بحوث ودراسات

دفاع عن العروبة: ملاحظات على مراجعة عبد الإله بلقزيز لمفهوم الوحدة العربية 3 من 6

د. قصي غريب

كاتب وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب

أما قول بلقزيز إن عزمي بشارة هو من أوائل المفكرين القوميين الجدد الذين تنبهوا إلى أن الدولة تصنع الأمة، فهنا لم يتمكن من التزام الدقة العلمية، ونسبة الأسبقية بالآراء بصورتها الصحيحة إلى أصحابها الحقيقيين، فلقد سبق بشارة في هذا التناول مفكرون قوميون – بعضهم قبل عقود – مثل نقولا زيادة في كتابه ” العروبة في ميزان القومية “(44). وجورج طرابيشي في كتابه ” الدولة القطرية والنظرية القومية “(45). وقد تناول الموضوع بإفاضة علمية ومنهجية دقيقة، وكذلك برهان غليون في كتابه ” المحنة العربية : الدولة ضد الأمة “(46).

وفي ص 108 قال بلقزيز : ” إن درس الدولة – الأمة في أوربة وأميركا وآسيا الشرقية يثبت حقيقة دور السياسي في تكوين القومي حتى تجربة الدولة الصهيونية تثبت أن الدولة قد تخلق شعباً أو أمة من أرخبيل من الجماعات المنتزعة – باسم الرابطة الدينية – من بيئات مختلفة “.

إن السائد والقاعدة في تاريخ الفكر القومي الإنساني أن الأمة هي التي تصنع الدولة وخاصة إذا كانت الأمة متجانسة، في حين كان الاستثناء الدولة من يصنع الأمة، كما أننا نصاب بالدهشة، ونتوقف عن التعليق، عندما يضع المفكر القومي العربي بلقزيز من الكيان الصهيوني المغتصب فلسطين – هي أرض عربية ووقف إسلامي – أنموذجاً لقيام الدولة – الأمة.

وفي ص 108 قال بلقزيز : ” هل نريد بهذا الاستدراك النقدي أن نذهب إلى إنكار وجود أمة عربية ؟، لا؛ نحن نسلم بوجودها، ونعترف بدور كل تلك العوامل التي تحدث عنها أباؤنا القوميون في تكوينها، لكننا نميز بين وجودها كحقيقة ثقافية – تاريخية، ووجودها كحقيقة سياسية – كيانية، بين وجودها بالقوة، ووجودها بالفعل، إن استعرنا عبارات ومفاهيم أرسطو. لنقل بلغة أخرى إن وجودها على هذا النحو الذي لا تعبر فيه عن نفسها من خلال كيانية سياسية يهدد بقاءها، ويهدد بمحو كل عناصر التكوين التي قامت عليه، كما تعرض غيرها للمحو، ماذا بقي اليوم من هندية تاريخية للباكستانيين، والبنغلاديشيين، بعد أن صارت لهم دولتان معاصرتان ؟، ماذا بقي لليهود العرب من عروبتهم التاريخية بعد أن ادمجوا في دولة سرقتهم من أوطانهم الأصل ؟، وما أغنانا عن القول إن هذه الاستنتاجات لا تهدم ولا تحبط بل تحث على فكرة الدولة القومية كحاجة مصيرية لإنتاج الأمة العربية بالمعنى الحديث للأمم والقوميات “.

إن الأمة العربية بناء على قول بلقزيز في ص 108 : ” لم تتوحد في تاريخها سياسياً لم تقم في تاريخها دولة واحدة جامعة ” وعلى الرغم من ذلك فإن عدم وجود الكيانية السياسية لها ومنذ القدم وإلى اليوم إلا أنه لم يهدد بقاءها ولم تهدد بمحو عناصر التكوين الثقافية – التاريخية، التي قامت عليها، والتي كانت السر في قوتها، وما زال العرب على قيد الحياة، ويدعو البعض منهم بناء على هذه العوامل السحرية إلى إقامة كيان سياسي، وقد قال عبد العزيز الدوري : ” إن تاريخ الأمة لا يتحدد ببداية، ولا يؤرخ بحدث، فهو مسيرة متصلة من بدايات قد تكون بعيدة في التاريخ – كحال الأمة العربية –، ولكنها ليست مسيرة موحدة، فقد تبدأ من مجموعات مبعثرة، أو من تجمع كبير، وقد تحقق كياناً سياسياً واحداً، أو تجد نفسها موزعة بين كيانات عدة، وقد تجد الأمة في أصولها البشرية رابطتها وشعورها بالانتماء، وقد تطور لغة واحدة مشتركة تنطلق منها إلى تكوين ثقافة لها لتجد في ذلك قاعدة كيانها وأساس وجودها “(47). كما أن الأمة العربية أمة ند، وتحد، ومواجهة، ولها مكانة في العالم، على الرغم من واقع الحال الضعيف الذي يعيشه العرب، ومع ذلك فلسنا مثل الأمم المهددة بالانقراض، ولا من الأمم المشردة، لأننا أمة أصيلة مرتبطة بالإسلام، والقرآن الكريم ووجوده، وقد قال الله تعالى : ” إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون “(48). فلماذا الخوف ؟، والحملات الصليبية قد هزمت وأصبحت من التاريخ، كما ان الجزائر وعلى الرغم من احتلالها لمدة 132 سنة من قبل فرنسة، وممارسة سياسة الفرنسة تجاهها ما تزال عربية، وقد قال عصمت سيف الدولة : ” إن الأمة العربية تتميز بأنها دخلت مرحلة التكوين القومي ونمت حتى اكتملت أمة في ظل الإسلام والحضارة الإسلامية، من الإسلام اكتسبت وحدة اللغة، وخلال المعارك التي خاضتها في سبيل رسالة الإسلام أو دفاعاً عنها كونت أمجد مراحل تاريخها، وبالدولة الإسلامية تحقق لها الاستقرار الطويل الكافي لتكوين حضارتها العربية، وبذلك كان الدين بعض نسيج هذه الأمة، وكان الاستعمار أضعف من أن يمزق هذا النسيج، فحفظت المناعة الدينية الأمة العربية من التخريب الاستعماري، وكما أسهم الدين في بناء الأمة العربية، أسهم في الحفاظ عليها “(49). فعلى الرغم من حالة التفكك، والتمزق، التي تعيشها الأمة العربية اليوم، ولكن لارتباطها الوثيق بالإسلام فإنها ما تزال تشكل تحدياً حقيقياً للغرب، وخاصة من قبل مفكريهم، فصموئيل هنتنغتون في كتابه ” صدام الحضارت ” يحذر من الإسلام على الحضارة الغربية الذي امتزج تاريخه كرسالة وحضارة بالعرب من منطلق أن تاريخ هذه الحضارة المشرف ما يزال حائزاً على قدر كبير من مكونات التحدي ومؤهلات التفوق(50). أما الخلط بين التكوين التاريخي للأمة العربية، وبين الهندية التاريخية للباكستانيين، والبنغلاديشيين، والعروبة التاريخية لليهود، فليس هناك أي رابط، لأن الهند كانت أرضاً تضم جماعات شتى منذ القدم، أو هي بلاد متعددة القوميات، انفصلت عنها الباكستان نتيجة الاختلاف الديني والقومي، وأقامت كياناً سياسياً خاصاً بها، كما انفصلت فيما بعد بنغلادش عن الباكستان بحكم الاختلاف القومي والبعد الجغرافي، وأقامت أيضاً كياناً سياسياً قومياً خاصاً بها، واليهودية دين وإذا أراد اليهودي العربي التمسك بانتمائه العربي فهذا خياره، خاصة وأن البعض من العرب لا يتمسكون بهذا الانتماء، فهل نتكلم عن التاريخية ؟، ولهذا فإن الطرح تبسيط سطحي وخلط للأوراق، فالمثال ليس في مكانه الصحيح إنما جاء لإضعاف ما جاء به الآباء الأوائل، ولكنه أطلق على عواهنه باسم التاريخية التي تختلف من حال إلى أخرى.

وفي ص 108– 109 قال بلقزيز: ” هل حقا أنجزت التجزئة الاستعمارية تمزيقاً لأوصال أمة موحدة ؟، هل وقعت التجزئة على وطن عربي موحد “. ثم يجيب على هذين السؤالين بأن هناك : ” حقيقتين لا تقبلان النكران : الأولى أن التجزئة الكيانية للبلدان العربية كانت موجودة قبل الاستعمار، وفي ظل نفوذ الدولة العثمانية، وضمن مواريثها، حيث لمصر، وبلدان المغرب العربي، والجزيرة العربية، كيانات منفصلة ومستقلة عن المركز العثماني، والثانية أن ما أضافه الاستعمار من تجزئة طال في المقام الأول الولايات العربية التابعة للدولة العثمانية في منطقة المشرق العربي وبالذات سورية الكبرى “. ثم يعززهما بنظيرتين تعززان سابقتيهما ” أولهما أن التجزئة الداخلية سابقة في الوجود للتجزئة الاستعمارية الخارجية … وثانيتهما أن الاستعمار وحد بقدر ما فكك “.

هنا يضع بلقزيز من نفسه محامياً عن الاستعمار الأجنبي – الشيطان – ويحاول بحجج تاريخية، ولكنها واهية من تبرئته مما أصاب الأمة العربية من تجزئة وتمزيق، ويبرر أن التجزئة كانت موجودة قبل الاستعمار، فالبلدان العربية كمصر، والمغرب العربي، والجزيرة العربية، كانت كيانات منفصلة ومستقلة وان الاستعمار طال بالتجزئة فقط سورية الكبرى وكأن هذه البلاد لديه من عالم آخر، وليست من بلاد العرب، مع أن بلاد الشام كانت موئل الفكر القومي العربي، ورائدة القومية العربية، ولذلك فإن تمزيقها إلى دول يبدو أمراً عادياً لديه، فالاستعمار قام فقط بتقسيم جزء من البلاد العربية، وليس كلها، ولذلك لا جرم عليه، ولا توجد أية مشكلة، لأن الوطن العربي بالأساس هو مجزأ، فلماذا التجني من قبل القوميين العرب على الاستعمار ؟ فهذا المنطق الذي يدعي الموضوعية في البحث العلمي من أجل شرعنة الدولة القطرية القائمة، والزعم والادعاء أن بعض الدول العربية ليست صنيعة الاستعمار بل بعضها سبق وأن عرضه إيليا حريق في بحثه : ” نشوء نظام الدولة في الوطن العربي “(51).

ثم يرتكب بلقزيز شطحة فكرية لا تقوم على أي سند تاريخي أو منطقي عندما قال مادحاً الاستعمار : ” إن الاستعمار وحد بقدر ما فكك ” وهنا نسأله أن يعطينا مثالاً واحداً عن فائدة من فوائد الاستعمار، التي أعطاها للأمة العربية وأين وحد ؟، ولا نظن أبداً أنه قد أفادها بقدر ما فككها، ومزقها، وأثخنها بالجراح، وما زال سادراً في غيه، ويعزز هذا ما ذهب إليه برهان غليون عندما قال : ” لكن الاستعمار إذا لم يكن هو السبب الأول لتفكك الكيان العربي فإنه المسئول الأول عن وضع العراقيل أمام إعادة توحيد الفضاء العربي، فقد قطع على العرب الطريق الطبيعي لنمو الوعي القومي، وأدخل في تاريخيتهم السياسية، وفي المناقشة التي سوف تعكسها عوامل اضطراب وتشويش قوية، ليس من الممكن السيطرة عليها بسهولة، كما تشكل حجر عثرة أمام تقدم العرب في حل مسألة تحديد هويتهم السياسية على أثر انهيار الدولة الامبراطورية العثمانية “(52).

وفي صفحة 109 قال بلقزيز : ” لا بد من الاعتراف إذن أننا أمام خطاب وحدوي لم يكن يلحظ حقائق التاريخ كافة، ولا كان يلحظ حقائق الجغرافية العربية، إنه خطاب انتقائي ينتقي من معطيات التاريخ والجغرافية ما يخدمه ويطرح الباقي جانباً … إن خطاب الوحدة خطاب مشرقي بامتياز وشامي بامتياز … لكنه لم يستدمجنا في جغرافيته وأعرض عن حيزاتنا التاريخية والجغرافية وظل مشرقياً حتى عهد قريب … ومن سخرية الأقدار أن تجارب التوحيد الوحيدة الجزئية المتواضعة ولكن الصامدة التي نجحت في البلدان العربية المعاصرة حصلت خارج نطاق المجال المشرقي الذي ولدت فيه الفكرة القومية العربية “.

اسمح لنا بلقزيز أن نقول لكم من خلال عرض هذه الفقرات إن خطابكم تسيطر عليه الانتقائية التاريخية والجغرافية وإنكم تطرحون الباقي جانباً، إذ لا تأخذون الفكر القومي العربي في لحظته التاريخية، ومكانه الجغرافي، لأنكم أسير هذه الفكرة، أي قد أصبتم بداء الإقليمية، والجهوية، الذي من المفروض على القومي العربي الأصيل أن تكون لديه مناعة منه، وضده، ولا يفكر فيه أصلاً، نعم لقد كان الخطاب القومي مشرقياً وشامياً، ويعود ذلك إلى أن الدعاة، والآباء الأوائل، الذين رفعوا لواء القومية العربية كانوا يسكنون جغرافياً في هذه المنطقة، ولكنهم ينتمون إلى كل الوطن العربي بجهاته الأربع، كما أن الفكرة والدعوة إلى القومية العربية ولدت في المشرق العربي، التي كانت حواضرها مكة، والمدينة، ودمشق، وبغداد، والقاهرة، مراكز اشعاع حضاري للعرب والمسلمين والإنسانية، وهذا لا يضر ولا ينتقص من أي منطقة جغرافية من الوطن العربي، فلقد كانت بروسيا بقيادة بسمارك داعية الوحدة الألمانية، فليس هنالك مشكلة أن ترفع لواء الفكرة والوحدة العربية بلاد المغرب العربي من الوطن العربي، فحسب تقسيمكم الجغرافي إننا نعيش في المشرق العربي، ولكننا ننهل فكرياً من مفكرنا الكبير محمد عابد الجابري الذي عاش في المغرب العربي، وكنا أيضاً ننهل ونراهن كثيراً على المفكر عبد الإله بلقزيز، ولكن بعد الشطحات في هذه المقالة بدأنا جدياً نعيد النظر فيما قاله وسيقوله أو يصدر عنه – على الأقل من جانبي – كما أن قولكم إن تجارب التوحيد الوحيدة والصامدة التي نجحت في البلدان العربية حصلت في خارج نطاق المجال المشرقي الذي ولدت فيه الفكرة القومية العربية لا يصمد أمام حقائق التاريخ والجغرافية، فأول وحدة في التاريخ العربي الحديث قامت على أساس قومي هي الوحدة بين سورية ومصر في شباط 1958، وسمي الكيان السياسي الجديد الجمهورية العربية المتحدة بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، وكانت الدولتان من المشرق العربي، أما الوحدات الناجحة في خارج هذا المجال الذي ولدت فيه القومية العربية، فإنها وحدة ولايات، أو محافظات، أو أقاليم، أو مشيخات داخل الإقليم الواحد، وليس بين دول مثل دولة سورية، ودولة مصر، بإستثناء حالة الوحدة اليمنية التي قامت بين دولتين والتي توجه لها الآن السهام من كل حدب وصوب من أجل تقسيمها.

وفي ص 110 قال بلقزيز : ” لا حاجة بنا إلى القول إننا نريد الوحدة العربية لأننا أمة واحدة تجمعها رابطة اللغة، والثقافة، والتاربخ، ولا لأن الاستعمار جزأ هذه الأمة إلى كيانات قطرية، وإنما نريد الوحدة لأن لدينا مصلحة فيها، لأن مصيرنا يتقرر بها إيجاباً وبغيابها سلباً … وننقلها من مجال التاريخ والأنثرويولوجيا إلى مجال السياسة والاقتصاد، من مبدأ الهوية إلى مبدأ المصلحة، من كان إلى سيكون من الماضي إلى المستقبل … من هنا ومن هنا فقط ينبغي أن يبدأ تفكيرنا في الوحدة العربية بعيداً عن الأيديولوجية قريباً من المصلحة “.

لقد قرأنا دعوة بلقزيز غير المسئولة إلى إقصاء الهوية العربية واستبدالها بالمصلحة بدهشة عظيمة، واستغربنا صدور هذه الدعوة من قبله في الوقت الذي يدعي ويزعم أنه مفكر قومي عربي، ويقدمه الآخرون على أنه من المفكرين القوميين العرب الجدد، ومن ثم يجب أن تكون من أولى واجباته؛ بل في مقدمة مهماته، وأولوياته، الدفاع عن الهوية العربية، والوجود العربي، وليس مسخ العرب، وجعلهم من دون هوية، وفي مهب الريح، وخاصة في المنطقة تعرض الكثير من مشاريع الهويات البديلة، وبذلك فإنه بدعوته قد تجاهل الحقائق الآتية :

– إن هوية الشخص حقيقته، أو الشيء المشتمل على صفاته الجوهرية، التي تميزه عن غيره، أو إنها مجموعة من الأوصاف والسلوكيات التي تميز الشخص عن غيره، ولها بعدان وهما جانب التصورات والتصرفات، وأركانها الدين، واللغة، والقيم، والأخلاق، ومن ثم لها علاقة أساسية بمعتقدات الفرد ومسلماته الفكرية، التي تحدد سمات شخصيته، وأطر سلوكه وتصرفاته.

– إن الهوية العربية هي انتماء حضاري، وروحي، وثقافي، وتاريخي، وشعوري، وهي رابطة لغة، وثقافة، وتراث، وتاريخ، ومصالح مشتركة، ووعي بمصير واحد، ومن ثم فإن إلغاء الهوية العربية هو محاولة لاستئصال مكونات الأمة العربية.

– إن إقصاء وإلغاء الهوية العربية، هو إفراغ العرب من محتواهم، وجعلهم في مهب الريح، خاصة وإن الدولة – الأمة التي تدعو إليها لا تقوم إلا على أساس الهوية العربية.

– إن محاولة إلغاء الهوية العربية تصور مضلل، يحاول تثبت فكرة دونية العرب وتفوق الآخر.

– إننا نعيش في عصر يقظة القوميات والدول القومية من جديد، والدليل ما حدث من تفكك الاتحاد السوفيتي إلى دول قومية، وما حدث في ألمانيا، والصين، من عودة إلى الوحدة القومية، فالعالم الذي نعيش؛ فيه حالة صحوة للقوميات والثقافات القومية من جديد.

– إن محاولة إلغاء الهوية العربية دعوة خطرة جداً، ونسأل بلقزيز هل يمكن أن يتخلى الفرنسيون أو الألمان أو الإيطاليون أو الهولنديون عن هوياتهم القومية، وإن انضووا تحت لواء الاتحاد الأوربي ؟ .

– إن الهوية العربية من مقدسات ومقومات الأمة، ولا يجوز أبداً الدعوة أو المطالبة بإلغائها، فالقول بذلك يجعل صاحبه خارج إطار الولاء للأمة العربية.

– في الوقت الذي يدعو فيه بلقزيز إلى إقصاء الهوية العربية وإحلال هوية المصلحة بديلاً عنها يعلن تخوفه على هويات ومصير الجماعات الأقوامية غير العربية – ص 110 الهامش 15 – فهم من حقهم بناء إلى ما يدعو إليه التمسك بانتماءتهم القومية، أما نحن العرب فعلينا التخلي عن هويتنا بتعلة المصلحة، فهذا المنطق الملتوي لا يستقيم مع دعوته.

– إن محاولة تجريد العرب من هويتهم وانتمائهم اعتداء صريح وواضح وصارخ على حقهم في الحفاظ على مقومهم الأساس.

– إن الوجود في أرض واحدة، وممارسة الحياة بثقافة واحدة، يخلق علاقات قوية تدور حول المصلحة المشتركة.

– إن عامل المصلحة قد يكون من عوامل التكوين القومي، وليس بديلاً عن الهوية العربية.

وإن طرح بلقزيز بأن ننتقل من أجل الوحدة العربية من مبدأ الهوية إلى مبدأ المصلحة كان قد رد عليه ساطع الحصري منذ عقود خلت عندما أكد على أن عامل المصلحة يؤدي دوراً مهماً في حياة الأفراد والجماعات ولكن ذلك لا يسوغ اعتباره أس الأسس في بناء الوحدة، لأن كل أحداث الحياة الاجتماعية والسياسية، تشهد شهادة قاطعة على أن المصلحة إذا كونت رابطة توحد فإنها كثيراً ما تكون بعكس ذلك، مدار خلاف، وعامل تفرقة، فإنها إذا ما وحدت في بعض الأحوال تفرق في كثير من الأحوال، إن المصلحة ليست من الأمور الثابتة، بل هي من الأمور النسبية، التي يختلف الناس في تقديرها اختلافاً كثيراً، فضلاً عن أن تقديرهم لها يتغير ويتطور بتغير الظروف وتوالي الزمن وأنظار الناس في ميدان المصالح، فلا تمتد على أبعاد متساوية وإن المنفعة والمادة والاقتصاد ليست كل شيء في حياة الإنسان، لأن النوزاع والعوامل العاطفية والفكرية أيضاً تؤدي دوراً مهماً في حياة الأفراد والجماعات حتى أنها لا تخلو من التأثير في الحياة الاقتصادية نفسها.

إن الأحاسيس الوطنية والقومية لا ترتبط بالمنافع والمصالح المادية والاقتصادية، إنها من النوازع والعواطف التي تسمو على الحسابات النفعية لو عمل الناس في كل شيء بسائق المنفعة دون أن يلتفتوا إلى الأمور العاطفية والمعنوية لتفككت جميع الروابط الاجتماعية من العائلية إلى القومية ولانحطت البشرية إلى مرتبة البهائم بل إلى مرتبة أحط منها.

إن النوازع الوطنية والقومية تدفع الناس في بعض الأحوال إلى التضحية بالنفس، فمن الطبيعي بل من الأولى أن تدفعهم إلى تضحية بالمصالح الاقتصادية عند الاقتضاء، إن الشعوب المحكومة تستطيع أن تحافظ على لغتها، وتقاوم سيطرة الحاكمين في أمرها مدة طويلة، ولكنها لا تستطيع أن تقاوم سيطرتها الاقتصادية ولو لمدة قصيرة، إن المستولين والمستعمرين لا يستطيعون أن يقضوا على لغة البلاد، ولا أن يسيطروا على ذكريات الناس إلا في ظروف خاصة، وبعد جهود تستمر مدة أجيال وأجيال، ولكنهم يستطيعون أن يسيطروا على اقتصاديات البلاد في حملة واحدة(53).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى