بحوث ودراسات

دفاع عن العروبة: ملاحظات على مراجعة عبد الإله بلقزيز لمفهوم الوحدة العربية 5 من 6

د. قصي غريب

كاتب وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب

إن التوحيد القومي العربي سوف ينجح، فعلى الرغم من حالة التفكك، والتمزق، التي تعيشها الأمة العربية نتيجة الضعف العربي العام، لعدم وجود دولة قائدة للنظام الإقليمي العربي، تكون أنموذجاً صحيحاً وفاعلاً ومؤثراً تجاه تحقيق الوحدة العربية المنشودة، ويكون لها تأثير إقليمي فاعل ومؤثر، إلا أن الكثير من الدول العربية، والأحزاب والحركات والمؤسسات والأفراد، لا يزالون تحت وصاية العروبة، فالكثير من الدول القطرية لا تزال تقر وتنص دساتيرها على أنها دول عربية، وعلى أن شعوبها أجزاء من الأمة العربية، كما أن بعض المؤسسات القومية مثل مركز دراسات الوحدة العربية ما زال يعنى بقضايا الوحدة العربية ومشكلات المجتمع العربي، وآخر ما طرحه على أبناء الأمة العربية في شباط 2010 من أجل الوصول إلى الوحدة العربية المشروع النهضوي العربي(67). ومن جانب آخر أمامنا التجربة التاريخية العربية والعالمية، فعلى المستوى العربي هنالك الكثير من المشاريع الوحدوية الرسمية وغير الرسمية، لمحاولات التوحيد العربي، والتي انطلقت منذ بداية القرن العشرين(68). وعلى المستوى العالمي أمامنا تجربة الاتحاد الأوربي، فعلى الرغم من تعدد اللغات، والثقافات، وتراث حافل بالحروب بين الأوربيين، فإن أوربة تتوحد، مع أن العرب أولى بالاتحاد من الأوربيين، فنحن العرب تجمع بيننا لغة واحدة، وثقافة مشتركة، وتراث مشترك، ومصالح مشتركة، وشعور بوحدة المصير، فالوضع العربي الحالي يشبه تماماً حالتي ألمانية وإيطالية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فقد كانت الدولتان عبارة عن دويلات، وفي الوقت الحاضر ألمانية دولة اتحادية، وإيطالية دولة واحدة.

وفي ص 112 دكتور بلقزيز : ” يعرف القوميون في التصنيف التقليدي الدارج بأنهم دعاة الوحدة العربية، حتى إن الصفة ما عادت تعييناً معرفياً من ملحقات الذات، وإنما باتت ماهية. وما أغنانا عن القول إن هذا الضرب من التعيين الجوهراني أو الماهوي للقوميين مسيء لهم وللفكرة الوحدوية على السواء. يسيئهم أن يقال في حقهم إنهم وحدويون فقط أو أن الوحدة كل قضيتهم، وكل ما لديهم، وإن ما عداها ليس لهم فيه حظ أو نصيب، ومعنى الإساءة لا يعود إلى وحدويتهم، وإنما إلى النظر إليها بما هي كل بضاعتهم، وهو ما يفيد – بالتفصيل والاستطراد والتبعة – أنهم مثلاً ليسوا ديمقراطيين، ولا تشغلهم مسألة العدل الاجتماعي، والتنمية الاقتصادية، وما شاكل، أو أنهم إذا ما شغلوا بها ففي اتصالها بمسألة الوحدة، أو لاتصالها العرضي بها، ثم إن الإساءة تلحق الفكرة الوحدوية بذلك التعيين، لأن ربطها الحصري بالقوميين يفهم منه أنها ليست قضية الأمة جمعاء، ولا تياراتها الاجتماعية والسياسية والثقافية كافة، بل قضية تيار واحد منها فحسب، مما يفقدها امتياز الإجماع الوطني والقومي، ويدخلها في ساحات المنازعات والإختلافات كمسألة خلافية “.

لا يعيب القوميين العرب أبداً أن يصنفوا بأنهم دعاة الوحدة العربية، ولا يسيئهم أبداً أن تكون وحدة العرب هذه القضية الكبيرة والنبيلة كل قضيتهم، وكل ما لديهم، وكل بضاعتهم، ولكن العيب والإساءة لهم بمحاولة تجريدهم من كل شيء باسم النقد والتصحيح، الذي يبدو إلى الآن في هذا النص أنه يجانب الموضوعية، ويفتقر إلى العقلانية، فعلى الرغم من أن الوحدة العربية القضية الرئيسة للقوميين العرب، ولكن من الإفتئات والتجني عليهم بأنهم لم تشغل بعضهم قضايا كبرى مثل الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والتنمية الاقتصادية، كما أن الإساءة لا تلحق بالفكرة الوحدوية لارتباطها حصراً بالقوميين، والسبب لأن التيارات الاجتماعية والثقافية الآخرى لم تجعل منها قضيتها، ولم تكن قضيتها، بل إنها وقفت منها موقفا عدائياً شعوبياً، فالتيار الذي ادعى الوصل بالإسلام تظاهر بالأممية الإسلامية، فالوطن يشمل الأرض كلها، ومن ثم استناداً إلى فهمه للقومية في معانيها ومضامينها الغربية انتهى إلى إصدار مواقف فكرية عدائية ضد القومية العربية، تقترب بل تلتقي في محصلتها النهائية مع الشعوبية، مع أن هذا التيار بعض مفكريه الكبار مثل حسن البنا، ومحمد المبارك، وسعيد حوى، قد قالوا خيراً في العروبة إلا أن كتاباتهم في هذا المجال لا تروج ولا تسوق أبداً(69). أما الماركسيون لا يقبلون بأقل من دولة أممية، فعلى سبيل المثال عندما عرض الحزب الشيوعي السوري مشروع برنامجه السياسي الذي أعلن عن وجود الأمة العربية وجعل من أهم أهدافه النضال لتحقيق الوحدة العربية، انشق الحزب إلى نصفين حزب عربي بقيادة رياض الترك، وحزب أقليات بقيادة خالد بكداش(70). في حين ذهب بعض المثقفين الليبراليين مثل دكتور لويس عوض إلى اصدار أحكام وآراء مجافية للحق ومنحرفة عن المنهج العلمي، وصلت إلى حد الافتراء ضد القومية العربية والوحدة العربية، عندما قال : ” إن الأسطورة الانعزالية لا تقل شططاً عن أسطورة أخرى هي الاندماجية، المتمثلة في دعوة القومية العربية، التي تفرض أن شعوب المنطقة أو أقوامها من الخليج إلى المحيط أمة واحدة، ليس فقط ثقافياً وحضارياً ولكن عرقياً وعنصرياً… وهذه الأسطورة أسطورة العروبة العرقية … لا تقل شططاً وخطراً عن أسطورة الآرية العرقية أيام النازي “(71).

وبناء على ذلك فإن السيئة لا تلحق بالقوميين العرب، بقدر ما تلحق العيب بغيرهم من تيارات اجتماعية وسياسية وثقافية أخرى، وكان ساطع الحصري قد شخص هذه الحالة الشاذة عندما قال : ” إن فكرة العروبة لا تزال تجابه مقاومة شديدة من بعض البيئات، كما أنها تتعرض إلى هجمات عنيفة من بعض الهيئات، هناك طائفة من الكتاب والساسة لا تؤمن بوحدة الأمة العربية، ولذلك لا تبذل أي جهد في هذا السبيل، وبينهم من لا يكتفي باتخاذ مثل هذا الموقف السلبي في هذا المضمار، بل يزدري بكل من يؤمن بوحدة الأمة العربية، ويتهمهم بالخيالية، والبعض منهم يمضي في هذا المضمار إلى أبعد من ذلك يتهم دعاة العروبة بضعف التفكير وينتقدهم أشد الانتقاد، ولكن هناك طائفة أخرى لا تكتفي بنقد وتسخيف فكرة الوحدة العربية، بل تعتبر هذه الفكرة من الأمور الضارة التي يجب محاربتها، وتتهجم على العروبة وعلى دعاتها هجوما عنيفاً “(72). ولهذا انحصرت الصفة الوحدوية وارتبطت باسم القوميين حصراً، ولم ترتبط بأحد غيرهم، لأنهم الوحيدون فقط الذين حملوها فكرة، ودفعوا من أجل تحقيقها أثماناً باهضة جداً من الحرية والحياة.

وفي ص 116 – 117 قال بلقزيز : ” الدولة التي ناضل الوحدويون في المشرق العربي من أجل إلغائها، لأنها غير شرعية، هي الدولة التي ناضل الوحدويون والوطنيون في المغرب العربي ومصر واليمن من أجل تحريرها من قبضة الاحتلال الإجنبي … الدولة القطرية التي رسم الاستعمار حدودها، وإن لم تولد شرعية، اكتسبت مع الزمن كثيراً من مصادر شرعيتها من طريق الحقائق السياسية والاجتماعية والثقافية والنفسية، التي خلقتها على مدى عقود طويلة، وإن أية محاولة لإسقاط تلك الشرعية أو تجاهلها – بدعوى أن الحقوق لا تسقط بالتقادم – سيصطدم بممانعات شديدة من تلك الكيانات القطرية، لا من نخبها الحاكمة فحسب، وإنما من شعوبها وتياراتها غير القومية، وحينها ما الفائدة من التجديف اليائس ضد أمر واقع لا يقتلع بالرغبات والأماني ؟ “.

يبدو من هذا التنظير الفكري أنه ميل واضح إلى تقوية وتكريس النزعة القطرية، وميل إلى تعميق الخصوصيات القطرية على حساب الدعوة إلى الإيمان بالوحدة العربية، ومما يؤسف له كل الأسف أن مفكراً قومياً عربياً بحجم بلقزيز يدافع عن شرعية الدولة القطرية، ويحاول تحويلها إلى صنم مقدس، وهي عاجزة عن تقديم أي إنجاز حقيقي كما قال في صفحة 117 فهي : ” لا تستطيع بإمكاناتها الذاتية المحدودة أن تجيب عن معضلات الأمن والتنمية والتقدم “. وبذلك فإنه قد وقع بالمحظور، لأنه يزعم أنه مفكر قومي عربي، فقد كان الأنجع منه أن يظهر كل عيوب الدولة القطرية، ولا مانع من تقوية الإيجابيات التي تنمي السعي إلى الوحدة العربية، ويفلسف وينظر لكل الآليات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والسياسية، التي تعمل بخطوات عملية حثيثة تجاه تحقيق الوحدة، وليس العكس، نعم صحيح لقد تغولت الدولة القطرية، وأصبحت قوة مادية لا يستهان بها، ولكنها لم ولن تصبح يوماً قوة أيديولوجية، بعكس قوة فكرة العروبة التي تجمع الشعب العربي في كل كياناته القطرية على الرغم من حالة التفكك والتمزق التي يعيشها العرب .

إن الدفاع المستميت عن شرعية الدولة القطرية، ومحاولة تحويلها إلى صنم مقدس، من خلال المنادى بقومنتها، هو نسيان أو تناس أن الخطر الرئيس الذي يواجه الوحدة العربية المنشودة هو خطر تأييد الكيانات القطرية اللقيطة، وقومنتها، فلقد قال ساطع الحصري : ” إن تطور الأحوال الاجتماعية والسياسية في البلاد العربية يسير على الدوام نحو إضعاف النزعات الإقليمية، وتقوية الإيمان بوحدة الأمة العربية “(73). ولكن يبدو أن تطور الأحوال الفكرية في زمن الثناء على الجماعات الطائفية الانقسامية المغلقة وتمجيدها يسير تجاه تقوية النزعات الإقليمية وإضعاف الإيمان بوحدة الأمة العربية.

وفي ص 120 – 121 قال بلقزيز : ” إن المفردات الحقيقية للوحدة ليست المفردات الأيديولوجية والتعبوية التي ألفناها وأدمن عليها خطابنا القومي طويلاً – التاريخ المشترك اللسان الواحد الأمة الواحدة … الخ – وإنما هي المصالح المشتركة، والمصير المشترك، والمنافع المادية المتبادلة، والسوق المشتركة، والاندماج الاقتصادي، والوحدة الجمركية، والوحدة النقدية … الخ “. ثم يضع هامشاً رقمه 26 في ص 121 قال فيه عن التاريخ المشترك، واللسان الواحد، والأمة الواحدة : ” لا شك في قيمة هذه المفردات وفي جدواها بشرط أن تجند في مشروع جدي للتوحيد وإلا تحولت إلى مجرد بخور سياسي “.

من خلال قراءة هذه الفقرات يتبين أن بلقزيز ما زال مصراً على استئصال مكونات الأمة، فهو لا يرى أية قيمة سياسية للتاريخ المشترك، واللسان الواحد، والأمة الواحدة، وينبري للدفاع عن عوامل اقتصادية، في الوقت إن مقياس وجود الأمة العربية كان دائماً وحدة الثقافة واللغة، اللتين تشكلان الهوية العربية، التي هي من مقومات الأمة ومقدساتها، فتجريد العرب من انتمائهم هو اعتداء صارخ على حقهم في الحفاظ على مقوماتهم، ولذلك لا يجوز أبداً المطالبة باستئصال مكونات الأمة، لأن المطالبة بذلك يجعل من صاحبها خارج إطار الولاء للأمة العربية، فمحاولة إلغاء واستئصال الهوية العربية التي تؤلف خصائص وميزات الشعب العربي دعوة خطرة جداً، ونسأل بلقزيز هل يمكن أن يتخلى الفرنسيون أو الألمان أو أي شعب أوربي عن هوياتهم القومية، وإن انضووا تحت لواء الاتحاد الأوربي ؟، ولذلك فإن دعوتكم إلى إلغاء هذه المكونات فيها الكثير من التطرف والمغالاة، لأنه لا يمكن أبداً إلغاء الهوية العربية بتعلة المصلحة، لقد كان من الواجب والمفروض عليكم كونكم مفكراً قومياً عربياً أن تؤكدوا أن إقامة الكيان السياسي العربي المنشود يجب أن يكون إلى جانب الأسس الآتية : التاريخ المشترك، واللسان الواحد، والأمة الواحدة، مفردات المصالح المشتركة، والمصير المشترك، والمنافع المادية المتبادلة، والسوق المشتركة، والاندماج الاقتصادي، والوحدة الجمركية، والوحدة النقدية، لتكون العروبة رابطة لغة وثقافة وتراث وتاريخ ومصالح مشتركة ووعي بمصير واحد، فالأمم لا تقوم إلا على أسس وروابط ثقافية وسياسية واقتصادية.

وفي ص 121 – 122 قال بلقزيز : ” يشعر القارئ في نصوص الفكر القومي بحضور كثيف لفكرة الحتمية عند تناول مسألة الوحدة العربية، وعلى نحو تبدو فيه الوحدة قدراً مقدوراً ومصيراً آتياً لا ريب فيه … إن أول ما نحتاج إلى اعتماده في رؤيتنا إلى مسألة الوحدة هو القاعدة التالية : إن الوحدة العربية ليست حتمية تاريخية “.

من خلال العقل المتشبع بقيم الموضوعية، والممكن التاريخي، والإيمان بقوانين التاريخ، والواقع الموضوعي، فالوحدة العربية سوف تبقى قدراً مقدوراً ومصيراً آتياً لا ريب فيه، وحتمية تاريخية، من منطلق أن الأمة العربية قد توافر لها من المقومات القومية التي تعطيها فرصة كبيرة وكبيرة جداً لقيام دولة واحدة، أو دولة اتحادية، ما لم يتوافر لأية أمة أخرى على وجه الأرض، وخاصة إذا تهيأ لها مشروع نهضوي قومي، وإرادة سياسية حرة وصادقة، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية ظهرت محاولات لتوحيد الدول العربية، وكانت أولها في إنشاء جامعة الدول العربية كما ” آمن الوحدويون العرب بصورة لا تخلو من الاستمرارية وبالاستناد إلى تجارب التاريخ الوحدوية بأن الوحدة العربية لا بد أن ترتكز في مسيرتها للتحقق الذاتي إلى قطر مركزي تتمحور حوله الجهود والصبوات الوحدوية، ويكون مركز الثقل في حركة الدفع باتجاه الوحدة واجتذاب سائر الأقطار إليها وقد اتجهت الأنظار منذ البدايات الأولى إلى مصر لتلعب بحكم موقعها الجغرافي وثقلها السكاني وتطورها الثقافي النسبي دور الإقليم – القاعدة، وقد لعبت مصر بالفعل بعض هذا الدور في عهد قيادة جمال عبد الناصر لثورة يوليو، وقد كانت توقعات الوحدويين العرب في محلها، لأن الوحدة الوحيدة التي تحققت في تاريخ العرب الحديث إنما كانت وحدة 1958 التي كانت مصر طرفاً مركزياً فيها (74). وبما أن الوحدة العربية حتمية تاريخية، كان هنالك على الدوام مشاريع وحدوية عربية رسمية تعرض فتحققت وحدات عربية إقليمية مثل : مجلس التعاون الخليجي – لحد الآن هو اتحاد وظيفي – واتحاد المغرب العربي – للأسف شبه متوقف – ومجلس التعاون العربي – انتهى – وهي على الرغم من كل شيء تبقى محاولات وخطوات إيجابية لتوحيد الدول العربية، ودليلاً قاطعاً على أن الوحدة ” قدراً مقدوراً ومصيراً آتياً لا ريب فيه … وحتمية تاريخية ” بمقدار ما يتهيأ لها مشروع تاريخي وبمقدار ما يعمل عليه بدأب وإصرار “.

وفي ص 123 قال بلقزيز : ” وطن في أذهان القوميين طويلاً أنهم وحدهم من دون سواهم حزب الفكرة العربية ودعاتها وألسنتها الناطقة بها وجمهورها المناضل من أجلها، وغيرهم القريبون منها ضيف عليها في أحسن أحوال الظن به … والتلازم في وعي القوميين بينهم والفكرة العربية – هو – ما كان أساس تسميتهم قوميين تميييزاً لهم … ارتضى القوميون لأنفسهم التسمية، وما أبوها لأنها لهم في مقام الماهية، وبها من غيرهم يتميزون ويتمايزون، بل بها ينتزعون من ذلك الغير التسليم بأن المسألة القومية إقطاعهم السياسي، الذي أقطعه لهم نوع من التوزيع الأيديولوجي، لإسقاط الدور التاريخي العائد إلى هذا الفريق أو ذاك من قوى السياسة والفكر والأيديولوجية والحزبية في المجتمع العربي “.

من الظلم والتعسف والخروج عن الموضوعية التاريخية المطلوبة في الكتابة اتهام القوميين العرب الذين حملوا وحدهم المسألة القومية، عندما تخلى عنها الآخرون، بأنهم احتكروها وجعلوها إقطاعهم السياسي، فالوقائع التاريخية تؤكد على أنهم لم يقفوا أو يمنعوا بتاتاً أي تيار سياسي سواء كان إسلامياً أو ماركسياً أو ليبرالياً من المشاركة في رفع لوائها، بل إن هؤلاء تخلوا عنها تهرباً من تحمل المسئولية القومية والشرعية، واهتموا بقضايا ومشكلات خارج الحدود، وكانت لهم مواقف معادية للفكرة القومية والوحدة العربية تلتقي في محصلتها النهائية مع الشعوبية، فعلى سبيل المثال التاريخي عندما أعلنت وقامت الجمهورية العربية المتحدة بوحدة سورية ومصر في شباط 1958 وقف الحزب الشيوعي السوري وأمينه العام خالد بكداش ضد الوحدة، وغادر سورية احتجاجاً عليها، وعاد إلى سورية بعد قيام انقلاب الانفصال في أيلول 1961، وقد قال عبد الحسين شعبان : ” وقف الحزب الشيوعي السوري ضد وحدة 1958 فالأمين العام خالد بكداش لم يحضر جلسة مجلس النواب، ولم يصوت مع الوحدة، وظل متمسكاً بموقفه حتى وفاته “(75). وقال : ” لقد تعاملت الأدبيات الماركسية مع المسألة القومية باستخفاف كبير وكنا غالباً ما نتندر على القومية والقومجية “(76). وقال : ” كنت أعجب كيف أن قومياً كردياً أو ماركسياً كردياً يعتز بكرديته … ولا يقابله ماركسي عربي أو شيوعي عربي الاعتزاز ذاته ؟ والأمر يحصل بذات الدهشة لي عندما أقابل ماركسياً روسياً أو تركياً أو إيرانياً يعتز بقوميته، في حين لم نكن نجد وسيلة إلا وحاولنا فيها الانتقاص من الانتماء القومي، لا سيما العروبي “. وقال : ” لعل الموقف من القضية العربية لا سيما موضوع الوحدة أو الاتحاد ظل يمثل عنصر ضعف لدى الحركة الشيوعية بشكل عام “(77).

ولكن من المفارقة العجيبة التي يجب أن تذكر هنا إن الإسلاميين والماركسيين في كل دول العالم ما عدا الماركسيين والإسلاميين في الدول العربية يكونون في مقدمة المدافعين عن هوياتهم القومية، وحاملين لواءها وفي الصفوف الأمامية عندما تتعرض أوطانهم إلى المحن والشدائد، ليقدموا من أجلها الحرية والحياة، ولذلك فإن حمل القوميين العرب لواء القومية وحدهم وتخلي الآخرين عن مسئولياتهم وواجباتهم القومية والشرعية ليس احتكاراً وإقطاعاً سياسياً بقدر ما هو فرض وواجب وضرورة وشرف كبير، ومن ثم ليس سبة أو سلبية تحسب عليهم من أجل إعطاء صك براءة للآخر المتخاذل فكرياً وعملياً عن واجبه، فالقول باحتكار القوميين العرب المسألة القومية هو تبسيط رث من أجل تبرئة الآخرين الذين تخلوا عنها من أجل تحقيق الأمميات، كما إن القول باحتكار القوميين العرب الفكرة القومية والمسألة القومية والوحدة العربية وجعلها إقطاعهم السياسي يتناقض تماماً مع ما قلت في ص 123 : ” ربما كان من حق القوميين أن يروا في أنفسهم سدنة للفكرة العربية، فلقد كانوا لأزمان متطاولة شديدي التمسك بها في السراء والضراء، وقدموا في سبيلها أعز ما يطلب العقل والوجدان والحرية والحياة، ولم يكن غيرهم يأبه لأمرها، إما لأنها بدت للبعض فكرة تنقض مشروعه وتهدده في الوجود – = الفكرة الوطنية النهائية – أو تنافسه على دور وتزاحم مشروعه على مستقبل وكيانية أخرى – = الفكرة الإسلامية – أو لأنها بدت لبعض ثان فكرة برجوازية عفا عليها التاريخ تجذف ضد قانون التراكم والتقدم – = الفكرة الأممية – أو لأنها بدت لبعض ثالث فكرة متمذهبة منغلقة تحول الوحدة من برنامج سياسي إلى فلسفة في الحياة وعقيدة وإذ حاربها من حاربها، وأعرض عنها من أعرض، وتردد في أمرها من تردد، فقد بقي القوميون وحدهم في المعبد مرابطون فمن ذا الذي ينازعهم في حق التمثيل ؟ “.

وفي ص 124 قال بلقزيز : ” ومن وجوه الخطيئة أن يستمرئ القوميون شعورهم الدائم بأنهم وحدهم أمناء هيكل الوحدة، لم ينتبهوا في الماضي إلى أن انسياقهم وراء إغراء التمثيل الأوحدي للعروبة والوحدة حول الفكرة العربية من فكرة عامة إلى أيديولوجية سياسية، من قضية للأمة جمعاء إلى قضية فريق سياسي وثقافي في المجتمع، من جامع إلى مسألة خلافية ! وكان الضرر الناجم من ذلك فادحاً “.

إن هنالك فرق كبير جداً بين حالة الانتماء العربي التي هي انتماء شعوري فطري ووجداني وحالة الانتماء العروبي أو العروبة السياسية التي هي أيديولوجية أو عقيدة، فالعربي هو كل من ينتسب إلى العرب بحكم الانتماء العام مهما كان بلده أو دينه أو مذهبه أو اتجاهه السياسي، ولكن على الرغم من هذا الانتساب إلى العرب بحكم الانتماء العام إلا أنه هنالك بعض الدوائر الرسمية والشعبية من يتنكر للانتماء العربي وتتمسك بهويات أخرى مختلفة،

في حين إن العروبي هو كل من تجيش في نفسه روح الانتماء إلى الأمة العربية، ويعتز ويفتخر بالانتماء العربي، والهوية العربية، ولديه العروبة هوية ثقافية وحضارية وسياسية، بعيدة عن العنصرية، تقوم على الإيمان بمشروع نهضوي عربي يسعى إلى إقامة كيان سياسي عربي موحد على أساس الهوية العربية، ويرفع لواء هذه العروبة السياسية أحزاب وحركات وأفراد، وبهذا تكون ” قضية فريق سياسي وثقافي في المجتمع ” ولكن الدعوة إليها عامة، لأنها أيديولوجية سياسية مثل أي أيديولوجية في العالم، وفي هذا قال برهان غليون : ” من الضروري كي نفهم معاً أزمة الهوية التي نتحدث عنها كثيراً في هذه الأيام التمييز بين الهوية من حيث هي واقع الجماعة المادي العملي، وبين تصور الجماعة لهذه الهوية، فقد أكون عربي الأصل واللغة – شخصيتي المادية – ولكنني أعتبر نفسي غير ذلك، أو أرى نفسي في مرآة عقيدية تجعلني أنظر إلى هذه الحقيقة الموضوعية نظرة ذاتية مختلفة وبقدر تطابق التصور مع الواقع تكون قوة الشخصية واتزانها واتساقها بل وجودها كمقر لارادة مستقلة وفاعلة “(78).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى