حقوق وحريات

إضاءات سياسية (20)

هيثم المالح

عرض مقالات الكاتب

عبد الله الأقرع :

شهيد النضال من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان

01/07/2003

إلى قافلة شهداء الشعب من أجل استعادة الكرامة وحقوق الإنسان ، من أجل الحرية والديمقراطية ، انضم شهيد جديد من أعضاء حزبنا هو الرفيق عبد الله الأقرع .

ولد أبو نيروز في قرية عقربات (محافظة إدلب) عام 1940 ، وعمل مدرساً في ثانويات حلب الصناعية .

ناضل منذ 1962 في صفوف الحزب الشيوعي السوري في حلب من أجل أهداف الشعب في التحرير والديمقراطية والاشتراكية والوحدة العربية ، وأصبح عضواً في اللجنة المنطقية لمنظمة الحزب هناك .

وبسبب أفكاره التقدمية واستقامته وتفانيه في العمل حظي باحترام وحب زملائه وتلامذته ، لكن أيضاً باضطهاد السلطة ، التي نقلته من التعليم إلى أحد الأفران الآلية في حلب .

  اعتقل في إحدى موجات الاعتقال التي تتعرض لها حلب منذ أشهر (موجة الأول من نيسان/أبريل) ورداً على مطالبة حزبنا بوضع حد للقمع والإرهاب اللذين تطبقهما الدولة على الشعب ، ومورس عليه تعذيب وحشي في أحد أقبية أمن الدولة ، ثم نقل إلى دمشق حيث عذب من جديد حتى فارق الحياة .

   ترك في عهدة الوطن والشعب سبعة أطفال مصيبتهم كمصيبة آلاف الأطفال في وطننا الذين فقدوا آباءهم على يد الجور والطغيان .

   عهداً يا أبا نيروز أن لا تتوقف القافلة عن السير حتى تتحقق أهداف الشعب في الكرامة والحرية والتحرير والديمقراطية والاشتراكية والوحدة ؟!

الاستبداد يقود البلاد إلى الدمار  …  والديمقراطية طريق الإنقاذ

1- تعيش البلاد أوضاعاً مأساوية بالغة الخطر . والوطن على مفترق طرق ، إن لم يكن قد قطع أشواطاً على طريق التدمير الذاتي . الأحداث والحوادث الجارية تؤسس للأيام المقبلة وترسم خطوط التطور فيها ، ليس في هذا القول إنشاء أو مبالغة . فقد علمتنا الأيام والأحداث أن نترك الإنشاء ونتمسك بلغة أقرب ما تكون للواقع . بل أن المرء ليشعر بعجز اللغة عن التعبير عن الواقع بتفاصيله وما يحدث فيه والاحتمالات التي يمكن أن يقود إليها تطوره . فالمأساة أكبر بكثير من القدرة على وصفها ، والأحداث لا تزال في بداياتها ، والمخفي أعظم . وإذا استمر سير الأمور على المنوال الذي تسير فيه من نيسان/أبريل  1980 ، أي منذ بدأت السلطة بتطبيق أفكار وبرامج (مراكز القوة الفعلية) فيها المخصصة لقمع الشعب والتدرج في القمع بدءاً من حشد الجيش في المدن وحصارها وصولاً إلى الفتك بمعتقلي تدمر ، نقول إذا استمر سير الأمور على هذا المنوال ، فلن يكون بعيداً ذلك الوقت الذي ستتحقق فيه أكثر النبوءات تشاؤماً بخصوص مستقبل البلاد واستقلالها ووحدة أرض الوطن وترابط الشعب . ليس هدفنا التوسل إلى ضمائر لم “تستيقظ” بعد ، أو بقايا ضمائر لمن هم في مواقع الفعل ، فالأحداث لم تترك ضميرا نائماً . هدفنا كان وسيبقى استنفار القوى الحية في هذا الشعب ، وهي كثيرة وكبيرة لكنها مغلولة ومقموعة ومتفرقة . وعلى الرغم من إدراكنا أن لغة الكلام والعقل قد تراجعت لصالح لغة العنف العاري الذي لا يعرف قانوناً ولا حدوداً (بل يشرع قوانينه وكأن البشرية تعود القهقرى بضعة آلاف من السنين) ويتجاهل أن السلطة تعني المسؤولية وأن الدولة تعني القانون وأن القانون يعني العدل وحماية المجتمع والترابط الاجتماعي ، على الرغم من ذلك فلن نكف عن استخدام لغة العقل (فنحن لا نعرف لغة غيرها) ولن نتوقف عن مخاطبة مواطني بلدنا المرتبطين بوطنهم الغيورين على وحدته ، المحبين لشعبهم ، الذين يعرفون بالبداهة أن الوطن أكبر من الدولة ، والشعب أبقى من النظام ، والتاريخ أكبر وأعرض وأعمق من أية مرحلة صغيرة عابرة ، والمستقبل ليس ملكاً لحاضر وزائل ، مهما بدا هذا الحاضر عاتياً فالدولة والنظام لا يصمدان أمام العواصف (وهي كثيرة ولا تكف عن الهبوب ، الآن ، وفي المستقبل) إن لم يرتكزا على الكتلة الأساسية للشعب ، وإن لم يعبرا عن تطلعات وآمال وآلام هذه الكتلة ، وإن لم يقيما معها علاقات قائمة على العدل وعلى الديمقراطية .

2- عندما وضعت السلطة الجيش بمواجهة الشعب في حلب وحماه ودير الزور والمعرة والجسر وإدلب واللاذقية وغيرها .. لم يصدق الكثير من المواطنين ما سمع وما رأى . ففي بلادنا نشأ الجيش الوطني مع الاستقلال . مطلب الجيش الوطني كان من أهم المطالب التي رفعتها الحركة الوطنية بوجه المحتلين الفرنسيين ، وكان تحقيق هذا المطلب علامة أساسية من علامات الاستقلال ، وتطوير الجيش وتقويته جزءاً لا يتجزأ من مفهوم السيادة الوطنية -لا نريد هنا أن نتحدث عن فلسطين وهزائم فلسطين- ، والعقيدة الشعبية الراسخة والصحيحة بأن الصمود بوجه إسرائيل والانتصار عليها وتحرير فلسطين في نهاية المطاف أمور على علاقة متينة بوجود جيش وطني مرتبط بالشعب . لكن الحياة نفسها تعلم أحسن بكثير من النظريات والكتب . فلم يكن ما حدث في نيسان/أبريل سوى البداية ، وبدءاً من نيسان/أبريل حتى نهاية حزيران/يونيو تعلم الناس أن يقيسوا جدية الأقوال التي ذاع أنها قيلت في المؤتمر الأخير لحزب البعث الحاكم عن “الثورة وعن عشرات آلاف الضحايا” . على الأقل أخذ يتضح للجميع أن ما قيل آنذاك أمر قابل للتطبيق وبسرعة لم تكن متوقعة . لا نريد أن نتحدث لا عن حلب ولا عن حماة . لا عن المعرة ولا عن الجسر . فما جرى هناك بالمقارنة مع ما جرى للمعتقلين في تدمر ليس إلا لعبة أطفال . مئات السجناء والمعتقلين ، المجردين من كل سلاح ، من كل وسيلة للدفاع عن النفس ، مئات المعتقلين الموضوعين أمانة بيد الدولة لتنظر في أمرهم ، لتعرضهم أمام محكمة ما (ولا نتحدث عن محكمة عادلة نزيهة تضمن للمتهم حق الدفاع عن النفس) ، هؤلاء المئات تفتك بهم قوى الدولة نفسها وخلال دقائق قليلة . ثم تتكتم الدولة على الأمر – الجريمة – المجزرة – المذبحة ، وتتسرب الأنباء من رجال الدولة نفسها ، فيؤكد البعض أن عدد القتلى بحدود ألف ومائتي إنسان ، “ويحاضر” بعض رجال  الأجهزة في معسكرات الشبيبة الصيفية فيتحدثون عن مقتل ستمائة معتقل . مع رحلة البشرية من الوحشية إلى الإنسانية كانت قيمة الحياة الإنسانية تتأكد وتأخذ اعتبارها . الأديان كلها ، السماوية وغير السماوية ، الشرائع كلها منذ حمورابي وقبل حمورابي أكدت على قيمة الحياة . كل المجتمعات ، طالما هي مجتمعات ، حتى البدوية منها التي لم تعرف الدولة ، أكدت على قيمة الحياة ، وكانت الدولة أحد أهم المؤسسات التي خلقها المجتمع لتنظيم نفسه ولوضع الضوابط لسيره ، أي لسير الحياة ولتأكيد قيمتها وحمايتها . فهل يتصور أن تكون دولة المجتمع نفسه هي المولجة بقتله ؟ هل يتصور أن تقتل الدولة الرهائن الذين بيدها ؟ أسرى الحروب مع الدولة الصهيونية الغازية ، على قلة عددهم ، سلموا لدولتهم ، وقبل ذلك سمح للصليب الأحمر الدولي بالاتصال بهم ونقل أخبارهم لذويهم . أما مواطني بلدنا فقتلهم مباح . فليس هناك من يدافع عنهم وليس هناك من صليب أحمر دولي أو محلي يضغط من أجلهم . ومن تضع الدولة يدها عليه يجب أن تقرأ الفاتحة على روحه . فماذا يجري في هذا البلد ؟ لو أن ألف خروف ذبحت دفعة واحدة في مسلخ ، هل يمكن تصور مدى ثغائها وشكواها إلى الله ؟ ألف إنسان يقتلون دفعة واحدة بدم بارد وأعصاب باردة ، ومن أجل ماذا ؟ أمن أجل الصمود والتصدي والوحدة والحرية والاشتراكية ؟! حتى في الحروب ، مجزرة من هذا النوع لا يمكن فهمها ولا يمكن قبولها . مذبحة ماي لاي ضد الفيتناميين لم يقبلها العقل الغربي وهو معبأ ضدهم . لكن المعتقلين مواطنون والسجن ليس ساحة حرب . إن قتل معتقل واحد بأيدي جلاوزة التعذيب هو جريمة ووصمة عار ليس لمرتكبيها بل أولاً للذين يغطون على جرائمهم ويحمونهم ، بل للدولة والمجتمع نفسه . أما قتل ألف إنسان فماذا يمكن أن نسميه ؟ لقد اقتربنا كثيراً وبسرعة من العصر الحجري . فهل هذا هو “التقدم” الذي تبشرنا به الدولة ؟

3- وبالارتباط مع المجزرة ، وربما مع غيرها ، نتأمل المقال الذي نشرته جريدة تشرين في الأول من تموز/يوليو في مكان الافتتاحية وبالخط الأسود العريض . المقال لا نريد أن نناقش أفكاره . لكننا نقرأ :

“الإنسان غاية الوجود وبدونه لا تقوم الأشياء” ، “الإنسان قيمة عليا” ، “جئنا هذا الوجود لنكرس فيه القيم العربية وننجز مهمتنا الإنسانية” ، “ليس الوطن للذين يذلون كرامته ويعوقون مسيرته ويعودن به إلى السيرة الجاهلية ويدفعونه إلى التقوقع والجهل والانقسام والخنوع .. أولئك ليسوا من الوطن ولا المواطنية في شيء ولا يستحقون شرف هويته ، بل لن يكون لهم بعد اليوم موضع قدم يؤذونه ويدنسون من خلاله ترابه المقدس” ، ” كان طبيعياً أن لا يكون بيننا من يفرط بشرف الوطن وبأرض الوطن وبحمل أعباء الوطن ، فالثوري أول من يضحي وآخر من يستفيد” ، “الوطن ليس قطعة من الجبنة يأكلها الكسالى أو يبيعها المرتبطون” ، “من أحب وطنه ارتقى إلى عالم القيم والمثل ، ومن كان على وطنه انحدر إلى درك العالم السفلى” ، “إذا اقتضى بناء السلام وبناء المحبة أن نخوض مائة حرب وندمر مليون معقل ونضحي بمليون شهيد ، فإننا على استعداد لذلك كله في سبيل بناء سلام الوطن وعزة الوطن وكرامة إنسان هذا الوطن”..

 الوطن ليس قطعة جبنة ؛ لكن هل الوطن مسلخ ؟ ألف سجين ، ألف معتقل يقتلون كدفعة أولى من أجل بناء “سلام القبور ومحبة الأموات ، روى الصحراء بالدماء !!” .

4- ويشكل القانون (49) المسمى بقانون تشديد العقوبة على منتسبي جماعة الإخوان المسلمين تطويراً خطيراً للأوضاع ودفعاً قوياً لها باتجاه التفاقم . وهو عدا عن كونه سابقة خطيرة في التشريع لا يمكن حتى أن يحل المشكلة بالاتجاه الذي أعلنت عنه السلطة . فقد مضى أكثر من نصف المدة التي أقرها القانون “للعفو” ولم يتقدم بالانسحاب من الجماعة سوى بضعة عشر فرداً ، لا يعقل أن يكونوا مسبـبي الأحداث التي شغلت البلاد منذ آذار/مارس ، وقبل آذار/مارس ، إذاً لم يكن هدف إصدار القانون تسهيل “توبة التائبين” ..

القانون المخالف للدستور ولكل القوانين الأخرى ، لا يصمد للمناقشة العادية فكيف بالمناقشة الحقوقية ، ولو كان لدى البلاد مؤسسة تبحث دستورية القوانين (محكمة عليا مستقلة مثلاً) لما كان له أن يرى النور .

فلا يمكن ، في أي عرف ، ومهما كان الرأي بجماعة الإخوان ، معاقبة إنسان لأنه يحمل رأياً مخالفاً لرأي الحاكمين ، فكيف إذا كانت العقوبة هي الإعدام ؟ ثم كيف يمكن إصدار قانون يلغي المبدأ القانوني الأساسي الذي ينطلق من أنه لا عقوبة حيث لا يوجد نص . الدولة هنا تعطي لنفسها حق تدمير المجتمع وبالتالي تدمير نفسها أيضاً . إلى جانب ذلك فالقانون مليء بالتناقض : المنتسب يعاقب بالإعدام ، وإذا أعلن انسحابه فيعفى عنه . بل أن مصدري القانون ألغوا قانون العقوبات كله من خلال المادة الثانية التي تخفض -إلى خمس سنوات أشغال شاقة كحد أقصى- عقوبة الجرائم الجنائية المرتكبة والموجبة للإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة ، إذا ما سلم مرتكب هذه الجرائم نفسه للسلطات (على افتراض أنه سيحافظ على حياته ويتجاوز بنجاح مرحلة التعذيب في أقبية الأجهزة المعروفة ، وأنه لن ينقل إلى معتقل مخطط له أن يكون تدمر جديدة) . على أن المناقشة الحقوقية للقانون ليست بذات جدوى في بلد ألغيت فيه كل الحقوق إلا حق الحكام في الفتك بالناس حفاظاً على سلطاتهم . كذلك لن يزيد في معرفتنا شيء الحديث عن الطريقة التي أصدر فيها القانون والضغوط التي أخضع لها عدد من أعضاء “مجلس الشعب” ، طالما أن هذا المجلس لم يأت أصلاً إلى الوجود ولم يجر اختيار أعضائه من السلطة لتمثيل الشعب ولم تدفع لهم الرواتب إلا لمثل هذه الغايات .

القانون يطرح أسئلة كثيرة ويقود لاستنتاجات أكثر ، لكننا سنتوقف عند الهدف من إصدار قانون مخالف لكل القوانين . هل يذهب بنا الخيال بعيداً (أم قريباً !) فنتصوره الشقيق الأكبر لقوانين أخرى من نفس النموذج تنال كل رأي مخالف لرأي الحاكمين ؟ لن نذهب بعيداً في التصور ، سوف نترك أنفسنا “للمفاجآت” التي لم تعد “تفاجئ” ، ولتطور الأحداث الذي لا يكاد يصدق ، لكن المنطقي . من الأكيد أن القانون لم يأت لطي صفحة ، وفتح صفحة جديدة ، ومعالجة أزمة البلاد معالجة معقولة أو نصف معقولة ، خصوصاً إذا ربطنا مجيئه بالإعلان الرسمي عن أن المحاكم الميدانية قد بدأت عملها ، وإذا ربطناه ، كذلك بالتعديلات الأساسية في القوانين المتعلقة بمد صلاحية هذه المحاكم لتشمل المدنيين إضافة للعسكريين ، أي كل الشعب ، وبإعطاء السلطة الحق في تشكيلها ليس خلال الحرب فقط ، بل أيضاً خلال “الاضطرابات الشعبية” ، بحيث أصبح بالإمكان إقامة محكمة ميدانية في أي وقت في أية ساحة في أية مدينة أو قرية ، وأخيراً إذا ربطناه بأخبار الإعدامات لعسكريين ومدنيين في حقول الرمي في أكثر من معسكر . الهدف الأساسي من القانون “التغطية القانونية” لجرائم قتل المواطنين في الفترة الواقعة بين نيسان/أبريل وصدور القانون في تموز/يوليو 1980 وخصوصاً مجزرة تدمر ، ولعل المادة الخامسة ذات مغزى واضح فقد جاء فيها أنه : “لا يستفيد من هذا التخفيض والعفو الواردين في هذا القانون الذين هم قيد التوقيف أو المحاكمة” . طبعاً لن يستفيدوا لأن أكثرهم رحل إلى العالم الآخر . ولنا أن نتوقع بعد صدور القانون قوائم إعدامات صادرة عن محاكم وهمية لأناس قتلوا من زمان مضى ودفنوا في مقابر جماعية حفرتها البلدوزرات في بادية تدمر ، أو في حفر جماعية في أكثر من مقبرة في أكثر من مدينة سورية . هذا أولاً ، وثانياً تجد السلطة من المناسب أن تغطي سلفاً رجالها وأن لا تقع في الحرج الذي ارتبط بالانتهاكات التي ارتكبتها منذ نيسان/أبريل وخصوصاً في تدمر . القوانين يجب أن تكون جاهزة ومعروفة للجميع ، وأن يكون رجال الأجهزة مطمئنين على أن جرائمهم بحق الإنسانية مغطاة قانوناً الآن وفي المستقبل . لقد أصبحت شرعة القتل هي الشرعة الأساسية في بلادنا . لقد أطلقت السلطة يد أفرادها في رقاب الشعب .

5- في هذا السياق جاء اغتيال صلاح الدين البيطار في أحد شوارع باريس في 21 تموز/يوليو .

لم يكن صلاح البيطار”زعيم عصابة” ، ولم يكن صديقاً لجماعة الإخوان المسلمين ولا حليفاً لهم . صلاح البيطار من أعلام المعارضة الديمقراطية ، ولأنه كذلك ، اغتيل . فلم يشفع له كونه أحد مؤسسي حزب البعث . اغتياله يأتي تعبيراً عن التطور السريع “لسياسة” الدولة الجديدة : تطوير الإرهاب ونشره داخل البلاد وملاحقة أي عنصر معارض خطر داخل وخارج البلاد ، تطبيقاً لما أوردنا أعلاه وترجمة حرفية للنص المأخوذ من المقال الذي سبقت الإشارة إليه : “لن يكون لهم بعد اليوم رأس يطلون به أو أقدام تحملهم” . ولعل اغتيال صلاح البيطار يحمل معاني أكبر وأعمق دلالة . فالرجل خاض تجربة البعث كلها . وهو أحد قلائل رفضوا إغراءات المناصب ، بعد معايشة عميقة للهزيمة القومية وممارسة النقد الذاتي والنقد للتجربة السياسية والوطنية التي خاضها بعد  هزيمة حزيران/يونيو (وهو خارج السلطة وخارج المسؤولية) وهزيمة الأهداف التي رفعها الحزب الذي شارك في تأسيسه على يد الحزب نفسه أو بالأحرى على يد الدولة والنظام اللذين ينتسبان لهذا الحزب ونعني أهداف الوحدة والحرية والاشتراكية . ولأن صلاح البيطار ديمقراطي يناضل من أجل البديل الديمقراطي كحل أوحد للخلاص الوطني ، ولأن لصلاح البيطار منبراً يطل منه على العالم ، ويستطيع من خلاله أن يفضح ولو جزئياً ما يرتكب في هذه البلاد ، ولأنه يمثل هذا التيار من قواعد البعث التي تتململ من نمو الاستبداد والطغيان وتخريب الوطن ، تقرر “أن لا يبقى له رأس يطل به أو قدمين تحملانه” . الرصاصة تواجه الكلمة . المسدس المكتوم الصوت يواجه الرأي الحر الأعزل من السلاح ، حتى في باريس . المجرم المحترف يواجه رجل الفكر . مؤقتاً تُسكت الرصاصة الكلمة ، ويعلو صوت المسدس الكتوم الصوت على الرأي الحر الأعزل من السلاح ، ويفتك المجرم المحترف برجل الفكر . لكن هذا النصر الرخيص لن يخدع أحداً . فالكلمة ستعلو على الرصاص والرأي الحر سيعطل المسدسات المجرمة والفكر سينتصر على القتلة المحترفين الوالغين بدماء الشعب ، وصلاح البيطار سيستمر على الحياة في قلوب الناس الطيبين على الرغم من موته .

6- هذه الأحداث ترسم بوضوح ملامح المأساة التي تعيشها البلاد ، بل تغرق فيها ، فالنظام القائم لم يستطع ، ببيانات جبهته “الوطنية التقدمية” وإجراءاته “التجميلية الشكلية” والتي لا تمس بنيته من قريب أو بعيد ، معالجة الأزمة الوطنية الشاملة ، فأخذ يلجأ بوتيرة متسارعة للأساليب الدموية .

لقد أصبح العنف هو أسلوب السلطة السائد . كل مؤسسات الدولة يتبين الآن بوضوح أنها أدوات لممارسة العنف ، أو تبريره ، أو التغطية عليه ، بما في ذلك اللغة “اليسارية” التي لم تخدع أحداً والتي ازدادت انتشاراً في وسائل الإعلام .

إن الدولة تدفع بالبلاد نحو الدمار الشامل وتتحول إلى عدو للمجتمع والشعب . علامات هذا الدمار واضحة ليس فقط في الحفر الجماعية والجثث المرمية بعضها فوق بعض ، وآلاف المعتقلين الذي لا يعرف ذووهم مصيرهم ، بل أيضاً في وضع الجيش واستمرار وضعه بمواجهة الشعب وغياب القانون واستشراء أجهزة الأمن وفقدان الأمن في البلاد ، وفرض الحصار على الوطن كله وتحويله إلى سجن كبير ، وأخيراً وليس آخراً ممارسة أسلوب التصفية الجسدية لمعارضي النظام داخل وخارج البلاد .

وبموازاة العنف والولوغ فيه ، تتسع الهوة بين الشعب والسلطة وتنعدم الفرص لردم هذه الهوة ، ويتعمق الشرخ الوطني .

إن حادثاً كحادث تدمر ، لا يجوز لأحد -إذا أراد أن لا يخدع نفسه- أن يتصور أنه سيمر وكأنه لم يكن . حادث من هذا النوع يؤسس للأحداث التاريخية اللاحقة . وينبغي أن يثير أعمق القلق في نفوس الوطنيين الغيورين على ترابط الشعب وتماسك البلاد .

*       *       *

إن المستقبل مليء بالصعوبات والآلام ، إن لم تتمكن البلاد من تحقيق التغيير الجوهري وإقامة نظام ديمقراطي يضع نهاية للأوضاع القائمة ، ويرتكز على دستور يضمن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة بين المواطنين ، نظام ينهض على أساس انتخابات ديمقراطية حرة تنتخب فيها هيئات تشريعية تمثل الشعب حقاً وحقيقة وتخضع لها كل السلطات الأخرى .

إن مخرج الديمقراطية هو المخرج الوحيد الذي يقود البلاد إلى شاطئ الأمان . ولم يعد هناك من مخرج آخر .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى