مقالات

هذه هي الدولة العثمانية الاسلامية

أ.د. أحمد رشاد

أكاديمي مصري
عرض مقالات الكاتب

أحببت أن أستحضر أحد أسباب تأخر سقوط المدينة المنورة في أيدي القوات الإنجليزية وقوات مايسمي بالثورة العربية ، وبقاءها في أيدي الأتراك لأطول فترة ممكنة تحت الحصار

هذا السبب له جذور ضاربة في التاريخ وجذور روحانية صوفية اشتُهِر بها الأتراك في علاقتهم مع سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم
كان الأتراك ينظرون إلى أنفسهم على أنهم حامو القبر الشريف وأن حمايته واجب عليهم تناقلوه عبر الأجيال، فقد سجل التاريخ للأتراك ثلاثة أحداث حموا فيها قبر الحبيب، صلى الله عليه وسلم.

● كانت المرة الأولى في عهد السلطان السلجوقي آلب آرسلان حين انتصر على أضخم تحالف صليبي في ذلك الوقت في معركة مانذيكرد أو ملاذ كرد أو معركة الأكفان (سنة ١٠٧١م ).
كان هذا التحالف المسيحي الضخم ( ٤٠٠ الف مقاتل) والذي يعدّ تمهيدا للحروب الصليبيية، يهدف إلى اقتلاع جذور الإسلام تماما، وكان هدفه النهائي الوصول إلى قلب الجزيرة العربية وتدمير مكة والمدينة ونبش القبر الشريف، كما صرح بذلك الإمبراطور البيزنطي ( أرمانوس ) عندما راسله ألب آرسلان لعقد هدنة، فقام برفضها وأصر على المضي قدما لاستئصال الإسلام، فلم يقف في وجهه سوى ألب أرسلان وجيشه (١٧ألف مقاتل) بعدما ارتدوا أكفانهم لعلمهم أنهم آخر حصن للإسلام وقتها، وأنها معركة لا رجوع فيها، فنصرهم الله نصرا مظفرا وأفشلوا ذلك المخطط الصليبي لتدنيس الأرض المقدسة والجسد المقدس.

● وكانت المرة الثانية في عهد السلطان التركماني (( نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي)) وقصته المشهورة، التي ذكرها جمع من المؤرخين، منهم ابن كثير الدمشقي في “البداية والنهاية” ، مع نصرانيين جاءا من المغرب كحجاج لنبش القبر الشريف، إذ رأى هذا السلطان النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يشده من ثيابه ويهزه ويقول له: يا محمود، أنقذني من هذين، ثم يشير إلى رجلين. وبعد تكرر هذا المنام، عزم السلطان نور الدين محمود على شد الرحال إلى المدينة المنورة من الشام.
وهناك طلب أن يجتمع جميع الرجال في المدينة ليراهم، فتفحص الجميع فلم ير من رآهما في المنام فسأل الناس إن بقي أحد فأخبروه بعدم حضور رجلين جاءا من المغرب للحج، وهما من الصالحين! فطلب لقاءهما، فلما رآهما عرفهما وسألهما عن شأنهما فأخبراه بما أخبره به الناس، فأمر بتفتيش بيتهما الذي كان يجاور الحجرة النبوية، فوجدوا فيه حصيرا تحته سرداب محفور في اتجاه القبر الشريف، فارتعد الناس وبكى نور الدين فأمر بضرب عنقيهما بعد أن قصا خبرهما، ثم أمر بحفر خندق حول الحجرة النبوية وصبه بالرصاص حماية للجسد الشريف.
أخذ الأتراك عهدا على أنفسهم بحماية المقدسات الإسلامية، وخاصة المدينة المنورة، التي حظيت بمعاملة خاصة منهم لاحتوائها على جسد معشوقهم صلى الله عليه وسلم، الذي أحبوه حد العشق.

● أما المرة الثالثة فقد كانت في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، حين بدأت اسبانيا والبرتغال في الظهور كقوى أوربية استعمارية غارقة في التعصب الديني، الذي كان يحمل طابع الإبادة القومية والاستئصال، والدليل ما حدث مع الإسلام والمسلمين في الأندلس .
فبعد ضعف سلطنة المماليك البرجية ومع اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، بات البحر الأحمر مكشوفا أمام البرتغاليين، فصارت الفرصة سانحة لهم لأخذ الثأر من الإسلام والمسلمين وتجفيف منبعه.
فبعدما قاموا باحتلال غرب اليمن وقتها باتوا يتطلعون لاحتلال جدة، ثم احتلال مكة والمدينة واستئصال الإسلام من جذوره وإهانة القبر النبوي الشريف لتدنيس الجسد الطاهر انتقاما من الإسلام والمسلمين، إلا أن قدر الله سبقهم، فأخرج لهم من الأناضول أسدا تركيّا عبوسا قاطعا، قام بدحر مخططهم بعدما وحّد بلاد المسلمين تحت إمرته وفرض سيطرته على البحر الأحمر وجعل الحرمين تحت وصايته، فكان أول من تلقب بلقب “خليفة المسلمين” من غير العرب وكان أول من حمل لقب خادم الحرمين من بني عثمان، إنه السلطان سليم خان الأول.
ومن ذلك الحين أخذ الأتراك عهداً على أنفسهم بحماية المقدسات الإسلامية، وخاصة المدينة المنورة، التي حازت على معاملة خاصة منهم لاحتوائها على جسد معشوقهم صلى الله عليه وسلم، الذي أحبوه حد العشق فلا يذكرونه إلّا ووضعوا أيديهم على صدورهم لإرجاع قلوبهم إلى مكانها بعدما قفزت شوقا لذكراه ولطمأنتها بالمسح عليها كما طمأن الرسول ذلك الجذع الذي بكى حنيناً له ! هذا العشق الصوفي الروحاني كان أحد أسباب تأخر سقوط المدينة في أيدي الإنجليز وقوات البدو حتى ١٩١٦م ، أي بعد ثلاث سنوات من قيام الثورة العربية الكبرى وسقوط مكة المكرمة من أيدي العثمانيين،

فقد كان الأتراك ينظرون إلى القبر النبوي والجسد الشريف على أنه أمانة في أعناقهم توارثوا حمايتها من الكفار عبر الأجيال.

لذلك، كانت الحاميات العسكرية التركية توجد بكثافة في المدينة المنورة بلغ تعدادهم ٧٠ ألفاً، ولك أن تتخيل ضخامة هذا العدد لحماية المدينة وساكنها صلى الله عليه وسلم، ولك أن تتخيل مدى الحب والوفاء لسيدنا محمد، والذي ترجمه فخر الدين باشا ـ بموقفه الصارم تجاه التسليم، وبقوله الذي خلده التاريخ (( لن نستسلم أبداً ولن نسلم مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لكافر لا يتوضأ ولن نسلمها للإنجليز ولا لحلفائهم )).
ثلاث سنوات، صمود أسطوري وعشق أسطوري، إلا أن نفاد الذخيرة ونفاد المؤونة وحر الصحراء والإتفاقيات الدولية كانت أقوى.. ورغم كل هذا كان شرط فخر الدين عند تسليم المدينة أن يسلمها للقوات العربية، لأنهم مسلمون، وألّا يحضر إنجليزي واحد هذا التسليم.
هذا الصمود الأسطوري لم يعجبنا نحن وحسب، بل أعجب حتى الشريف حسين بن علي !و وأعجب به عدوه قبل صديقه فأطلق عليه الإنجليز لقب ” النمر التركي ” و “نمر الصحراء”

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى