بحوث ودراسات

دفاع عن العروبة: ملاحظات على مراجعة عبد الإله بلقزيز لمفهوم الوحدة العربية 2 من 6

د. قصي غريب

كاتب وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب

إن نافل القول الذي أتى به بلقزيز من أن الأمة لم تتوحد في تاريخها سياسياً، ولم تقم في تاريخها دولة واحدة جامعة، قد أتى متهافتاً، لأنه لا يصمد أمام حقائق التاريخ الموضوعية، كما أنه لا يتماشى مع مقتضيات التفكير العلمي الصحيح، لوقوعه في خطأ تاريخي، يدل على نقص واضح في استقصاء الحقائق التاريخية الصحيحة، فضلاً عن تضليله الشباب العربي، فالوطن العربي الكبير المعروف بحدوده الآن، والممتدة من المحيط الأطلسي غرباً، إلى الخليج العربي شرقاً، ومن البحر المتوسط شمالاً، إلى الصحراء الأفريقية الكبرى جنوباً، قد توحد في تاريخه السياسي، وأقام دولة واحدة جامعة في ظل الحكم العربي الإسلامي الأموي، وبقي كذلك حتى ظهور الدولة العباسية، عندما استقل المغرب والأندلس، ومنذ القرن السابع الميلادي ارتبط تاريخ العرب بتاريخ الإسلام، وغدا العرب يجتمعون حول ذكريات تاريخية واحدة، ترجع إلى تراث الإسلام، الذي يرى فيه القوميون العرب الأصلاء- المسلمون والمسيحيون- تراثاً قومياً بصرف النظر عن أصول المشاركين فيه، فالإسلام وثقافته، وحضارته، وتاريخه، محل اعتزازهم وفخرهم، لأنه جزء من تكوين الأمة العربية، التي تكونت في ظل الحضارة الإسلامية، بل إن الآباء الأوائل للقومية العربية رأوا في الإسلام أنه قد أدى دوراً مهماً في تقدم القومية العربية، وتوسعها، وأنه ركن أساس من أركان القومية العربية، أو مكون رئيس من مكوناتها، لأنه شكل بتراثه الحضاري محتوى للعروبة والقومية العربية، وقد قال ساطع الحصري : ” إن الديانة الإسلامية لعبت دوراً مهماً في تقدم القومية العربية، وتوسعها، لأنها : أولاً – كانت القوة الدافعة للفتوحات العربية التي نشرت اللغة العربية، ووسعت نطاق القومية العربية. ثانياً – صارت القوة الواقية التي أكسبت اللغة المذكورة نوعاً من المناعة ضد عوامل التفرق، والتفتت، وصانت بذلك القومية العربية من الانشطار، في عهد انحطاطها الطويل “(26). وقال زكي الأرسوزي : ” إننا ندين بمجدنا القومي للإسلام ندين به لمحمد نبي الإسلام “(27). وقال قسطنطين زريق : ” فنتساءل : ما علاقة النبي محمد بالقومية العربية ؟ النبي محمد؛ هو أولاً نبي الإسلام، عليه أنزل هذا الدين الكريم، وبواسطته انتشر في مشارق الأرض ومغاربها، وقد بلغ أثر هذا الدين كل ناحية من نواحي ثقافتنا العربية، فلسنا نستطيع اليوم أن نفهم تراثنا العربي القديم سواء أفي الفلسفة، أو العلم، أو الفن، إلا بعد درس عميق لنصوص الدين الإسلامي، وأحكامه، وتفهم صحيح لروحه ونظامه. وهذا التراث العربي قسم من ثقافتنا الحاضرة، بل هو أساسها الذي تقوم عليه، وباطل ما ينادي به البعض من أن نرمي بهذا التراث القديم جانباً، ونقبل على الثقافة الغربية الجديدة، فالتراث العربي جزء منا – شئنا أم أبينا – وهو فوق ذلك ميزتنا التي بها ننفرد بين الأمم، وقد أوتي من الخصب، والقوة، والجمال، ما يدفعنا إلى الحرص عليه، ومفاخرة الناس كلهم به، ولهذا وجب على كل عربي من أي طائفة، أو نحلة، يهتم بثقافة الماضي وببعثها الجديد – وهذا الاهتمام هو في طليعة الواجبات التي تفرضها عليه قوميته – أن يقدم على درس الإسلام، وتفهم حقيقته، ويقدس ذكرى النبي العظيم، الذي أنزل الإسلام عليه، والنبي محمد؛ هو من ناحية ثانية موحد العرب، وجامع شملهم … والنبي محمد؛ هو من ناحية ثالثة مثال لرجل العقيدة “(28).

ومن الجدير بالذكر في المغرب العربي الكبير لا يفرق أهله بين العربي والمسلم، وبلقزيز يعرف هذا جيداً، ولكن يبدو أنه لا يريد الربط بين تاريخ العرب، وتاريخ الإسلام، وهذا شأنه وحده، ولكن يجب أن لا يعممه على القوميين العرب، لأننا نؤمن بالصلة العضوية بين العروبة والإسلام، فلولا كل منهما ما عز الأخر.

ومن ناحية أخرى إن تفسير بلقزيز من أن المفكرين القوميين الأوائل؛ ما ربطوا بين فكرة الأمة والدولة، وما أسسوا شرعية الأولى على كونها وجدت في نطاق كيانية سياسية، بسبب أن الأمة لم تتوحد، ولم تقم في تاريخها دولة واحدة جامعة، وظل التعدد السكاني سمتها، فإن هذا الكلام غير صحيح، وغير دقيق، لأن لهم وجهة نظر أخرى مختلفة كلياً فالآباء الأوائل لم يربطوا بين الأمة والدولة ليس للأسباب التي جاء بها بلقزيز إنما لاعتبارات أخرى يأتي في مقدمتها أنهم ميزوا بين عوامل التكوين القومي، وبين مفهوم الدولة، وفي هذا الشأن قال ساطع الحصري : ” من الأمور المسلمة لدى الجميع أن مفهوم الأمة يجب أن يفصل عن مفهوم الدولة. في الواقع أن كل أمة تنزع إلى تكوين دولة خاصة، ولكن كيان الأمة لا يتوقف على وجود الدولة، والأمة تكون موجودة ولو لم تكن قد توصلت بعد إلى تكوين الدولة القومية، التي ترعى شئونها، ولو كانت قد فقدت الدولة الخاصة بها “(29). وقال : ” إن مفهوم الأمة يجب أن يفصل عن مفهوم الدولة فصلاً تاماً، وأكرر القول بأن كل أمة تنزع إلى تكوين دولة خاصة بها إلا أنها تكون موجودة قبل أن تتوصل إلى تكوين الدولة، كما أنها تبقى أمة ذات كيان خاص، ولو فقدت الدولة الخاصة بها، وتكون أمة واحدة ولو تعددت الدول التي ترعى شئونها، فالأمة شيء والدولة شيء آخر “(30). ثم قال : ” إن أس الأساس في تكوين الأمة وبناء القومية هو : وحدة اللغة، ووحدة التاريخ، لأن الوحدة في هذين الميدانين هي التي تؤدي إلى وحدة المشاعر، والمنازع، ووحدة الآلام والآمال، ووحدة الثقافة، وبكل ذلك؛ تجعل الناس يشعرون بأنهم أبناء أمة واحدة متميزة عن الأمم الأخرى. ولكن لا الدين، ولا الدولة، ولا الحياة الاقتصادية، تدخل بين مقومات الأمة الأساسية، كما أن الرقعة الجغرافية أيضاً لا يمكن أن تعتبر من المقومات الأساسية “(31). وبعد هذا من أين جاء بلقزيز بهذه الحقيقة، التي يعرفها المفكرون القوميون الأوائل، والتي بكل بساطة لديه هي من معطيات التاريخ الموضوعية، ولذلك ما ربطوا بين فكرة الأمة والدولة، وما أسسوا شرعية الأولى على كونها وجدت في نطاق كيانية سياسية، فنحن لا نعرف إطلاقاً مفكراً قومياً له قيمة، ما ربط بين فكرة الأمة والدولة، وما أسس شرعية الأولى على كونها وجدت في نطاق كيانية سياسية بناء على ما يؤكده وليسمح أن نطالبه بتقديم نص واحد لمفكر قومي كبير يمكننا أن نجد فيه ما يؤكد حتمية ما ذهب اليه.

وفي ص 107 بالهامش 9 قال بلقزيز : ” ولعل من المضاعفات السلبية لذلك أن الفكر القومي أنتج نظرية الأمة ولم ينتج نظرية الدولة، وبالتالي لم ينتج نظرية الوحدة القومية بالمعنى الذي نقول فيه أن الفكر الألماني – مثلاً – أنتج نظرية في التوحيد القومي ذلك أن عمادها الدولة وليست الأمة “.

لا بد من دراسة التاريخ، فمن دون دراسته لا يمكن أن يكون الباحث موضوعياً، فلا يجوز خلط الماضي بالحاضر، وضرب عرض الحائط بتاريخية منطق الأفكار، نعم صحيح ما ذهبت إليه من أن الفكر القومي العربي أنتج نظرية الأمة ولم ينتج نظرية الدولة، فالمفكرون القوميون الأوائل عندما قالوا بأن الأمة تسبق الدولة يرجع سبب ذلك إلى أن التاريخ العربي الإسلامي فيه الأمة تكونت قبل الدولة، كما أن نوع التفكير السياسي الذي كان سائداً في وقتهم إن الأمة هي من يصنع الدولة، وليس العكس، فكان فكرهم مهتماً بالأمة قبل كل شيء، ولهذا لم يسترع اهتمامهم إلا فكرة الأمة التي تصنع الدولة، فاهتموا بأسسها، ومقوماتها الأساسية، بحكم الواقع، فالأمة مجزأة، وبعضها محتل، ولذلك كانوا على صواب، فكيف تنتج نظرية الدولة والأمة في هذا الحال ؟ أما الفكر الغربي عندما أنتج بعض مفكريه نظرية الدولة، فقد كان لديهم مفهوم الوطن، أو الكيان السياسي واضح المعالم، ومستقر الشكل، غير مجزأ، أو محتل، مثل حال الأمة العربية.

وفي ص 107 قال بلقزيز : ” نشأ في تراث الفكر القومي العربي ما يشبه الإجماع على القول أنها أمة وحدها اللسان والتاريخ والثقافة، أما الدين فاختلف في موقعيته وأساسياته في تكوين الأمة، لكن هذا الجواب الفكري القومي عن عوامل تكوين الأمة وتوحيدها يثير من الأسئلة أكثر مما يجيب عنها “.

وهنا نسأل بلقزيز لماذا تكوين الأمة العربية على أساس اللسان، والتاريخ، والثقافة، والدين، الذي اختلف في موقعيته وأساسياته في تكوين الأمة يثير من الأسئلة أكثر مما يجيب عنها ؟ وفي الوقت نفسه في تراث الفكر القومي الإنساني هنالك نظريات مختلفة وعديدة تعطي الأولوية لهذا العامل أو ذاك في تكوبن الأمة(32). وعلى هذه الفقرة التي أوردها سجل ملاحظة في الصفحة نفسها قائلاً : ” إنه تصور يفترض ضمناً أن تكون أمة بعوامل غير سياسية – ثقافية ولغوية ودينية – تحصيل حاصل تاريخي، أو من بداهات تاريخ الأمم، وليس دقيقاً تماماً أن الأمم في التاريخ تكونت وتوحدت من دون كيان سياسي من دون دولة جامعة “.

وهنا يخترع بلقزيز حقيقة معاكسة بالاستناد إلى التاريخ الذي لا وجود له إلا في ذهنه فقط، ففهمه الخاطئ قاده إلى خطيئة فادحة بالمعلومات التاريخية، فهو لا يفرق بين عوامل التكوين القومي، التي هي أصلاً عوامل غير سياسية، والتي تؤدي بدورها إلى قيام فكرة القومية وانتشارها، وتكون باعثاً للأمة على تحقيق كيانها السياسي، وبين مفهوم الدولة، فإذا راجعنا الوقائع التاريخية وجدنا أن الحركات القومية تنشأ أولاً وبعد ذلك تقوم الدولة أي أن الدولة هي أخر علامات القومية، وليس أولها، وهي نتيجة للحركة القومية وليست سبباً لها على الإطلاق، ولذلك فإن تراث الفكر القومي العربي لا يختلف عن تراث الفكر القومي الإنساني، ولكن يبدو أن بلقزيز لا يميز أبداً بين مفهوم تكوين الأمة، وبين مفهوم الدولة، كما إنه يحاول أن يفتري على تراث الفكر القومي العربي بمحاولة إظهاره تعسفاً بأنه عدمي، لا يؤمن بوجود الدولة عندما قال : ” وليس دقيقاً أن الأمم في التاريخ تكونت وتوحدت من دون كيان سياسي، من دون دولة جامعة “. ولكن لا يوجد تلازم حتمي بين الدولة والأمة كما هو واقع حال الأمة العربية اليوم فهي موجودة ولكن لا يوجد لها كيان سياسي وهذا لا ينفي وجودها مع العلم أن التراث الفكري القومي العربي دعا إلى قيام كيان سياسي عربي واحد أي دولة عربية واحدة من خلال الدعوة إلى الوحدة العربية فقد آمن المفكرون القوميون الأوائل بدور الإقليم – القاعدة الذي يقود عملية التوحيد السياسي للأمة العربية، أي إنهم آمنوا أن الإقليم – القاعدة هو الذي يصنع الدولة القومية، فاتجهت أنظارهم إلى مصرن وفي هذا الشأن قال ساطع الحصري : ” لقد زودت الطبيعة مصر بكل الصفات والمزايا التي تحتم عليها أن تقوم بواجب الزعامة والقيادة في إنهاض القومية العربية، لأنها تقع في مركز البلاد العربية بين القسمين الأفريقي والآسيوي منها، كما إنها تكون أكبر كتلة من الكتل التي انقسم إليها العالم العربي بحكم السياسة والظروف. هذه الكتلة قد أخذت حظاً أوفراً من غيرها من الحضارة العالمية الحديثة، وأصبحت أهم مركز من مراكز الثقافة في البلاد العربية، وهي أغنى هذه البلاد بأجمعها، كما أنها أقدمها في تشكيلات الدولة العصرية وأقواها في الآداب، وأرقاها في الفصاحة … وكل ذلك مما يجعل مصر الزعيمة الطبيعية للقومية العربية “(33). وقال ياسين الحافظ : ” إن مصر هي بالأساس وحدها قاعدة العمل الوحدوي : أولاً – إن مصر هي مركز الثقل البشري في الوطن العربي – في مصر أكثر من ثلث الأمة العربية – وهي مركز الثقل الحضاري – مصر أول بلد عربي حقق تماساً مع الحضارة الحديثة – وهي نقطة المركز العربية جغرافياً – مصر هي صلة الوصل بين مشرق الوطن العربي ومغربه – . ثانياً – وفي مصر أيضاً الطبقة العاملة العربية الأكبر عدداً والأكثر تطوراً وراديكالية من أية طبقة عمالية عربية أخرى في الوطن العربي أي أن في مصر بروليتاريا بالمعنى الماركسي للكلمة. ثالثاً – وفي مصر وحدها يتوفر شعب عربي مندمج ومتكامل. رابعاً – وفي مصر أخيراً المشكلات الأكثر راديكالية والأكثر قابلية للإنفجار الثوري. وعلى هذا فإن مصر هي على الصعيد التاريخي عتلة النهضة العربية المرتقبة وموقدها الثوري ومناط أملها في التحرر من الإمبريالية والصهيونية ومعقد رجائها الإشتراكي “(34). وقال نديم البيطار : ” تمثل مصر في أهمية مركزها الاستراتيجي في موقعها الجغرافي في قلب الوطن العربي في وزنها البشري ثقلها العسكري الخ … القطر العربي المرشح حالياً أن يمارس دور الإقليم – القاعدة، فدون مصر تستحيل الوحدة العربية وخروجها منها يعني قتلها “(35). وقال ساطع الحصري : ” آن الأوان ليدرك الناطقون بالضاد أنهم أبناء أمة واحدة على الرغم من تعدد دولهم في الحالة الحاضرة، وأن يعملوا لتكوين دولة موحدة، ليصبحوا أقوياء من جميع الوجوه : الثقافية، والإقتصادية، والعسكرية، والسياسية “(36).

وفي ص 107 قال بلقزيز : ” إن الفكرة التي يرفضها الفكر القومي العربي قديماً وحديثا – وتقيم الدليل عليها تجارب التوحيد القومي كافة – هي إن ” الأمة لا تصنع دولتها القومية دائما وإنما الدولة من يصنع الأمة “. ليست الأمة الأميركية من صنع الدولة القومية والوحدة القومية الأميركية، وإنما الوحدة الأميركية ما صنع الأمة الأميركية ” ثم قال في هامش 12 من الصفحة نفسها : ” كان عزمي بشارة من أوائل المفكرين القوميين الجدد الذين تنبهوا – منذ سنوات – لهذه الحقيقة وسلط الضوء عليها في مقالات له نشرت في جريدة الحياة اللندنية ” .

في هذا يخترع بلقزيز حقيقة معاكسة بالاستناد إلى تاريخ تجارب التوحيد القومي الإنساني، التي لا وجود لها إلا في ذهنه فقط، ففهمه الخاطئ قاده إلى خطيئة فادحة في عرض المعلومات التاريخية حول تجارب التوحيد القومي، فالتراث القومي الإنساني يؤكد على وجود أنموذجين في عملية التطور القومي : الأنموذج الأول – الدولة تصنع الأمة : ففي هذا الأنموذج تكون الدولة المركزية المنظمة أساساً لقيام الأمة، وسبيلا لتقويتها، وخير مثل انكلترة وفرنسة(37). والأنموذج الثاني – الأمة تصنع الدولة : وهو الغالب وأفضل من يمثل هذا الأنموذج الحالتين الألمانية والإيطالية، فقيام الروح القومية وانتشارها كان باعثاً للأمتين على تحقيق وجودهما السياسي، أو كيانهما السياسي(38). ولهذا ليست الولايات المتحدة الأميركية أنموذجاً أصيلاً لقيام الدولة القومية، لأنها مجتمع استيطاني من أجناس متعددة، ومذاهب مختلفة، كانت تابعة لبريطانيا، ولم يكن أهلها يطالبون بالانفصال، ولكن تعسف بريطانيا ضدهم دفعهم إلى الانفصال، فحركتهم من نوع الثورة الداخلية، ولم تكن حركة استقلال قومي، كما أن أرض الولايات المتحدة الأميركية جاءت عن طريق الاستيلاء والشراء والانضمام، ومن جانب آخر فإن الفكر القومي العربي قد آمن بالأمة – الدولة للاعتبارين الآتيين: الاعتبار الأول – إن التاريخ العربي الإسلامي وهو أنموذجنا الأول قد قام على مبدأ الأمة هي من يصنع الدولة، وليس العكس، فعندما جاء الإسلام أنشأ النبي محمد – ص – من القبائل العربية المتفرقة والمتناثرة أمة، وصفها الله تعالى بقوله : ” كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله “. ثم كانت البداية الحقيقية لتأسيس الأمة – الدولة(39).

الاعتبار الثاني – إن وضع الأمة العربية يشبه تماماً وضعا ألمانية وإيطالية قبل توحيدهما في أواخر القرن التاسع عشر، إذ كانت هاتان الدولتان مجموعات من الدويلات والولايات الصغيرة، فكانت ألمانية وإيطالية أنموذجاً في الأمة – الدولة في العصر الحديث، أو أنموذجاً أصيلاً لقيام الدولة القومية، فضلاً عن ذلك إن فقهاء القانون الدستوري يقرون بالأمة – الدولة، فالفقه الفرنسي؛ يتجه في جملته إلى أن الدولة هي التشخيص القانوني للأمة، فعلى الرغم من أن الدولة هي التي صنعت الأمة في فرنسة، فتطابقت الأمة والدولة فيها، إلا أن الفقيه اندريه هوريو قال : ” الأمة سابقة للدولة حتى العقود الأخيرة كانت الأمة تعد كنتيجة تفاعل تاريخي ينمو ويتكامل قبل ولادة الدولة، وكانت هذه تبدو في المرحلة النهائية كمركز سياسي وقانوني للأمة. إنه لمن الثابت في أغلب البلدان الأوربية أن تكوين الأمة قد سبق تكوين الدولة، فالأمة الألمانية، والأمة الإيطالية، كانتا حقيقتين اجتماعيتين قبل أن تصبح كل منها دولة. فمن ناحية أسبقية الأمة على الدولة حيث تبدو المجموعة البشرية مزودة بشخصية متفردة ذاتية قبل أن تتحول إلى دولة تطرح مسألة معرفة ما إذا كانت الأمة تستطيع ويجب أن تشكل دولة. والقضية هنا تتعلق بمسألة لا تخطر ببال الفرنسي تلقائياً وذلك لتطابق الأمة والدولة في فرنسة، ولكن هذا الأمر لا يحدث في كل مكان، فهناك أمم كانت وما تزال تقسم إلى عدة دول، كما يوجد في الماضي وفي الحاضر أمم مختلفة مجموعة تحت سلطة دولة واحدة “(40). كما أن هناك فرق بين الأمة والدولة، فالأمة ظاهرة اجتماعية تتلخص في وجود جماعة من البشر تسود بينهم روح الترابط والاتحاد وتجمعهم الرغبة في العيش المشترك فوق إقليم معين، لتضافر عدد من العوامل التي حولتهم إلى قوم يتميزون عن غيرهم من الجماعات البشرية، أما الدولة فهي جماعة من الناس، يعيشون فوق إقليم جغرافي محدد بصورة دائمة، ويخضعون لسلطة سياسية معينة، فالفارق الجوهري بين الدولة والأمة، يتمثل في عنصر السلطة السياسية الذي لا يشترط توافره لوجود الأمة، في حين إنه أحد الأركان الثلاثة لقيام الدولة، فقد توجد الأمة قبل قيام الدولة بكامل أركانها، لأن الدولة لا توجد إلا بنشأة السلطة السياسية، فإذا وجدت تحولت الأمة إلى دولة، فلا يوجد تلازم حتمي إذن بين الدولة والأمة، وقد تنقسم الأمة الواحدة إلى عدة دول، كما هو واقع الأمة العربية اليوم، كما أن الدولة الواحدة قد تضم أمماً مثل دولة النمسا والمجر قبل الحرب العالمية الأولى. وهكذا تختلف فكرة الدولة عن فكرة الأمة، فإذا كانت الأمة ظاهرة اجتماعية، فإن الدولة ظاهرة قانونية، سياسية، لا بد أن تتوافر لها شروط معينة حتى توجد من بينها وجود السلطة السياسية، لكن لا يشترط أن ينتمي شعب الدولة إلى أمة واحدة، وإن كان في ذلك تحقيق للوحدة والترابط وتقوية لدعائم الدولة(41). وكان برهان غليون قد علق قائلاً : ” إن النظرية القومية الحديثة، تقوم في الحقيقة على مسلمة رئيسة كبرى هي حتمية تطابق الهوية الثقافية مع الهوية السياسية، وهو ما نشير إليه عندما نتحدث عن الدولة الأمة، أو عن الأمة وقد تحولت إلى دولة، وهي تخلط في الواقع بين الأمة بوصفها شعباً متميزاً لغة، وثقافة، وهذا أحد مستوياتها، وبين الأمة من حيث هي دولة، تضم هذا الشعب، والحال إن هذه الحتمية ليست فعلية، ولا تعبر إلا عن ظاهرة تاريخية فريدة، ومن الممكن وجود شعب أو أمة من دون أن تكون قد تحققت كدولة واحدة، وأن تكون هناك دول كثيرة ليست بالضرورة مطابقة في حدودها السياسية للهوية الثقافية الواحدة، وخطر هذه النظرية الأول هو أنها تلعب على الالتباس الذي تخلقه هي نفسها بين مفهوم الأمة ومفهوم الدولة – الأمة، بحيث تسمح لنفسها عندما يتفق ذلك مع مصالحها بإنكار وجود الأمم من خلال الإشارة إلى عدم قدرتها على تكوين دولة – أمة، وبإنكار وجود الدول لأنها لا تضم قومية ذات هوية ثقافية واحدة “(42). وقال أيضاً : ” إذا لم يكن هناك دولة – أمة عربية كما هو واضح، فإن هناك أمة – جماعة تؤكد نفسها في أغلب الأوقات إلى جانب الدولة، أو ضد الدولة، أي هناك قومية عربية، بمعنى قرابة روحية، وثقافية، وسياسية، وتاريخية، تدفع نحو التضامن والتماهي والانفعال المشترك، بأهداف وآمال وآلام واحدة … ليس هناك أي مبرر في نظري كي لا نعطي في تحليلنا التاريخي والسياسي قيمة، ولا نعترف من بين العلاقات القرابية التي تنميها المجتمعات عبر التاريخ، إلا بذلك النوع من التضامن المرتبط بتكوين الدولة – الأمة الحديثة كما عرفتها أوربة، معتبرين أن كل أشكال التضامن الأخرى تنتمي إلى عالم ما قبل السياسة، فهذا يعني تحويل الدولة – الأمة إلى مقياس كوني ورفض النظر إلى تاريخ الشعوب والجماعات كافة إلا من منظور نموذج التطور التاريخي للمجتمعات الأوربية الذي ظهر في منطقة معينة نتيجة خصوصيات محلية وقامت عليه علاقات قومية معينة وهو يقود إلى أن ينكر على هذه الشعوب شرعية الروابط النابعة من خصوصياتها وتاريخيتها وهي هنا العقيدة والثقافة إذ لا يعني مثل هذا التطبيق إلا إنكار وجود أية رابطة قومية أخرى في التاريخ إلا تلك التي ظهرت في القرون الأخيرة وتجسدت في الدولة القومية ونجمت عن السيرورة التاريخية الأوربية “(43).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى