وسائل الإعلام وجود خاشقجي بالقنصلية، وفقًا للتقرير الأممي، فإن السلطات السعودية لم تحاكم أيضًا كلًا من المشاركين مع فريق الاغتيال المكون من 15 شخصًا. 

     ترتيًبا على ما سبق، فإن المتهمين لم تجر محاكمتهم من قبل الرياض، ويسقط الدفع بالقول بأن المتهمين تمت محاكمتهم من قبل الرياض، فما حدث لا يعد محاكمة قانونية، مما يسقط دفع الرياض بعدم جواز محاكمة المتهم عن ذات الجريمة مرتين.

     أسست الرياض عدم تسليم المتهمين لإسطنبول لمحاكمتهم، بأن الدستور السعودي يمنع تسليم مواطني البلاد لدولة أخرى لمحاكمتهم، هذا الدفع مردود عليه بأن ما حدث لخاشجقى من تعذيب قبل القتل ينطبق عليه اتفاقية مناهضة التعذيب، وغيره من ضروب المعاملة، أو العقوبة القاسية، أو اللاإنسانية، أو المهينة لعام 1984م، حيث نصت في الفقرة الأولى من المادة الأولى منها على تعريف التعذيب بأنه:

 (1. لأغراض هذه الاتفاقية، يقصد “بالتعذيب” أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسديًا كان أم عقليًا، يلحق عمدًا بشخص ما) وقد نصت الفقرة الأولى من المادة الثامنة من تلك الاتفاقية على اعتبار هذه الاتفاقية بمثابة معاهدة تسليم المتهمين بين الدول الأطراف فيها، ففي حال عدم وجود اتفاقية تسليم متهمين بين الدول من أعضاء هذه الاتفاقية، ومنهم الرياض وتركيا، تقوم هذه الاتفاقية مقام معاهدات التسليم الثنائية بين الدول الأطراف فيها، فنصت على أنه (1. تعتبر الجرائم المشار إليها في المادة 4 جرائم قابلة لتسليم مرتكبيها في أية معاهدة، لتسليم المجرمين تكون قائمة بين الدول الأطراف، وتتعهد الدول الأطراف بإدراج هذه الجرائم كجرائم قابلة لتسليم مرتكبيها في كل معاهدة تسليم تبرم بينها)، فتلك الاتفاقية تقوم مقام معاهدة التسليم الثنائية حال عدم وجودها بين الرياض وإسطنبول، لذلك وجب تسليم الرياض المتهمين لإسطنبول لمحاكمتهم.

     كما ألزمت الفقرة الأولى من التاسعة من تلك الاتفاقية الرياض بتقديم أكبر قدر من الإجراءات الجنائية وكافة التسهيلات لتسهيل محاكمة قتلة خاشقجى، فنصت على أنه:

(1. على كل دولة طرف أن تقدم إلى الدول الأطراف الأخرى أكبر قدر من المساعدة فيما يتعلق بالإجراءات الجنائية المتخذة بشأن أي من الجرائم المشار إليها في المادة 4، بما في ذلك توفير جميع الأدلة الموجودة في حوزتها واللازمة للإجراءات.) لذلك تقاعس الرياض عن استجابة طلب اسطنبول بتسليم المتهمين لمحاكمتهم مخالف لتلك الاتفاقية، يرتب المسؤولية الدولية، كما نصت الاتفاقية على أنه حال وجود خلاف في تفسير الاتفاقية، يتم اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، فنصت الفقرة الأولى من المادة (30/1) على أنه:

(1. أي نزاع ينشأ بين دولتين، أو أكثر من الدول فيما يتعلق بتفسير هذه الاتفاقية، أو تنفيذها، ولا يمكن تسويته عن طريق التفاوض، يطرح للتحكيم بناء على طلب إحدى هذه الدول، فإذا لم تتمكن الأطراف في غضون ستة أشهر من تاريخ طلب التحكيم، من الموافقة على تنظيم التحكيم، يجوز لأي من تلك الأطراف أن يحيل النزاع إلى محكمة العدل الدولية بتقديم طلب وفقا للنظام الأساسي لهذه المحكمة.).

     ترتيبًا على ذلك، فإن الرياض ملزمة بتسليم المتهمين، فضلًا عما لديها من أدلة، ومستندات تخص هذه الجريمة إلى القضاء التركي لمحاكمة هؤلاء المتهمين محاكمة حقيقية يتوفر فيها كافة الضمانات القانونية، ويحق للرياض حضور كافة جلسات المحاكمة.

     كما أن الرياض دفعت، بأن الجريمة تمت داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، وهى تعدّ طبقًا للقانون الدولي أرض سعودية يطبق عليها القانون السعودي، وليس التركي، كما أن القنصلية، ومن يعملون فيها من السعوديين، ومنهم المتهمين يتمتعون بالحصانة الدبلوماسية والقنصلية، وبذلك يكون لا أساس قانوني – من وجهة نظر الرياض- لمحاكمة المتهمين أمام القضاء التركي.

     هذا الدفع مردود عليه من واقع اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1963م، التي اعتبرت الحصانة هنا؛ لتسهيل العمل القنصلي بالقنصليات، فالحصانة مرتبطة بالعمل القنصلي وجودًا وعدمًا، فنصت المادة (28) من هذه الاتفاقية على أنه (تمنح دولة الإقامة جميع التسهيلات لإنجاز مهام البعثة القنصلية.) تطبيقًا لتلك المادة، أي عمل لا يتعلق بالمهام القنصلية لا يتمتع بالحصانة القنصلية لذلك يطبق عليه قانون الدولة التي بها القنصلية.

     وأكدت على ذلك الفقرة الأولى من المادة (43) من ذات الاتفاقية التي نصت على أنه (1- لا يخضع الموظفون القنصليون، ولا المستخدمون القنصليون، إلى السلطة القضائية، والإدارية في دولة الإقامة عن الأعمال التي أدوها في ممارسة الأعمال القنصلية.) إذن الحصانة مرتبطة ارتباطًا عميقًا بالغرض، وبالمهام القنصلية فقط دون غيرها، وأعمال التعذيب والقتل العمد مع التمثيل بالجثة، بل والإبادة التي حدثت لخاشقجى بالطبع ليست من المهام القنصلية.

     وأجازت هذه الاتفاقية إمكانية محاكمة من يرتكب جريمة من الموظفين القنصليين ومثوله أمام قضاء دولة الإقامة فنصت الفقرة الأولى من المادة(41/1) على أنه:

(1- لا يجوز توقيف الموظفين القنصليين، أو حجزهم احتياطيًا إلا في حالة الجرم الخطير بموجب قرار من السلطة القضائية المختصة.)، وما حدث لخاشقجى بالقنصلية جرم خطير فعلًا، جريمة تعذيب، وجريمة قتل مع سبق الإصرار والترصد مع التمثيل بالجثة، وقد صدر قرار من النائب العام التركي – وهو السلطة القضائية المختصة – بإحالة عشرين متهمًا للقضاء التركي بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار، والترصد، وتلك جريمة معاقب عليها في كافة القوانين الجنائية في العالم كله، لذلك طلب تركيا تسليم المتهمين لمحاكمتهم أمام القضاء التركي صادف صحيح القانون الدولي العام، والجنائي، والقوانين الجنائية في كافة الأنظمة القانونية في العالم.

     كما أن قتل خاشجقى يمثل جريمة دولية؛ لأنه اعتداء على الحق في الحياة، وهو أهم، وأول الحقوق اللصيقة بالإنسان التي تكفلت كافة مواثيق، وإعلانات، واتفاقيات حقوق الإنسان العالمية، والإقليمية بحمايته صراحة؛ لأنه أصل لكافة حقوق الإنسان، كما أن جريمة قتل خاشقجى تمثل جريمة ضد الإنسانية طبقا للفقرة (أ) من المادة السابعة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي نصت على (أ – القتل العمد.) وأيضًا يعدّ اختفاء جثة جمال خاشقجى حتى تاريخه جريمة اختفاء قسري طبقًا للفقرة (ط) من المادة السابعة سالفة الذكر، وطبقًا للاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، والتي صدقتها الجمعية العامة للأمم المتحدة برقم 61\ 177، في ديسمبر 2006، والتي تستند إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاجتماعية والثقافية، والاقتصادية، وإلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وذلك طبقًا للمواد(1 و2 و3 و 4 و 5 و 6) والتي تجرّم تعرض أي شخص للاختفاء القسري، وتُوجب على الدولة اتخاذ التدابير اللازمة لتحمل المسئولية الجنائية في ذلك، ومخالف أيضًا للإعلان المتعلق بحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها 47/133 المؤرخ 18 كانون الأول/ديسمبر 1992م.

     وقد نصت المادة الأولى منه على أنه:

 (1. يعتبر كل عمل من أعمال الاختفاء القسري جريمة ضد الكرامة الإنسانية، ويدان بوصفه إنكارا لمقاصد ميثاق الأمم المتحدة، وانتهاكًا خطيرًا، وصارخًا لحقوق الإنسان، والحريات الأساسية التي وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأعادت تأكيدها، وطورتها الصكوك الدولية الصادرة في هذا الشأن. .2  إن عمل الاختفاء القسري يحرم الشخص الذي يتعرض له، من حماية القانون، وينزل به وبأسرته عذابًا شديدًا. وهو ينتهك قواعد القانون الدولي التي تكفل، ضمن جملة أمور، حق الشخص في الاعتراف به كشخص في نظر القانون، وحقه في الحرية والأمن، وحقه في عدم التعرض للتعذيب، وغيره من ضروب المعاملة، أو العقوبة القاسية، أو اللاإنسانية، أو المهينة، كما ينتهك الحق في الحياة، أو يشكل تهديدًا خطيرًا له.).

     كما تنص المادة الثانية منه على أنه:

 (1.لا يجوز لأي دولة أن تمارس أعمال الاختفاء القسري، أو أن تسمح بها، أو تتغاضى عنها.2. تعمل الدول على المستوى الوطني والإقليمي، وبالتعاون مع الأمم المتحدة في سبيل الإسهام بجميع الوسائل في منع واستئصال ظاهرة الاختفاء القسري.).

     تعتبر تركيا والقضاء التركي هو المختص بمحاكمة المتهمين؛ لأنّ الجريمة وقعت على أرضها، وتعتبر انتهاكًا للقانون التركي والقانون الدولي، فضلًا عن انتهاك السيادة الوطنية لتركيا، لذلك من حقها الدفاع عن سيادتها بمحاكمة المتهمين طبقًا للقانون الدولي العام والجنائي، ويمكن لتركيا – وهي فعلت- مخاطبة الإنتربول لإصدار مذكرة بالقبض على المتهمين في أي مكان في العالم. 

     وفى حالة امتناع الرياض عن تسليم قتلة خاشقجى لتركيا، لمحاكمتهم أمام القضاء التركي، وهو التزام دولي طبقًا للقانون الدولي، يعتبر انتهاكًا من الرياض لالتزاماتها الدولية، ويعتبر تأييدًا للإفلات من العقاب لمتهمين بارتكاب جريمة تعذيب، وقتل واختفاء قسري، وجريمة ضد الإنسانية، ومخالفة وانتهاكًا صريحًا للقانون الدولي العام والجنائي؛ مما يجعلها تتحمل المسئولية الدولية الجنائية والمدنية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى