غير مصنف

قانون “قيصر” جاء في الوقت الضائع!

د. أميرة أبو الفتوح

كاتبة وسينارست مصرية
عرض مقالات الكاتب

لم يكن أحد يتوقع، وخاصة نظام السفاح “بشار الأسد” وداعميه من النظامين الإيراني والروسي؛ أن يأتي شخص مجهول من قلب النظام، ليقلب الطاولة عليهم جميعاً!

هذا الجندي المجهول هو مصور عسكري سوري، هاله ما رآه من وحشية النظام المجرم، فانشق عنه وقرر أن يحاربه بسلاحه الوحيد الذي يمتلكه، وهو كاميرته التي وثقت أكثر من 55 ألف صورة من جرائم الأسد في السجون والمعتقلات في البلاد.

وقد أخفى هويته بالطبع تحسباً من بطش النظام المجرم، واستعار اسم “قيصر”، وأطلع المجتمع الدولي الذي يرى بأم عينه كل المجازر والجرائم، التي يرتكبها النظام الفاشي في سوريا ولا يحرك ساكناً، فجاء هذا البطل المغوار ليحرك المجتمع الدولي، ويحيي ضميره بعد ممات، فلا مناص له اليوم ولا حجة عليه، وقيصر يضع أمام العالم أجمع، معلومات دقيقة وموثقة من داخل سجون الظلام في سوريا، وآلاف الصور لأكثر من 11 ألف سجين قتلوا تحت آلات التعذيب الوحشي على يد زبانية السفاح “بشار”، بين عامي 2011 و2014 فقط..

لقد أثارت صور “قيصر” حين نشرها ضجة عالمية كبرى، إذ كانت صوراً يشيب لها الولدان من فظاعتها ووحشيتها، حيث تم عرضها في مبنى الاتحاد الأوروبي في “بروكسل” وفي الكونجرس الأمريكي، الذي زاره “قيصر” أكثر من مرة وأدلى بشهادته وتحدث عن معاناة السجناء في سجون السفاح “بشار”، وسارعت منظمات حقوق الإنسان العالمية بتوثيقها والمطالبة بالتحقيق فيها.

وطالبت منظمة “هيومان رايتس ووتش” بمحاكمة النظام السوري الإرهابي، ثم أصدرت تقريراً إضافياً بعنوان “إذا كان الموتى يستطيعون الكلام”، وفيه عرضت أدلة فوتوغرافية من تقرير قيصر. كما عُرضت تلك الأدلة في متحف ذكرى “الهولوكوست” بالولايات المتحدة الأمريكية وفي الأمم المتحدة.

وكل ما عُرض هو غيض من فيض من جرائم السفاح “بشار” ضد الشعب السورى، وتعرفها أمريكا جيداً، ولكنها تغض الطرف عنها وتتجاهلها لأسباب عدة، لعل أهمها على الإطلاق؛ أن هذا النظام هو الحارس الأمين لحدود الكيان الصهيوني ويحقق له الأمن والأمان، أيضا خدعة الإرهاب التي يسوقونها عالمياً، ومحاولات النظام الحثيثة ليظهر صورته أمام العالم بأنه يحارب نيابة عنه الإرهاب وداعش في سوريا، وليس السوريين الذين خرجوا يطالبون بالحرية والكرامة والعدالة!

وجدت أمريكا نفسها هذه المرة في مأزق، فهي لا تستطع أن تداري على جرائم النظام السوري وتتغافل عنها، بعد كشفها وفضحها أمام العالم كله، وإلا تكون متواطئة معه وراضية عما يفعله بالسوريين، وهي الرافعة لشعار “حقوق الإنسان” في العالم. ولكي تبعد الشبهات عنها وتبيض وجهها أمام العالم؛ قدمت مشروع “قانون قيصر” لحماية المدنيين السوريين (أطلق عليه هذا الأسم تيمناً باسم الجندي المجهول)..

ظل قانون “قيصر” أكثر من أربعة أعوام حبيساً في أدراج الكونجرس إلى أن أقره أخيراً ودخل حيز التنفيذ، وإن كان “ترامب” ظل يلوح به طوال تلك السنوات الفائتة، بين الحين والآخر، لأسباب أراها خاصة بالمصالح الأمريكية في سوريا وليس من أجل مئات الآلاف من المدنيين الذين أهدرت دماؤهم لتروي الأرض السورية، سواء من البراميل المتفجرة التي يلقيها النظام أو من القنابل المحرمة دولياً التي يقذفها الطيران الروسي في طلعاته الجوية وقصفه المستمر على المدنيين العزل، أو من صواريخ ومدافع الحرس الثورى الإيراني ومليشياته الشيعية المتعددة، من حزب الله إلى المليشيات العراقية والأفغانية، ولا من أجل عشرات الآلاف الذين قضوا تحت ويلات العذاب في السجون السورية طيلة الأربع سنوات الضائعة من عمر قانون “قيصر”!!..

وإذا كان “قانون قيصر” قد تأخر أربع سنوات، فإن المجتمع الدولي ممثلاً بمجلس الأمن، قد غاب تسع سنوات، عمر ثورة سوريا الجريحة التي خذلها الجميع، تسع سنوات مارس خلالها النظام الوحشي وأعوانه الروس والإيرانيون أبشع الجرائم ضد الشعب السوري، جرائم حرب لا تقل وحشية عن جرائم النازية وجرائم المغول والعالم كله صامت، يرى بأم عينيه تلك المجازر الوحشية التي يندى لها الجبين الإنساني، ومع ذلك لا يرف له جفن ولا يرجف له قلب، ولم يتحرك ضميره، ولم يصدر قراراً واحداً من مجلس الأمن يدين ذلك النظام القاتل، ما جعله يتمادى في جرائمه معولاً على الفيتو الروسي والصيني الذي يحصنه من أي عقوبة أو حتى إدانة، ولو أصدر مجلس الأمن قانوناً لحماية المدنيين في سوريا، لأمكنه انقاذ مئات الآلاف قبل أن تزهق أرواحهم ولمنع تشريد ملايين السوريين، ولكنه لم يفعل؛ لأن مَن يحركونه أو يتحكمون في قراراته، لا يريدون أن يتوقف السفاح “بشار” عن سفك دماء شعبه وتدمير سوريا الحبيبة..

والآن وبعد أن قضوا على الثورة ولم يعد لها أي فاعلية ملموسة على الأرض، إلا من بعض المناوشات أو لنقل المشاكسات التي تحدث هنا أو هناك أحيانا، كالتي شاهدتها السويداء ودرعا مؤخراً، تجيء أمريكا بقانون “قيصر” لحماية المدنيين السوريين، حيث لم يعد لهذه الحماية قيمة أو معنى.

لقد جاءت للأسف بعد فوات الأوان، جاءت في الوقت الضائع، وربما كان هذا مقصوداً لإعادة ترتيب الأوضاع في سوريا بعد إجهاض ثورتها، ولتحجيم الدور الروسي والإيراني بعد أداء دورهما الذي حدده اللاعب الأكبر لهما في سوريا، والذي لولا ضوؤه الأخضر الذي أعطاه لهما من وراء البحار، ما وطأت قدماهما الأراضي السورية!

يفرض قانون “قيصر” عقوبات اقتصادية على أركان نظام الأسد وداعميه الإيرانيين والروس وكل شخص أو جهة، أو دولة تتعامل معه، وهذه العقوبات تمثل الحد الأعلى ما دون التدخل السوري المباشر التي يمكن أن يتعرض لها نظام الأسد.

قد نرى أن واجهة “قانون قيصر” الظاهرية مسلطة نحو نظام الأسد بشكل رئيسي؛ إلا أنه في جوهره عابر للحدود ولا يستثني أحدا حتى الدول الصديقة، أو لنقل العميلة، كدولة الإمارات التي شملها القانون أيضا، حيث أنه يضع روسيا وإيران وجها لوجه أمام العقوبات الأمريكية.

وهذا ما أرادته أمريكا من وراء هذا القانون وهدفها الرئيس، فتحت طائلة هذا القانون ستكون جل المؤسسات الروسية عرضة للعقوبات، بدءاً بالجيش الروسي وقيادته، وانتهاءً بمنتجي الأسلحة ورجال الأعمال والمقاولين العسكريين الخاصين وصناعة الطاقة.. جميعهم قد يقعون فريسة للعقوبات الأمريكية، وهذا هو بيت القصيد كما يقولون!

ولذلك هاجمه بشدة مندوب روسيا لدى مجلس الأمن، معتبراً إياه عقوبات غير قانونية وغير مشروعة، فليس من حق الولايات المتحدة فرض عقوبات أحادية الجانب على الدول. وقد أصدرت وزارة الخارجية الروسية بياناً خجولاً أعلنت فيه أن “قانون قيصر الذي يدعي عنايته بالمدنيين في سوريا يستهدف في الواقع السوريين العاديين“..

أما بالنسبة لإيران، فهو يأتي في إطار الضغط المستمر من قِبل الإدارة الأمريكا على حكومة الملالي، وهو ما يعني الكثير بالنسبة لها. فإيران تدرك منذ البداية أنها المستهدفة الأساسية من وراء هذا القانون؛ للحد من نفوذها الاستراتيجي داخل سوريا. كما أن مفاعيل القانون وتداعياته تتعدى إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إلى أذرعها في المنطقة وأهمها على الإطلاق حزب الله ودوره في لبنان، وهذا ما دفع وزير الخارجية الإيراني “محمد جواد ظريف” إلى كسر الحظر الذي فرضه فيروس “كورونا” منذ أربعة أشهر، ليطير سريعاً إلى سوريا وتركيا ومن ثم بعدها إلى روسيا، للبحث عن سبل رادعة في مواجهة القانون الأمريكي..

إن من أهم مطالب الإدارة الأمريكية لوقف “قيصر” خروج إيران من سوريا، وهو ما يضع إيران في مأزق حرج، فهي ليست بصدد الخروج من سوريا بعد ما حققت الجيوستراتيجية التي حلمت بها طويلاً، وأصبح لها منفذ هام على البحر المتوسط، استطاعت من خلاله أن تكون قوة إقليمية كبرى.

كما أنها أنفقت أكثر من 30 مليار دولار في سوريا منذ دخولها الأراضي السورية لإنقاذ أسدها الهزيل من السقوط. وكانت تعول على الاستثمارات المباشرة في سوريا والمشاركة في إعادة تعمير البلاد، لتعويضها هذا المبلغ وتحقيق مكاسب إضافية هائلة، فجاءت هذه العقوبات لتقطع عليها استثمار انتصارها الذي تدعيه! كما أنها في الوقت ذاته لا تستطيع تثبيت الأسد ولا دعمه، وهو الضامن الأكبر لمصالحها في سوريا.

وأيا كانت نية أمريكا وأهدافها من وراء “قانون قيصر” أو جدية ترامب في تنفيذه من عدمها، وخاصة أننا على أبواب الانتخابات الأمريكية التي ستجرى بعد أشهر معدودة، ومن المؤكد أنه سيستخدم القانون ليدعم مواقفه كورقة رابحة له تزيد من فرصه بالفوز في الانتخابات، وبصرف النظر عن هذا وذاك؛ فإن قانون قيصر يقفل الكثير من النوافذ أمام نظام “بشار” الفاشي ويفتح نافذة أمل جديدة أمام السوريين، ربما تدخلها الشمس قريباً؛ لتطهر سوريا من الأسد وعصابته وإيران وذيولها، وتنهي الاحتلال الروسي في سوريتنا الحبيبة، قلب الأمة ومهجتها..

وأخيراً لا بد أن نتوجه بالشكر والعرفان، لذلك البطل المغوار والجندي المجهول “قيصر”، الذي خاطر بحياته من أجل نقل معاناة الشعب السوري إلى العالم أجمع..

المصدر: عربي21
https://arabi21.com/story/1281027/%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86-%22%D9%82%D9%8A%D8%B5%D8%B1%22-%D8%AC%D8%A7%D8%A1-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%82%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B6%D8%A7%D8%A6%D8%B9

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى