مقالات

سياسة التجزئة وتفكيك بلاد الشام (1)

معاذ السرّاج

باحث في تاريخ سورية المعاصر وشؤون الحركات الإسلامية
عرض مقالات الكاتب

تندرج هذه المسألة تحت عنوان مسؤولية الأوربيين عن المشكلات والمآسي التي وقعت لشعوب وبلاد عديدة في الشرق الأوسط وبلاد البلقان وغيرها, منذ بدايات القرن العشرين. وإذا كانت بلاد الشام قد نجت من كوارث الحرب العالمية الأولى, إلا أنها لم تنج من عواقب نتائجها وما ترتب عليها من إعادة رسم الخرائط والسياسات, وتوزيع مناطق النفوذ ومصالح القوى الكبرى. ومنذ ذلك الحين تجزأت بلاد الشام, أو سورية الكبرى, إلى دويلات عدة, واقتطعت منها مساحات شاسعة, لحساب دول وكيانات أخرى, ونتجت عن ذلك قضايا كبرى ومآس كثيرة لاتزال آثارها وجرائرها تتوالى حتى يومنا هذا, ومن بينها القضية الفلسطينية.. بل عن ما يحدث اليوم في أكثر بلدان المنطقة من ثورات وانتفاضات, ليس بعيدا عن نتائج تلك السياسات التي فرضت على المنطقة وشعوبها منذ تلك الفترة.

عبارتان تلخصان بصورة دقيقة الحالة التي كان عليها العرب بعد الحرب الأولى عام 1918, ينقلهما المؤرخ جيرمي سولت في كتابه “تفتيت الشرق الأوسط”, عن كتاب “يقظة العرب” لمؤلفه “أنطونيوس”. الأولى قوله:

” القوميون العرب في كل مكان ينظرون لمسرح أحداث ما بعد الحرب بيأس..”. والثانية نقلا من المصدر نفسه عن الشريف حسين في رسالة مفتوحة “للشعب البريطاني النبيل”, يلخص الأذى الشديد الذي ناله شخصيا ونال العرب معه:

“لقد مزقوا وحدتهم أشلاء, وتفتت بلادهم واحتلت.. ولا أعرف أي ذنب جنوه ليستحقوا هذه الأقدار.. باستثناء ثقتهم المطلقة وولائهم لبريطانيا العظمى –إذا كان هذا حقا ذنبا- .. ولا يعرف أحد غير الله إلى أين سيقودهم يأسهم” 108

بالنسبة للعرب, فإن نتائج الحرب العالمية الأولى قضت تماما على مشروع النهضة العربية, وحلم الدولة العربية الكبرى, ولأول مرة منذ أربعة قرون, يُقضى على الوحدة السياسية للأقاليم العربية بسقوط الخلافة, ويترافق ذلك مع انتهاء الوحدة الجغرافية بحلول قوى الاستعمار والانتدابات الأجنبية التي تقاسمت بلاد الشام والعراق, ووضعت الحدود والحواجز الجمركية فيما بينها, فيما كانت معاول الهدم والتفكيك الاجتماعي والثقافي تعمل بجد واجتهاد, من داخل المجتمعات العربية نفسها, وتحفر عميقا في أسس الوحدة وعواملها ومقوماتها.

إن نظرة واحدة إلى خارطة سوريا الطبيعية عام 1920, كافية لتوضيح إلى أي حد جرى التلاعب بتلك البلاد, وتفتيتها وشرذمتها بصورة مريعة, ولعل العبارة التالية التي ننقلها عن المؤرخ جيرمي سولت, والتي وصف تفتيت الدولة العثمانية, تعبر أصدق تعبير عما حل بسوريا وبلاد الشام على أيدي الوربيين:

“لقد مزقوها إربا مثلما تُنزع مفاصل الدجاجة قبل الأكل, حتى ألمانيا نفسها, لم تتكبد تقطيع الأوصال وانتزاع الأحشاء”.

ما حل بسورية من عمليات التمزيق, وتقطيع الأوصال, والتفكيك الجغرافي والاجتماعي والسكاني, واصطناع الحدود والحواجز, والهويات المجتزأة, أحالها إلى لوحة مبعثرة لا تكاد تتوفر على الحد الأدنى من عوامل الانسجام والترابط, بعد أن كانت إلى عهد قريب تُعد واحة للحرية والانفتاح, وموئلا لعشرات الهجرات من شتى البقاع بما فيها أوربا نفسها, وتتعايش على أرضها وترابها شعوب وأقوام, وملل ومذاهب, على نحو فريد قلما شهدته بلاد أخرى.

وقد لا يكون من التعسف في العبارة, أن ننسب ما تشهده سوريا اليوم, وعلى الأقل في أحد أسبابه العميقة, إلى تلك الحقبة المريرة, وأن ما يحدث من عمليات قتل وتدمير وتهجير وتقسيم, وتغييرات ديمغرافية, منذ عام 2011, ليس سوى حلقة أخيرة وليست الآخرة, مما حل بهذه البلاد على مدى أكثر قرن من الزمان, حيث يعاد تقسيم المقسّم, وتجزيئ المجزأ, على أنقاض البشر والحجر.

  • سوريا والنموذج البلقاني

عند تناول السياسات والمواقف التي اتبعتها الدول الغربية تجاه الأوضاع في سوريا منذ أحداث ثورة عام 2011  , نجد أننا أمام مقاربة شديدة الشبه بالسياسات التي طبقت إزاء بلاد البلقان في تسعينيات القرن الفائت, بُعَيد تفكك الاتحاد السوفييتي, وانهيار دولة “يوغسلافية الاتحادية”. وتكاد تبدو ك”صورة نمطية” مستنسخة طبق الأصل, يعدُّها بعض الباحثين جزءاً من المعرفة والثقافة السائدة في الغرب تجاه الشرق الأوسط والعديد من بلدان العالم, وتتمثل في هذا السياق بفكرة “البلقنة” و “التبلقن” الذي يعدّ جزءاً من الاستشراق, وهذه الفكرة, وكما يصفها الدكتور وجيه كوثراني, تهدف في المآل إلى خلق “عالم متخيل”, والانطلاق منه لبناء واقع مفترض يخدم مصالح وسياسات محددة. وتُعد البلقان والشرق الأوسط وسوريا, نماذج تعبر عن هذه الفكرة.

وإذا جاز التشبيه فإن “التردد الأوربي” –المصطنع- تجاه الصراع الدائر في سوريا منذ عام 2011, يمكن فهمه بوضوح, في ضوء “التردد الغربي” -نفسه- تجاه التدخل في حروب  البلقان, أو البوسنة, بين عامي 1992-1995. ولا تختلف طبيعة الحجج والمبررات التي سيقت في معرض التبرير هنا أو هناك, كما لا يختلف توصيف طبيعة هذه البلاد وطبيعة أهلها, سواء في سورية أو البلقان, والتي يسمها الأوربيون ب”الفوضى” وينسبون أهلها إلى “العقلية الفوضوية” أو “الفراغ الفكري” وما غلى ذلك, ويعتبرون تعدد الأعراق والإثنيات, كما يرد عادة في الأدبيات الغربية, أحد المبررات والذرائع التي تبرر التدخل الخارجي في هذه البلاد من أجل “إعادة تنظيمها”, و”تسوية أوضاعها”, بطريقة تطال الماضي والحاضر والمستقبل على حد سواء.

الدكتور محمد الأرناؤوط, المتخصص في الدراسات البلقانية, يلفت إلى أن من المفارقات الجديرة بالانتباه, أنه بالمقارنة مع حروب البلقان بين عام ” 1912-1913″, والتي كانت فيها أوربة منقسمة فكرياً وسياسياً, وعرضة للعصبيات والبواعث الدينية والقومية, فإن حروب البلقان الجديدة “1992-1995” اندلعت في الوقت الذي كان الغرب فيه يتحول إلى منظمة سياسية وقيمية بعد الحرب الباردة, ومع ذلك كان يتردد في التدخل لتأمين الاستقرار ووقف سيل الدماء, تحت ذرائع وحجج مختلفة, مما تسبب بإطالة أمد الحرب ومضاعفة أعداد الضحايا.

في سورية يتكرر المشهد ذاته, منذ 15 آذار 2011, ولايزال وعلى مدى نحو عشر سنوات, يتسبب في سقوط ضحايا بمئات الآلاف, ودمار وتهجير طال الملايين من الاهالي والمواطنين العزل, وشرد معظم سكان البلاد. وعلى الرغم من كل هذا فإن حالة الصمت والتردد لاتزال هي المهيمنة على السياسات الغربية, مع أن دبلوماسيتها لا تفتأ تتعاطف مع مأساة السوريين وتستقبل أعدادا من مهجريهم, إلا أنها لم تقم بأي خطوة جدية في وقف النزيف المتواصل منذ نحو عشر سنوات..

في ملاحظة ذات دلالة, وفي معرض الحديث عن حرب البلقان الأولى عام 1913, يذكر الدكتور محمد الأرناؤوط أن مؤسسة كارنجي, حديثة التأسيس آنذاك, سارعت إلى إرسال لجنة لتقصي الحقائق, حول مآسي الحرب ودوافعها, وخرجت بنتائج تبنتها وسائل الإعلام الدولية (الغربية) آنذاك, ومن الملفت أنها وفي حروب البلقان الجديدة 1992-1995, اكتفت بإعادة نشر ما سبق وأصدرته عن حرب البلقان عام 1914, مع مقدمة جديدة للدبلوماسي الأمريكي المخضرم “جورج كينان”, في مفارقة غريبة, تعيد إلى الذاكرة “الصورة النمطية” ذاتها, التي أشرنا إليها. ووفقا لهذه الصورة, فإن الدول الأوربية لا تتردد, في كل مرة, وفي سياق الحلول المقترحة, من الإشارة مجددا إلى فكرة “البلقنة”, أي تفكيك البلاد وعزل مكوناتها عن بعضها, وهكذا ينفرط مرة أخرى وليست أخيرة, عقد دول البلقان, أو الاتحاد اليوغسلافي سابقا, إلى سبعة دول أو كيانات, بعد أن كانت خمسة في “الفدرالية اليوغسلافية المنحلة”, تحول أكثرها إلى دول فاشلة تنتظر مساعدات الدول الكبرى.

وفي ضوء الصورة النمطية ذاتها, لا يبدو غريبا أن تُستعاد اليوم, الوصفة نفسها أي “البلقنة”, كحل مفضل للصراع في سورية, مستنسخ من التجربة البلقانية. وقد ظهرت بالفعل أكثر من دراسة تقدمت بها مؤسسة “كارنغي”, نفسها, وغيرها من مراكز الأبحاث الغربية, مثل مركز “ستراتفور”, وقد أصدر كلاهما العديد من الدراسات, والأوراق البحثية, في سياق الحلول المقترحة لسورية. مؤسسة راند, على سبيل المثال, أصدرت عام 2015 دراسة من جزأين, بعنوان “خطة سلام لسورية”, تبنت هذا التوجه ودعت إلى حل “الصراع السوري”, على نمط “اتفاق دايتون”, الذي انهى حرب البوسنة عام 1995.

من المؤكد أن القاسم المشترك في كل هذه الحالات أنها تنطلق من الخلفية الذهنية ذاتها, المهيمنة على المعرفة الغربية تجاه البلقان والشرق الأوسط, وتعيدنا بالذاكرة, إلى جهود القوى الكبرى في تفكيك بلاد الشام أو “سورية الكبرى”, بعد الحرب العالمية الأولى, وهو ما سيكون موضوع الحلقة الثانية من هذه السلسلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى