مقالات

نراه قريبا

مجدي شلش

أستاذ أصول الفقه المساعد بجامعة الأزهر الشريف
عرض مقالات الكاتب

كثيرة هي التحديات والأزمات التي تجعل الخروج منها وتخطيها عند البعض أمرا مستحيلا، العاجز دائما ينظر تحت قدمه، عاجز العقل والفكر، عاجز القلب والروح، عاجز الرؤية والنظر، عاجز كمال الإيمان والإسلام، عاجز الحركة والسعي، يرى الأشياء على غير خصائصها وحقائقها.

ثقافة عاشها كثير من الناس، الحياة عنده مجرد لحظة، إن مرت بخير سعد وفرح، وإن مرت بسوء حزن وأسف، إنسان تصنع الظروف عقله وفكره وسعيه، ليست له إرادة حتى يكون صانعا لا مصنوعا، محركا لا متحركا، مخدوما لا خادما.

فارق كبير بين من ينتظر الحل وكأنه غير مكلف بشيء، ومن يقدم الحل ثم يعيشه واقعا، حتى لو أخطأ في بعض تفاصيله ومسائله، إلا أنه تام الشعور والإحساس، ناضج العقل والفكر، إنسان لا مجرد أداة أو حيوان.

القرآن الكريم يجعل من الإنسان عملاقا في الفكر، قدوة في الخلق والسلوك، جسورا في تحدي الصعاب والمحن، إنسان بمعنى الكلمة، عقل وقلب وحركة نحو ما ينفعه في دنياه وأخراه، عرفه قيمة الوقت والحياة، وقيمة السعي من أجل البناء، القرآن أعظم كتاب بناء لإنسان حر فاهم واع.

خرج القرآن بمقاصده الكبرى من حياة الأمة، فصارت جثة هامدة، القرآن ليس مجرد تلاوة أو تمتمة، إنما صناعة الأبطال، وتحدي الصعاب، أبغض اليأس وجعله قرين الكفر والضلال، حث على النظر في النفس والآفاق من أجل بناء أمة قوية قاهرة للتحديات والأزمات، وعامرة للأرض بالحب والعطاء لا بالعنف والبطش والطغيان، غاب الوحي فغابت الأمة.

الأرض لله والأمر لله والخلق لله والكون لله، فلم الخوف والفزع والحزن والجزع، كل شيء هالك إلا وجهه، كتب في الزبور والتوارة والإنجيل والقرآن أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، “إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد”.

القلق من عدم النصر منا لا منه، من بعدنا وتخلفنا وتشرذمنا، إنه فوق رؤوسنا بل أقرب، إنه أمام أعيننا بل في النن، إنه شمس نهارنا الساطعة لكن ليل نفوسنا أبعده، ما أحقر الإنسان الذي يتهم ربه بتأخير نصره له، ما عنده شيء يتأخر عن سببه بقوته وقدرته وسبق علمه، النصر له عده، من أعدها غلب، ومن تركها هلك وغلب، المتأخر يتهم المقدم، العاجز يريد النصر فوق أنفه بلا تعب أو كد أو جهد، فإذا لم يتحقق له نصر هام على وجهه وقلبه، واتهم سيده وخالقه ورازقه.

النصر والتأييد والغلبة لمن صاغهم وصنعهم القرآن عبادا لله وحده، لا شريك له، أولى بأس شديد فتفتح لهم أبواب السماء وديار الأرض وكنوز الكون، يا لها من أمة بعيدة تريد أن يكون النصر لها قرينا وقريبا وهي عن أسبابه زهيدة وحقيرة.

المؤمن يراه قريبا، إيمانه بالله نصر، وخلقه القوي نصر، وصبره وثباته نصر، وأخوته وحبه وحنانه لأصحاب الدرب نصر، وجهاده وكفاحه في كل الميادين نصر، بيعته لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم نصر، فهمه لحقيقة الصراع وحسن التعامل مع المرحلة نصر، نقاء قلبه وعفة لسانه نصر، مقارعة الباطل الزهوق بالحجة البالغة نصر، النصر أن تعيش كما أمر، وأن تموت كما أحب.

صناعة النصر المعنوي وظيفة العلماء والدعاة، الأمة المهزومة تنهض بأهل العلم والمعرفة، الأمة الغائبة عن المشهد الحضاري تحضر وتبني بأهل الذكر والفكر، الأمة الميتة تحيا من روح أهل الفقه والعلم، ولذا وجب على أهل العلم والذكر الآتي:

أولا: حسن البيان عن الله سبحانه وتعالى في ما أمر أو نهى في كيفية صناعة الأمم، وبث روح الإيمان واليقين في أبناء الأمة في أن النصر من عند الله، وأن أول مراتب النصر أن ننصر الله في أنفسنا وبيوتنا ومجتمعنا وإدارتنا لشؤون حياتنا.

ثانيا: غرس عقيدة الأخذ بالأسباب والتعاطي مع سنن الكون، وهي كثيرة، يغلب بعضها بعضا، التغافل عن هذا الغرس تحت أي حجة أو ظرف ضياع للأمة وهدر للوقت.

ثالثا: معايشة أبناء الأمة معاني النصر المتعددة، فالعالم أو الفقيه الذي لزم هيئة معينة أو زيا معينا أو شكلا محددا خارج عن الزمن، يعيش في زمن آخر غير زمننا، وعصر آخر غير عصرنا، التشبه بعصر معين في زيه أو جلسة مجلس العلم دون معايشة أبناء الأمة غربة وكربة وبعد، العالم هو من عاش عصره بفقه واحتياجه، لا بزيه وشكله، من أجمل أوصاف الأئمة الأعلام أنهم كانوا رجال عامة، يعلمون ويتعلمون، يأخذون ويعطون، تأسوا بحبيبهم المصطفى صلى الله عليه وسلم.

ليس بعالم من كلم الناس من علو، وارتفع عنهم بزي، أو احتجب عنهم بكبر، تلك سفلة أهل العلم الذين غابوا عن حياة الناس القريبة والبعيدة، الصغيرة والكبيرة، حياة الصحابة الكرام وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء أحسن تأثيرا من بعض رعاع نسبوا إلى العلم زورا وبهتانا، جل همهم حصر العلم في قضايا معينة، أو مواقف معينة، ويتركون الأمة غرقى في بحر من الظلم والفساد والاستبداد.

هذا السلطان المعنوي يكتمل بأن يكون أهل العلم بفروعه الكثيرة هم أصحاب السلطان المادي، القائد الجاهل عربيد في نفسه، قواد مع أهله، سكير مع عدوه، ديوث مع دينه ووطنه، أما القائد العالم المتمكن في فن الإدارة والسياسة والمتقن لسنن الله في النصر والتمكين، الآخذ بالأسباب كأن لا مسبب، والمتوكل على المسبب كأن لا سبب هو الذي تنهض به الأمم، وتحيا به الدول، وتفرش له سجاجيد النصر والظفر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى