دين ودنيا

تأملات قرآنية مع شيخ الإسلام ابن تيمية – ما المقصود بالنسيان في قوله تعالى : (نسوا الله فنسيهم)؟

الدكتور حسين القحطاني

عرض مقالات الكاتب

أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين فقال : (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) “البقرة” وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال : “يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم” اللفظ للإمام البخاري . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : “فهذا الذكر يختص بمن ذكره ، فمن لا يذكره لا يحصل له هذا الذكر ، ومن آمن به وأطاعه ذكره برحمته ، ومن أعرض عن الذكر الذي أنزله أعرض عنه ، كما قال : (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا -إلى قوله – قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) “طه” . وقد فسروا هذا النسيان بأنه إعراض ، وهذا النسيان ضد ذلك الذكر … فهذا يقتضي أنه لا يذكره كما يذكر أهل طاعته ، هو متعلق بمشيئته وقدرته أيضا وهو سبحانه قد خلق هذا العبد وعلم ما سيعمله قبل أن يعمله ، ولما عمل علم ما عمل ورأى عمله ؛ فهذا النسيان لا يناقض ما علمه سبحانه من حال هذا” (الفرقان بين الحق والباطل) . والأدلة على أنه سبحانه منزه عن النسيان كثيرة جدا ، منها قوله : (وما كان ربك نسيا) “مريم” ، وقوله : (لا يضل ربي ولا ينسى) “طه” ، فيحمل لفظ النسيان الذي هو ضد الذكر في الآيات والأحاديث على أنه إعراض وخذلان وهذا ما يدل عليه اللفظ ويعرف معناه من غير تناقض في الأدلة . فمن أقبل على الله سبحانه بقلبه وبأنواع الطاعات ، كالذكر والدعاء ونحو ذلك ، أقبل الله عليه بذكره في نفسه وفي الملإ الأعلى وغشيته رحمته وفضله ورضوانه ، ومن أعرض عنه بقلبه وبأنواع المعاصي والذنوب ، كالغفلة والفسق والكفر ، أعرض الله عنه ، بأن ينساه فلا يذكره ولا يرحمه كما يذكر ويرحم أهل طاعته ، بل لا يبالي به في أي واد هلك . وعقوبة النسيان هذه تكون في الدنيا والآخرة ، فأما في الدنيا كقوله تعالى : (نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون) “التوبة” ، وقوله : (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هو الفاسقون) “الحشر” . أعرضوا عن الله وتركوا طاعته ، واتباع أمره ، فتركهم من توفيقه وهدايته ، ونسوا حق الله الذي أوجبه عليهم ، فكانت العقوبة من جنس أعمالهم ، بأن حرمهم حظهم من الخير والإيمان في الدنيا ، لكي لا يكون لهم في الآخرة نصيب من الرحمة . وأما عقوبة الآخرة فهي أشد وأعظم لأن الآخرة دار حساب وجزاء . قال تعالى : (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين) “الجاثية” ، وقال أيضا : (قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) “طه” . وهذا اليوم العظيم يكون فيه الجزاء من جنس العمل ، فيتركون في عذاب جهنم ولا يبالي بهم أحد ، كما تركوا الإيمان بربهم والعمل بطاعته ولم يبالوا بشرعه ، وإنما عاملهم بجنس أعمالهم ليكون ذلك أشد في العقوبة ، وأقوى في قيام الحجة عليهم ، وأبلغ في ظهور العدل والإنصاف ، “وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا” ، فعاملهم معاملة الناسي لهم ، وهو من الإعرض الذي لا ينظر إليهم ولا يكلمهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى