بحوث ودراسات

إضاءات سياسية (22)

هيثم المالح

عرض مقالات الكاتب

من يحكم سوريا ؟

20/10/2003

يحار المرء حين يرى أو يسمع عن قرارات وتوجهات تصدر من مختلف أجهزة الدولة بدءاً من رأسها وحتى الفروع المختلفة للأجهزة الأمنية .                                                                     

فما أن بدأ حزب البعث الحاكم يحكم قبضته على السلطة من خلال القوى العسكرية والأمنية في عهد رئيس الدولة الدكتور نور الدين الأتاسي حتى أصدر المرسوم التشريعي رقم (14) تاريخ 15/01/1969 والذي جاء في مطلعه (إن رئيس الدولة بناء على أحكام قرار القيادة القطرية المؤقتة لحزب البعث العربي الاشتراكي رقم (2) تاريخ 25/02/1966 ، وعلى قرار مجلس الوزراء رقم (14) تاريخ 14/01/ 1969) .

 وكان المجلس آنئذ مرؤوساً من قبل الدكتور يوسف زعين “أي أن المرسوم متخذ بتوجيهات حزب البعث ، وقد خصص هذا المرسوم لإحداث إدارة المخابرات العامة ، والتي ترتبط برئيس الدولة مباشرة بنص هذا المرسوم ، ونصت المادة /16/ منه على ما يلي :

( .. ولا يجوز ملاحقة أي من العاملين في الإدارة عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء تنفيذ المهمات الموكولة إليهم أو في معرض قيامهم بها إلا بموجب أمر ملاحقة يصدر عن المدير) .

ومعلوم أن هذا المرسوم كان قد صدر عقب مرور ست سنوات من الاستيلاء على السلطة من قبل القوات المسلحة ، وكان من المفترض وقد آلت السلطة واستتبت كلها إلى الحزب الحاكم أن يكون الحزب منسجماً مع مبادئه التي كان ينادي بها سابقاً متمثلة بشعارات : (وحدة – حرية – اشتراكية) .

إلا أن هذا المرسوم كان هو اللبنة الأولى في بناء الدولة الأمنية وشرعنة الجريمة خلافاً للمبادئ السابقة ، وجاءت بعد ذلك محاولات للاستيلاء على السلطة تمثلت آخرها في الحركة التصحيحية التي قادها الرئيس الراحل حافظ الأسد .

وازدادت شدة قبضة الأجهزة الأمنية على البلاد واستشرت فعالياتها وتوسعت صلاحياتها وتعددت فروعها ونشاطاتها وتداخلت الاختصاصات ، فأضحى الكل يعمل في الكل دون فاصل أو رقيب ، وسقط ضحايا كثر نتيجة للنصوص التشريعية التي أعطت هذه الأجهزة صلاحيات لا حدود لها في ارتكاب الجريمة ، فضلاً عن التعليمات التي كانت تتنـزل عليها من فوق لتستبيح كل القيم والقوانين ، ولم يعد هناك من حصانة لشخص أو فئة أو تنظيم ، حتى ولا لقانون ، وتعطلت الأحكام القضائية حتى الاستثنائي منها ، مثل أحكام محكمة أمن الدولة أو المحاكم الميدانية أو ما شابه ذلك ، كل ذلك بحجة إعلان حالة الطوارئ التي أعقبت استيلاء العسكريين على السلطة في الثامن من آذار/مارس ، ولا تزال سارية حتى اليوم وبحجة هذه الأحكام تمَّ تعطيل القوانين ونزع الحصانة عن الكل من أجل الجزء ، فالحفاظ على السلطة هو أهم من الحفاظ على الوطن وأمن السلطة هو أهم وأعظم من أمن المواطنين وأضحى هذا الاتجاه يحكم كل مرافق الحياة ويعلو عليها .

وما أن جاء الرئيس الشاب إلى الحكم عقب وفاة والده وإلقائه خطاب القسم حتى استبشر الناس .

على مقولة (تغير الحكومات رحمة) ، قلنا : لعل عهداً جديداً بدأ برئيس جديد شاب ، إلا أنه لما يمض على وجوده في السلطة سوى عام ونيف حتى فوجئنا باعتقال العشرة الناشطين في الشأن العام ، وكنت واحداً من المدافعين عنهم أمام القضاء ، وصدرت أحكام لا ترقى إلى مستوى الأحكام القضائية الصحيحة ، وران على الأمة الخوف والحذر وأغلقت المنتديات سوى منتدى المرحوم جمال الأتاسي ، ومع ذلك استمر الناس بالتفاؤل .

  وتنـزلت بنا الكوارث في فلسطين ، وفي العراق ، وهبطت جحافل المحتلين الأمريكيين والصهاينة يمعنون في شعبنا قتلاً وتنكيلاً وسرقة للموارد وتدميراً للقيم ، وقلنا أنه لا بد أن نظامنا سوف يتعظ بما يجري حوله على مقولة (التَّقِيُّ مَنِ اِتَّعَظَ بِغَيْرِهِ والشَّقِيُّ مَنِ اِتَّعَظَ بِنَفْسِهِ) ، إلا أن الأمور سارت بعكس ما يشتهيها الناس ويرغبون ، فعادت الأجهزة الأمنية تبسط سيطرتها دون قانون وحتى بمعزل عن الأوامر العلوية ، فبرغم كلام الرئيس الشاب مع قناة العربية والمذكرة التي قدمها مجموعة من المثقفين والعاملين في الشأن العام وما سبقها من مذكرات في فترات سابقة ، أوغلت الأجهزة الأمنية في انتهاك حقوق الإنسان ، وما إن عدت من محاضرتي التي ألقيتها في باريس بمناسبة مرور أربعين عاماً على حالة الطوارئ ، حتى أصدرت إدارة الأمن السياسي قرارها بمنعي من السفر واضطررت للعودة إلى دمشق حين كنت في طريقي إلى عمان بتاريخ 24/03/2003 ، إلا أن مرسوماً للعفو صدر عن الرئيس بتاريخ 02/07/2003 شمل القضية العسكرية التي لفقتها لي الأجهزة الأمنية وتم طيها ، فقلت حسناً لعل الأمور ستسير إلى الأفضل ، ولكن ما حصل هو أن منعي من السفر ظل قائماً برغم مرسوم العفو ، ثم تبين أن منع السفر قد شمل العديد من الأشخاص عرفت قسماً منهم وآخرين لا أعرف عنهم شيئاً ، قلنا مع ذلك لعل الأمور ستسير إلى أحسن ، وإذا بي أرى مضايقات الأجهزة السرية تترى علي وعلى غيري بحيث أبلغني أحد ضباط الشعبة السياسية بأن علي أن أمتنع عن إلقاء أية محاضرة في أي مكان من سورية وتحت أي عنوان ، ثم تبين لي أن أوامر مماثلة منعت الاحتفال بذكرى حريق المسجد الأقصى كانت دعت إليها في حلب الشهباء منظمتا المؤتمر العربي والقومي الإسلامي وفعاليات أخرى وذلك في يوم الخميس 21/08/2003 كما انتشرت الأجهزة المتعددة ورجال الشرطة في الساحات العامة لمنع الناس من الاجتماع وتم الحظر على بعض الزملاء من التواجد في الأماكن العامة وحضور المنتديات واعتقل أشخاص وأحيلوا إلى القضاء العسكري .

 قلت : ما هذا الذي يحصل ؟

ومن هو الذي يحكم البلد ؟

فالرئيس يقول شيئاً علنياً سواء أمام مجلس الشعب أم في المقابلات الصحفية والإذاعية ، أما الأجهزة فتنفذ عكس ذلك تماماً ، فتضرب عرض الحائط بالتوجهات والتوجيهات وتضيق على المواطنين وتنتهك حقوقهم وتزجهم في المعتقلات والسجون وتمنع عنهم حتى حركتهم وتكمم أفواههم وتقتر عليهم عيشتهم باستنـزاف أموالهم و هدرها على رفاهيتهم بينما الآخرون لا يجدون ما يأكلون ، وتكدر عملهم حتى إمكانية اجتماعهم للتنفيس عما يعتلج في صدورهم !! أو حتى ليشكوا همهم لبارئهم !! فمن الذي يحكم إذاً ؟

ينتظر الناس بين يوم ويوم تشكيل وزارة جديدة لعل تغير الحكومات يكون فيه الخير ولا يأتي التشكيل ! أو يأتي متأخراً ، ولا يلحظ وجود أي صلاحيات جديدة للتشكيل الوزاري الجديد !!

وتبقى حالة الطوارئ معلنة وسارية رغم قول بعض من قضى من المسؤولين بأنها مجمدة ، ولكن على ما يظهر أن الجهة التي أودعت فيها لتجمد لا تعمل حسب المطلوب ، ويبقى نص المادة /16/ من مرسوم إحداث أمن الدولة سارياً وتبقى جميع القوانين التي تكبل الناس على ما هي عليه ويتم رفدها بقانون المطبوعات ، ويعتقل شباب صغار حيث يودعوا في السجون بما يسمى (ثرثرة الإنترنت) ، فإذا كانت هذه الثرثرة ممنوعة فلماذا (يسمح بالإنترنت) ؟ ولعلي لا أبالغ إذا قلت أن الرئيس بشار الأسد هو الذي أدخل هذه البدعة علينا ، فلماذا يؤاخذ أولادنا وشبابنا إذا تعاملوا معها ؟ .

وإذا كان (الإنترنت) علنياً ومسموحاً فماذا يضير السلطات وأمن البلاد إذا عمد بعض الشباب لنقل بعض معلومات هذا اللعين (الإنترنت)‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ !! ؟

 ونعود لنسأل من الذي يحكم البلد ؟

يوجد الآن في سجن فرع فلسطين للأمن العسكري ما يقارب سبعمائة معتقل جلهم من ممارسي (ثرثرة الإنترنت) كما يوجد في فرع التحقيق للأمن العسكري ما يعادل ثلاثمائة معتقل ولا يعلم بالتحديد أعداد المعتقلين في سائر فروع الأمن التي تمثل دوراً للتوقيف خارج إطار القانون وبمعزل عن رقابة القضاء ، فمن الذي يحكم إذاً ؟ وكيف يمكن للإنسان أن يعرف مصير ولده أو زوجته أو أخيه .. مع وجود أكثر من ثلاثة عشر فرعاً أمنياً .

ماهر عرار الذي غادر سورية مع أهله مهاجراً إلى كندا حين كان عمره نحو من ستة عشر عاماً وليس مطلوباً للسلطات في سورية ، اكتسب الجنسية الكندية وتزوج من سيدة هناك وتخرج من الجامعة مهندساً للحاسوب ، اعتقلته السلطات الأمريكية ولم تجد لديه ما يدينه (على خلفية القاعدة) وعوضاً عن أن تعيده لكندا وهي دولته التي يحمل جوازها سلمته مرافقاً أمنياً للمخابرات العسكرية السورية وهو يرقد في السجون منذ سنة ويتعرض للتعذيب الجسدي والنفسي وأسرته هناك في كندا تفتقده ولا يسمح بمقابلته حتى لمحاميه أو أقربائه ؟؟

يجري إخضاع خطباء المساجد والمدرسين والدعاة الإسلاميين بصورة دورية متكررة للمثول أمام فروع الأمن العسكري ويعاملون معاملة مهينة سيئة بغرض إرهابهم وتخويفهم مع أنهم يتبعون وزارة الأوقاف ومديرياتها الموزعة على سائر المحافظات من الناحية الوظيفية وإذا اعتبرناهم موظفين فيوجد من يسائلهم عن أخطائهم إذا كان ثمة خطأ وقعوا فيه ، فلماذا يدعون للأمن العسكري ؟ .

إلا أن المشكلة أنه لا حدود لأية سلطة أمنية أو فرع من فروعها ، بحيث أصبحت الحياة المدنية المستقلة تكاد تكون معدومة .

ثم نعود لنقول من الذي يحكم سوريا ؟ وهل يوجد قانون لكبح جماح الأجهزة الأمنية ومنعها من التدخل في الحياة المدنية ؟ 

حتى الآن لا يوجد شيء من ذلك ولا أحد يستطيع أن يخبرنا من الذي يحكم فعلاً !!

إن الاستمرار في التغول على القانون وعلى العدالة وإهدار كرامة الإنسان وحريته واستقلاله وممارسة إرهابه والضرب بعرض الحائط بكل مصلحة للشعب والاستئثار بها من جانب الأجهزة الحاكمة سوف لا يؤدي بنا إلا إلى مزيد من التدهور والضياع على كافة الأصعدة ، فهل نستطيع أن نخرج من النفق المظلم ؟ من سوف يستجيب لمطالب الشعب  ويحافظ على كرامته وأمنه ؟! . وهل بقي لنا من نشكو إليه سوى الله ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى