بحوث ودراسات

اعترافات تائبين من غُلاة الشِّيعة على تجاوزات بني جلدتهم 1 من 4

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

حرص بعض التَّائبين من أتباع المذهب الشِّيعي على فضْح ممارسات الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة في حقِّ الشَّعب، باتِّخاذها نظريَّة ولاية الفقيه ستارًا لإخضاع البسطاء إلى سُلطانها، وارتكاب جرائم ضدَّ الإنسانيَّة باتِّخاذ شرعيَّة زائفة من خلال تأويل أحكام الدِّين بحسب الأهواء، في انحراف تام عن أصول نظريَّة الإمامة. نبدأ بما طرحه الدكتور موسى الموسوي في كتابه الشِّيعة والتصحيح: الصراع بين الشِّيعة والتشيُّع (1988)، عن انحراف منهج الحُكم الَّذي تتبعه الجمهوريَّة الإسلاميَّة عن صحيح الإسلام. تعريفًا بالكاتب، فهو مفكِّر إسلامي شيعي، وُلد في النَّجف الأشرف عام 1930 ميلاديًّا، في أسرة عميدها المرجع الشِّيعي أبو الحسن الموسوي الأصبهاني، ويصف الموسوي أسرته في مقدِّمة كتابه بأنَّها ‘‘بيت الزَّعامة الكبرى للطائفة الشِّيعيَّة’’، فتربَّى على أصول عقيدة الإمامة الإلهيَّة، وفطن منذ طفولته إلى وجود خلاف عقائدي بين السُّنَّة والشِّيعة (ص5). يسترجع الموسوي محاولات جدِّه رأب الصَّدع بين الكتلتين الأساسيتين للمسلمين، مشيرًا إلى أنَّ الاستعمار الغربي كان له الدور الأكبر في تزكية الصراع بينهما، وإلى واقعة مقتل أبيه في الحضرة العلويَّة، في النجف الأشرف، وهو يصلِّي، على يد شخص انتحل صفة رجل دين، في محاولة لإثنائه عن مسيرته الإصلاحيَّة. من هنا، نمى لدى الموسوي شعور بضرورة تصحيح مسار العقيدة الشِّيعيَّة لإنهاء الخلاف العقائدي بين الفرق الإسلاميَّة، أملًا في العيش السِّلمي فيما بينها. ويصف الموسوي كتابه بـ “نداء للشِّيعة مبعثه الإيمان المُطلق بالله وبرسالة الإسلام الخالدة…نداء يدعو الطرق الإصلاحيَّة الكبرى لمحاولة إنهاء الخلاف الطَّائفي بين الشِّيعة والفرق الإسلاميَّة الأخرى إلى الأبد، وإلى أن تقوم السَّاعة…صرخة لله ولاستيقاظ الشِّيعة من نوم عميق دام ألفًا ومائتي عام…نداء العقل والإيمان إلى الشِّيعة كي تنفض عن نفسها غبار السنين، وتثور ثورةً لا هوادة فيها ولا انتظار، على تلك الزَّعامات المذهبيَّة التي سبَّبت لها هذا التخلُّف الكبير في الحياة الدِّينيَّة والفكريَّة والاجتماعيَّة” (ص6-7).

تجدر الإشارة إلى أنَّ الموسوي حصل على تعليم غربي في فرنسا، بعد إتمامه تعليمه الدِّيني في إيران، حيث تخصَّص في الشريعة والاقتصاد الإسلامي، إلَّا أنَّه حصل على دكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون الفرنسيَّة، ويبدو أنَّه كان لتلك الدراسة تأثيرها في تغيير نظرته إلى عقيدته المتوارثة. ويبدو أنَّ حياة الموسوي في الغرب لسنوات هي التي دفعته إلى تأليف هذا الكتاب، الذي يتَّسم بالثوريَّة في انتقاده ركائز عقيدة الإمامة الإلهيَّة، ولا يقل صدمةً عن كتاب تطوُّر الفكر السياسي الشيعي من الشُّورى إلى ولاية الفقيه (1998) لمواطنه أحمد الكاتب، كما يشترك معه في موقفه المعارض للثورة الإيرانيَّة، المستندة إلى عقيدة ولاية الفقيه.

الإمامة والخلافة

يبدأ الموسوي دراسته بالإشارة إلى جوهريَّة مفهوم الإمامة في عقيدة الشِّيعة الإماميَّة الاثني العشريَّة، كما هي في الزيديَّة والإسماعيليَّة؛ لأنَّها كلَّها تعتقد أنَّ الرسول الكريم، مُحمَّد بن عبد الله (ﷺ)، استخلف من بعده الإمام عليًّا بن أبي طالب، انطلاقًا من إيمانه، وفق عقيدتهم، بوراثة العلم الباطني بين الولي ووصيٍّ له. ويتعارض هذا المبدأ، كما يشير الموسوي، مع اعتقاد أهل السُّنَّة بأنَّ الرسول لم يستخلف أحدًا، تاركًا أمر خلافته للشُّورى، وإن كان البعض ذهب إلى أنَّ الرسول اختار أبا بكرٍ ضمنيًّا، لمَّا طلب منه إمامة المسلمين في الصلاة في فترة مرضه (ﷺ). ودفع هذا الخلاف العقائدي فقهاء السُّنَّة إلى الردِّ على مشايخ الطائفة الشِّيعيَّة في كتب لا تُحصى، اتَّهم بعضها الشِّيعة بالكفر تارة، وبالضلال والانحراف العقائدي تارة أخرى.

بدأ التشيُّع يأخذ شكلًا فقهيًّا في القرن الثاني الهجري، تزامنًا مع ظهور المذاهب الفقهيَّة الإسلاميَّة، الحنفي والمالكي والشَّافعي والحنبلي. ويعتبر المذهب الجعفري، نسبة إلى الإمام جعفر الصَّادق بن محمَّد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين، أساس مذهب أهل البيت، وقد طوَّره الإمام الصَّادق في المدينة المنوَّرة، واعتقد الشِّيعة أنَّ مذهبه أولى بالاتِّباع من غيره، كونه حفيد النبي (ﷺ)، معتقدين أنَّ الحكمة والفهم والمعرفة والبصيرة النَّافذة موروثات تتناقلها الأجيال. لاقى أحفاد النبي الكريم بعده عناءً شديدًا، كما تنبَّأ هو في حديث يقول “إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ اخْتَارَ اللَّهُ لَنَا الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّهُ سَيَلْقَى أَهْلُ بَيْتِي مِنْ بَعْدِي تَطْرِيدًا وَتَشْرِيدًا فِي الْبِلَادِ”، وهو ضعيف الإسناد، لكنَّه أنبأ عن وضع حقيقي مرَّ به آل بيت خاتم النبيين وسيِّد المرسلين.

بداية الانحراف العقائدي لدى الشِّيعة

يتعقَّب الموسوي بداية الانحراف العقائدي لدى الإماميَّة، وظهور أفكار وممارسات عجيبة لم تُعرف في أشدِّ فترات مرَّت على الفرقة، أي زمن معاوية بن أبي سفيان وقتما كان يُأمر بسبِّ الإمام عليٍّ على المنابر ويُضطهد مشايعوه، فلا يجد دافعًا ومحفِّزًا لها أكبر ممَّا عُرف بـ ‘‘الغيبة الكبرى’’ للإمام المهدي، تحديدًا عام 329 هجريًّا. ويعترف الموسوي بأنَّ العقائد المرتبطة بنظريَّة الإمامة الإلهيَّة، التي خرج بها مشايخ الطائفة الشِّيعيَّة خلال القرنين الرابع والخامس للهجرة النبويَّة، ليست مُبتدعة فحسب، إنَّما هي ثمرة جهد بذله هؤلاء “في الإساءة إلى الإسلام…يعادل السماوات والأرض في ثقله”، ملفتًا إلى اعتقاده أنَّ هؤلاء لم يقصدوا من فعلتهم نشر عقيدة تخدم المذهب المناصر لآل البيت، إنَّما تقصد “الإساءة إلى الإسلام وكلِّ ما يتَّصل بالإسلام” (ص15). يضيف الموسوي أنَّ مشايخ الطائفة وأوائل فقهاء المذهب الإمامي شنُّوا حملة هجوميَّة غير منصفة ضدَّ صحابة النبي (ﷺ)، أساؤوا من خلالها لعصر تنزُّل الرسالة السماويَّة، في محاولة يائسة لإثبات أحقيَّة ذريَّة النبيِّ وأهله في الإمامة من بعده، وقد أثبت فقهاء السُّنَّة بطلان الادِّعاءات المغالية ضدَّ الصحابة، وبخاصَّة الخلفاء الثلاثة الأوائل، المبشَّرين بالجنَّة.

أهم مظاهر الانحراف العقائدي لدى الشِّيعة

التقيَّة

يبدأ الموسوي بتناوُل التقيَّة، وهي مظهر نفاقي يتَّبعه الشِّيعة بإظهار الإيمان بمعتَقد أمام النَّاس، وإبطان خلاف ذلك، وممارسة شعائر دينيَّة على النحو الشَّائع مع الجماعة، ثم أداؤه على نحو مخالف عند الاختلاء عن الغير. يندهش الموسوي من كيفيَّة تسرُّب تلك العقيدة إلى العقيدة الدينيَّة لدى الشِّيعة، برغم عدم انخراط أيٍّ من أئمة آل بيت النبوَّة فيها. يعتقد الموسوي أنَّ التقيَّة “لعب دورًا كبيرًا في إبقاء الشِّيعة بعيدة عن الفرق الإسلاميَّة الأخرى، كما أنَّها سببت في رميها بأمور عجيبة وغريبة، ما أنزل الله بها من سُلطان، وهي بريئة منها”، ويعبِّر الفقيه الشِّيعي عن تأسُّفه على أنَّ التقيَّة “تجاوزت عامَّة الناس، واستقرَّت في أعماق قلوب القادة“، ويتساءل “عندما يرتضي القائد الدِّيني لنفسه أن يسلك طريق الخداع مع النَّاس في القول والعمل باسم التقيَّة، فكيف ينتظر الصلاح من عامَّة الناس؟” (ص57).

 النيابة العامَّة عن المهدي

يؤكِّد الموسوي ما ذكره أحمد الكاتب في كتابه تطوُّر الفكر السياسي الشيعي من الشُّورى إلى ولاية الفقيه (1998، 2008) عن استغلال نظريَّة الإمامة الإلهيَّة في أغراض سياسيَّة بحتة، بإشارته إلى مسألة سن نظريَّة ‘‘نيابة الفقهاء العامَّة عن الإمام الغائب’’ لمنح الشَّاه إسماعيل الصفوي الشرعيَّة الدينيَّة، في مواجهة سطوة الخلافة العثمانيَّة. أراد الصفوي منصبًا دينيًّا يعادل لقب أمير المؤمنين، الذي يختصُّ به السُّلطان العثماني؛ فمنحه فقهاء الإماميَّة منصب النائب الفقيه عن المهدي. يعرِّف الموسوي إسماعيل الصفوي بأنَّه انحدر من أسرة صوفيَّة، دأبت على نشر عقيدة حُبِّ آل البيت، والتبرُّك بهم، والتواصل الباطني معهم، في الحصول على الحكمة. ولمَّا أراد الصفوي تحويل إيران إلى المذهب الشِّيعي، انتشر الفرق الصوفيَّة في مدن إيران، تنشد الأشعار في حبِّ الإمام عليٍّ وآل بيت النبوَّة. اكتسب إسماعيل الصفوي بصفة النائب عن الإمام شرعيَّة فاقت شرعيَّة الخليفة ذاته، على اعتبار أنَّه في تواصل مستمر مع الإمام الغائب، وهذا يخوِّله للفصل نيابةً عنه، مما جعله يعتقد “عدم شرعيَّة الخلافة الإسلاميَّة وأيَّة حكومة أخرى، إلَّا إذا أجازها الفقيه الذي يمثِّل الإمام الحيَّ الغائب المنصوب بأمر الله”، كما يقول الموسوي (ص71-72).

ويذكر الدكتور عمر فاروق فوزي، أستاذ التَّاريخ الإسلامي في جامعة بغداد، في كتابه الخمينيَّة وصلتها بحركات الغلو الفارسيَّة وبالإرث الباطني (2001)، أنَّ الصفويَّة بدأت طريقة صوفيَّة تنتسب إلى الشيخ صفي الدين الأردبيلي، وقد اشتهر بنشاطه الدعوي البعيد عن أي طموح سياسي في بلدته أردبيل الإيرانيَّة، وذاع صيته ليصل إلى أذربيجان والأناضول، وكان جنيد بن علي بن صدر الدين الصفوي هو أول من استغل الدين في تحقيق أهداف خاصة، وكان إسماعيل بن حيدر بن جنيد الصفوي هو مؤسس الدولة الصفويَّة. وكما ذكر فوزي، فالصفويُّون في الأصل ليسوا فرسًا، إنَّما هم من قبائل التركمان في أذربيجان وشمال غرب إيران وشرق الأناضول، لكنَّهم ما إن سيطروا على مقاليد الحكم في إيران حتى تبنَّوا عقدة الفرس ضد العرب.

وكان إسماعيل الصفوي ينشر بين أتباعه أنَّه لا يتحرك إلا بأوامر الأئمة، ولذلك فأفعاله وأقواله معصومة، وادَّعى أنَّه ليس بينه وبين المهدي حاجزٌ، زاعمًا أنَّه المقصود بـ ‘‘إِسْمَاعِيلَ’’ في قوله تعالى في الآية 54 من سورة مريم “وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا”. وبعد أن اعتبر إسماعيل الصفوي نفسه الباب الموصل إلى الإمام الغائب، جعل من منصبه ذاك، مهما اختلف مسمَّاه، سواءً كان نائب الإمام أو الولي الفقيه، لم يدع فرصةً أمام أيِّ فقيه من فقهاء الشِّيعة يطمع في هذا المنصب لنفسه؛ فيرشِّح نفسه للحُكم. يُدرك الموسوي أنَّ مفهوم ولاية الفقيه في زمن إسماعيل الصفوي لم يكن على الصورة التي تطوَّر إليها في أعقاب الثورة الخمينيَّة؛ لأنَّ في زمن الصفوي، لم يكن للمشايخ والفقهاء دخل في السياسة، على عكس ما تحوَّل إليه المفهوم على يد الخميني، الذي جعل من الولي الفقيه ليس مجرَّد نائب للإمام وباب له، إنَّما هو صورة عن النبيِّ وكافَّة الأئمة وله ما لهم من حقوق وصلاحيَّات.

 وانطلاقًا من تأويل المقصود بـ “أُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ” في قوله تعالى في الآية 59 من سورة النِّساء “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ”، الإمام عليًّا والأئمَّة من ذريَّته، وأنَّ الفقهاء هم نوَّاب الإمام الثاني عشر في غيبته، تكون الولاية “للفقهاء المجتهدين الذين يحلُّون محلَّ الإمام، وهم النوَّاب العامُّون”، وفق قول الموسوي، الذي يصف هذا التأويل للنص القرآني بقوله “خطأ هذا التفسير أوضح من وضوح الشَّمس” (ص73). أمَّا عن المدلول القرآني على بُطلان نظريَّة ولاية الفقيه، فهو الآية 122 من سورة التَّوبة “وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ“، ويستدل الموسوي بها على أنَّ دور المتفقِّه في الدِّين هو “التبليغ والإرشاد في شؤون الدِّين، وليست في الآية إشارة إلى وجوب إطاعة الفقيه أو ولايته” (ص73). وتكمن المشكلة في اجتزاء الآية 59 من سورة النساء، وعدم توصيل معناها الكامل؛ لأنَّ باقيها يقول “فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا“. يوضح الموسوي أنَّ المقصود هو إطاعة ولي الأمر مقصورة على ما خوِّل إليه من صلاحيَّات، ولا تمنح الولي مقدار ما لله والرسول من طاعة، وهذا التأويل “خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا” مما زعمه الخميني عن مكانة الولي الفقيه. يتأسَّف الموسوي على استغلال النصِّ القرآني وتأويله الباطني في منح الولي الفقيه ما لا يحق له (ص74):

وليت شعري أن أعرف كيف استدلَّ المستدلُّون بهذه الآية على ولاية الفقيه وإعطائه حقَّ التَّحكُّم في شؤون المسلمين والسِّياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة والاجتماعيَّة؟ فإذا كان لا يحقُّ لأولي الأمر التَّدخُّل في تنازعات المسلمين كما نصَّ عليه الكتاب حتَّى لا يتَّخذ اسم الله ورسوله ذريعة لكي يحكم المجتمع الإسلامي حسب أهوائه وعقائده بدون الأخذ بالشُّورى فهل يمكن القول أنَّ نائب أولي الأمر يتمتَّع بحقوق أكثر من المنوب عنه؟

ومن الملفت أنَّ الموسوي تنبَّأ أثناء كتابة دراسته المستفيضة عن زيغ عقائد الشِّيعة عام 1988 ميلاديًّا، أنَّ نشر نظريَّة ولاية الفقيه خارج إيران سيُحدث نتائج كارثيَّة، حيث يقول “ونظريَّة ولاية الفقيه تجاوزت إيران وتسرَّبت إلى مناطق شيعيَّة أخرى وبدأت تعصف بالشِّيعة هناك كما عصفت بإيران. وإني أخشى أن يعمَّ البلاء على الشِّيعة في كلِّ مكان ويهزَّهم هزأ بلا استقرار بعده، فلو علمت الشّيعة بالفجائع الَّتي ارتُكبت باسم ولاية الفقيه ولازالت تُرتكب لاقتلعت ظلَّ الفقهاء من كلِّ ديار يحلُّون فيها ولفرَّت منهم فرار الشَّاة من الذِّئب” (ص75).

لم يرد الموسوي الإشارة بأصابع الاتِّهام إلى الخميني، واكتفى بالتشديد على أنَّ استغلال نظريَّة ولاية الفقيه في تحقيق المصلحة الشخصيَّة لفئة من الفقهاء أسفر عن سلوكيَّات تتناقض مع صحيح الإسلام، بقوله “عندما نمعن النَّظر بدقَّة وتفحُّص في الأحداث المؤلمة الَّتي تجري على السَّاحة الإسلاميَّة والشِّيعيَّة نرى أنَّ ولاية الفقيه تلعب دورًا بارزًا في أحداث تتناقض مع مبادئ الإسلام الصَّريحة، وأنَّ الأكثريَّة من الفقهاء لم يقفوا موقفًا مناهضًا منها، فالأكثريَّة بين مؤيّد ومحايد” (ص75-76).

أملًا منه في إصلاح أحوال الشِّيعة في الدنيا والآخرة، يقترح الموسوي التخلُّص من ثلاث ممارسات باطلة في عقيدتهم، لا يعتبرها من صحيح الإسلام في شيء، وهي التقليد والخُمس وتطبيق نظريَّة ولاية الفقيه. والتقليد هو مشاورة المجتهد المتفقِّه في الدِّين في الأمور الشخصيَّة للتعرُّف على رأي الشَّرع فيها. ينصح الموسوي بالكف عن مشاورة الملالي في الأمور الخاصَّة، والتحرري في كُتب الفقه عن الأقرب للصواب، تجاوُزًا للتلاعب بالشَّرع ٍمن قِبل ضعاف النفوس في مقابل المال. أمَّا عن الخُمس، فالموسوي يتأسَّف على ظهور تلك البدعة وانتشار تطبيقها، رغم أنَّ النصَّ القرآني الدالَّ عليها، الآية 41 من سورة الأنفال “وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ“، يشير إلى غنائم الحروب، وليس إلى أرباح التجارة. وبالنسبة إلى ولاية الفقيه، فالمؤسف أنَّ الموسوي قد قال عنها عام 1988 أنَّها “كلَّفت البشريَّة من الدماء والآلام والأحزان والدموع” ما لم تكلِّفه أيُّ عقيدة دينيَّة في التاريخ (ص78)، والسؤال: ما هو قول عقلاء الشِّيعة في هذه النظريَّة اليوم؟ يتنبَّأ الموسوي في كتابه زوال هذه العقيدة التام، بفضل تهدُّمها الداخلي، بعد فشل تطبيقها وما أسفرت عنه من مآسٍ.

الغلو في عقيدة الشِّيعة

ينتقل بنا الكاتب إلى تحليل مظاهر الغلو النظري والعملي في عقيدة الشِّيعة، موضحًا أنَّ الغلو النظري هو الإيمان بالمعاجز والقدرات الخارقة، لتقل الكرامات، التي يستطيع الولي فعلها. أمَّا العلو العملي، فهو تعظيم عامَّة البسطاء والجهَّال هؤلاء الأولياء أحياءً وأمواتًا، معربين عن العبوديَّة والتقديس تجاههم في حياتهم، وتعظيم قبورهم وزيارتها للصلاة وتقديم النذور. يبدأ الموسوي بالعصمة، باعتبارها من أهم مظاهر الغلو في عقيدة الشِّيعة، مشيرًا إلى أنَّ فيها تنقيصًا من حق الإمام؛ والسبب هو أنَّها تنطوي على فقدانه إرادته، وكأنَّهما هو مسيَّر لفعل الخير وحده، وهذا لا يستوي مع الطبيعة البشريَّة.

ويحضرنا في هذا السياق ما جاء من قصِّة نبيِّ الله يوسف، بن نبيِّه يعقوب بن نبيِّه إسحق بن أب الأنبياء وخليل الرحمن إبراهيم، مع امرأة العزيز، التي قالت عنه “وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ” (سورة يوسف: آية 32)، ويشير قوله تعالى على لسان المرأة “فَاسْتَعْصَمَ” إلى أنَّه استجمع قوَّته في مواجهة المعصية، مستعينًا بربِّه على هوى النفس، مما يعني أنَّ العصمة ليست صفة يولد بها الإنسان. ما يؤكِّد ذلك استعاذه يوسف من الفحش وفعل السوء واستعانته بالله في ذلك، في قوله تعالى “قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ” (سورة يوسف: آية 33). وما يزيد ذلك تأكيدًا قول الله في الآية 24 من سورة يوسف، عن ردِّ فعل يوسف لمَّا راودته المرأة عن نفسه “وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ“، ويُنسب إلى الصحابي الجليل عبد الله بن عبَّاس تفسيره قول الله “وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا” أنَّ يوسف همَّ بالاستجابة إلى الإغواء، وكان سيقع في المعصية “لَوْلَا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ“، وقد فسَّر ابن عبَّاس ذلك بأنَّ يوسف رأى صورة أبيه، وكأنَّما عضَّ إصبعه، فخرجت منه الشَّهوة. ونتيجة ذلك، صرف الله عنه “السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ“؛ لأنَّ يوسف “مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ“، أي ممن اختصَّهم الله بالنبوَّة والرسالة، ولم يذكر الله شيئًا عن عصمة مُنحها يوسف بسبب أصله والسلالة التي انحدر منها.

وثاني مظاهر الغلو التي فنَّدها الموسوي في دراسته هو ادِّعاء امتلاك علم لدنِّي، أي علم باطني بالغيب، ينطوي على التواصل مع أناس لا تدركهم الأبصار، من أولياء، ثم أنبياء، حتَّى يصل الزعم إلى حدِّ التواصل مع الإله في أعلى السماوات، من خلال رحلات عروج يقطعها الوليُّ في معجزة من خوارقه. يشير الموسوي إلى باقي مظاهر الغلو في تصوير الأئمة، وهي الإلهام والمعاجز والإخبار بالغيب والكرامات، وما يرتبط بها من تقديس لقبور الأولياء للانتفاع بكراماتهم، مكتفيًا بشرح ما سبق، وموضحًا تبلور ذلك الغلو النظري في صورة غلو عملي، “يتجسَّد في طلب الحاجات الدنيويَّة والأخرويَّة من الأئمة، الاستغاثة بهم بصورة غير مباشرة” (ص84). يتأسَّف الموسوي على استمرار مظاهر تعظيم الشِّيعة أضرحة أوليائهم، وقصدها بهدف قضاء الحاجات، ويجد في ذلك مظهرًا من مظاهر الشِّرك بالله تعالى، لا تختلف عمَّا يفعله غير المسلمين في أماكن عبادتهم، حيث يقول متأسِّفًا (ص85):

لقد زرتُ مقابر الأولياء في كثير من البلاد السلاميَّة فرأيت الزَّائرين فيها على النَّمط الَّذي نراه في مشاهد أئمَّتنا، ودخلتُ كنائس المسيحيين في كثير من بلاد العالم فرأيتُ النَّاس فيها كما هي فهم يتبرَّكون بتمثال المسيح وبأقدام العذراء، وقد تركوا الله جانبًا ويطلبون منهما العون في الدُّنيا والآخرة. ودخلتُ معابد البوذيين والشنتو ومعابد الهندوس والسِّيخ فرأيتُ ما رأيتُه من قبل في مشاهد المسلمين والمسيحيين معًت من تقديم القربان وطلب الحاجة وتقبيل التَّماثيل والرُّكوع والخضوع والخشوع أمامها”.

طقوس زيارة أضرحة الأئمَّة

بعد إيضاح الجانب البدعي في تعزيم أضرحة الأئمة، يخصِّص الموسوي فصلًا كاملًا عن تفاصيل زيارة مراقد الأئمَّة في إيران والعراق والمدينة المنوَّرة، التي من أهم طقوسها قراءة ما يُعرف بـ ‘‘الزيارة’’، وهي عبارات مطوَّلة تتضمَّن مديح أهل البيت، والتنديد بمن عاداهم. ويستعرض الموسوي نموذجًا لمقطع علَّمه عليٌّ الرضا بن محمَّد الجوَّاد، المفترض أنَّه الإمام العاشر ووالد الحسن العسكري، أي جدُّ الإمام المهدي، لأحد أتباعه، ورد في كتاب الفقيه للصدُّوق، ويورده الموسوي في كتابه (ص91-92):

اَلسَّلامُ عَليكُم يا أهلَ بَيتِ النُّبوّة، ومَوضِعَ الرِّسالة، ومُختَلَفَ الملائكة، ومَهبِطَ الوَحي، ومَعدِنَ الرحمة، وخُزّانَ العِلم، ومُنتهى الحِلم، وأُصولَ الكَرَم، وقادةَ الأُمَم، وأولياءَ النِّعَم، وعناصِرَ الأبرار، ودَعائمَ الأخيار، وساسةَ العِباد، وأركانَ البِلاد، وأبوابَ الإيمان، وأُمناءَ الرحمان، وسُلالةَ النبيّين، وصَفوةَ المُرسَلين، وعِترةَ خِيرَةِ ربِّ العالمَين، ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.

ويعتبر الضَّريح المنسوب إلى الإمام الحسين في كربلاء، أهم مقصد للشِّيعة أينما ثُقفوا، وقد بدأت عادة زيارته منذ مقتل الحسين، وتحديدًا بعد أن قُتل بأربعين يومًا، لمَّا قصده أهله من المدينة المنوَّرة. ويؤكِّد الموسوي أنَّ زيارة ضريح الحسين ليس إلَّا لنشر الفكر المذهبي المرتبط بنظريَّة الإمامة الإلهيَّة، مشيرًا إلى صور تعظيم الضَّريح التي بلغت حدَّ تفضيله على الكعبة المشرَّفة، كما يذكر (ص93):

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى