ثقافة وأدب

اغتصاب الياسمين رواية فراتية (لرشا الحسين)

د. مصطفى عبد القادر

أديب وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب

خلوت بنفسي مع رواية جديدة لأسبر غور قلم نسائي ناهض في محاولة مني لاكتشاف جماليات سردية (متوقعة) بداية،وذلك نظرا لقلة الأقلام النسائية الفراتية التي تطفو على المشهد الأدبي من ناحية، ورغبتي الجامحة في متابعة وتتبع مايخطه أبناء وبنات بلدي استحبابا أو فضولا من ناحية ثانية.
(اغتصاب الياسمين) مسرود روائي توثيقي واقعي بامتياز،خرج من رحم حاضنته الاجتماعية،ولاضير في ذلك
لأنه نهج أدبي معترف به، ويطلق عليه (سيسيولوجيا علم الاجتماع الأدبي). الكاتبة رصدت مرحلة الثمانينيات من القرن المنصرم في وطن استبيحت أرضه وشعبه…
(أثير) بطلة الرواية فتاة عشرينية جميلة طموحة،خرجت من مجتمع شرقي أميل للانغلاق رغم (انفتاح أسرتها) لتلتحق بكلية الطب في جامعة دمشق، فكانت مثل سمكة صغيرة نقلت من البحيرة إلى البحر، أو من الساقية إلى النهر
ص 47/تلك هي الحقيقة الدائمة والأكيدة وربما الوحيدة
لمجتمع يرفض كل دور لتاء التأنيث إلا فيما يخص ذكوريته/
في دمشق تتشابك علائق المجتمع وتتعقد،حيث يتداخل الغنى مع الفقر،والفسق مع الطهر،والفرح مع القهر في لوحات
(بانورامية) سوداء من الداخل،بيضاء من الخارج،رسمتها سياسة(كافكوية) لايرتوي سدنتها إلا من بئر(البراغماتية)الآسن.ص 264/اللعبة كبيرة جدا،واغتصاب صوت الناس ووجدانهم صار عرفا سياسيا لئيما،وشرطا مطلوبا على أكثر من صعيد لمتابعة الوجود على هذا الكرسي الأصم/. ومن الشخوص المحورية في الرواية(أم جوزيف) الأرملة الخمسينية الواعية التي تبدت مواقفها الإنسانية والوطنية في مستويات عالية ،فهي من جابه دورية العسكر بكل شجاعة حين أتت لاعتقال (أثير) ص 285/لن تأخذها ياهذا إلا على جثتي.دعها تبدل ملابسها وسأصحبها/.كما أنها هربت (حيان)شقيق(أثير) إلى لبنان ثم إلى أوربا خشية اعتقاله بعد مشاركته في المظاهرات السلمية. أما صديقات البطلة(روز،رنيم،هيام)كن أكثر انقيادا وتجاوبا مع من هوين أو أحببن.كلهن تمردن على رقابة (أم جوزيف)الصارمة بالحيلة والتذرع،وبنين علاقات عاطفية أو مصلحية مع شبان في الجامعة وخارجها،في حين كانت (أثير)أكثرهن توازنا،وأقلهن انفلاشا…إلى أن لانت وضعفت تحت ضغط الظروف الصعبة التي مرت بها،وجملة الخدمات التي قدمها لها(جمال)ابن مستشار الرئيس،حيث توسط لها في الجامعة لتنجح في الكثير من المواد التي كانت راسبة فيها،إضافة لإخراجه لشقيقها(سرحان)من الاعتقال.
وفي ليلة رأس السنة سهرت(أثير) في قصر(دريد)ابن وزير الداخلية صديق(رنيم)بصحبة (جمال)صديقها الذي خطط لافتراسها ومهد له…وبعد تمنع ومقاومة منها استطاع(جمال)
قطف الياسمين عنوة…الصفحة الأخيرة/حاولت لملمة نفسي وربط حمالة صدري المقطوعة،وغسلت دموعي الياسمين الذي قطف من على جسدي…/.
بناء عليه نخلص للآتي
1-إن البنية السردية للرواية كانت أقرب للتماسك رغم حاجتها إلى القليل من التراص في بعض المواضع وذلك بغية الابتعاد عن الفائض المجاني من السرد،وليبدو نسيج الرواية أكثر تعاضدا ورصفا في بنائه المعماري.
2-نهضت الرواية في جزء معقول منها على الحوار،وهو تقنية مسرحية بالأساس استخدمته الساردة بكثير من العناية والدراسة،ماأدى إلى الكشف عن أحداث،وإظهار أبعاد الشخصيات لاسيما المحورية،مما ساعد على اكتمال رؤية القارىء.
3-استخدمت الساردة لغة شعرية مطواعة سلسلة خدمت أبطالها مما يعني أنها لاتعاني من فقر في قاموسها الشعري
وقد أحسنت التوظيف والانتقاء.
4-لانستطيع نكران تلك الجرأة التي تحلت بها الساردة خاصة في قضايا تعاطي الطالبات الحب مع من أحببن أو هوين،فقد مورست الجرأة لخدمة البناء الدرامي للرواية
وليس من باب الإقحام التسويقي الذي يمارسه بعض الكتاب.
5-لمسنا بعض التغافل في رسم شخوص الرواية من الخارج ماخلا نزر يسير لم يستطع بلورة هذه الشخوص وتصويرها بالشكل الذي يغنيها في عين القارىء،ويثبتها في ذاكرته،ماخفف من منسوب التعاطف أو الكره مع بعض الشخصيات المحورية.
6-إيقاع الرواية كان ينوس بين التأزم وسرعة التوتر في بعض الفصول ،والخفوت والرتابة في فصول أخرى،وأظن أن سياق السرد وتراتبيته كان له الدور الكبير في فرض ذلك.
7-قدمت لنا الساردة كما كبيرا من الحكم والمقولات استخلصتهما من سياقها السردي،أو تمهيدا لما هو آت لاحقا .ذلك أمر مستحسن لكنه مشروط بعدم الإفراط فيه.
8-وفقت الساردة في اختيار أسماء أبطالها حيث لمسنا الارتباط الوثيق بين أسماء الشخوص ودلالاتها الفكرية والسلوكية مثل (سرحان،حيان،روز،رنيم…).
مآل القول.رغم كل ماأبديناه من ملاحظات (حسب زعمنا) فنحن نسر حين نشهد ولادة نتاج أدبي لقلم نسائي فراتي فكيف إذا كان هذا (المنتج) قد امتلك أدواته الفنية،وتقنياته السردية،وبذل محاولة جدية للوصول إلى القراء وقد وصل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى