مقالات

حافظ أسد: السلطة مقابل الوطن

معاذ السرّاج

باحث في تاريخ سورية المعاصر وشؤون الحركات الإسلامية
عرض مقالات الكاتب

مصطفى خليل بريز: “أخطر مواقف الخيانة ارتكبها البعثيون, عندما انهزموا بدباباتهم من وجه القوات الغازية، باتجاه دمشق, بغية حماية الثورة كما أعلن أحد قادتهم المقدم رئيف العلواني” من كتاب “سقوط الجولان”.

وبعد أن أسقط في أيديهم, وانكشف تخاذلهم على رؤوس الأشهاد, لم يتبق للحكام الجدد ومندوبيهم إلا أن يفلسفوا هزيمتهم النكراء, ويعودوا إلى شعراتهم الزائفة التي طالما روجوها وملأوا بها أسماع مواطنيهم البسطاء..

نور الدين الأتاسي الذي عينه الحكام الجدد, رئيسًا للجمهورية كما عينوا من قبل أمين الحافظ ولؤي الأتاسي، ليكونوا واجهات يغطون بها خياناتهم وتخريبهم، لم يجد ما يقوله سوى أنهم: “يواجهون اليوم أكثر من مؤامرة دنيئة خسيسة في العالم الحديث، وإن خطة العدو تستهدف إلغاء مكاسب شعبنا مرة واحدة ، وإعادة وطننا إلى منطقة النفوذ الاستعماري على غرار ما كان في القرن التاسع عشر!!..

هل كان يعي ما يقول؟!.. وعن أي مكاسب كان يتكلم؟!

ابراهيم ماخوس وزير الخارجية أمام عدد من المسئولين العرب, وردا على قول أحدهم: إنها لفاجعة كبيرة، ونحمد الله أن إحدى العواصم لم تسقط.. فيجيب ماخوس: “وهل في ذلك غرابة لو حصل؟ نحن من جهتنا كنا عاملين حسابنا على أن دمشق ستسقط”.. بل إن قائلهم قال في تلك الأيام بأنهم كانوا على استعداد لنقل العاصمة إلى القامشلي, المهم أن تبقى الثورة..

ابراهيم ماخوس, وكما نقل عنه سامي الجندي في كتابه “كسرة خبز”, قال: “ليس مهماً أن يحتل العدو دمشق أو حتى حمص وحلب، فهذه أرض يمكن تعويضها وإعادتها، إنما إذا قضي على حزب البعث فكيف يمكن تعويضه؟ وهو أمل الأمة العربية!!

فهل كان يقصد بعث جلال السيد وميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار, أم “بعث الطائفة” لتصعد على أكتافها شرذمة اللصوص والفاسدين والمتسلقين ؟؟!!

ابراهيم ماخوس, وزير خارجية الهزيمة, لا يمل, ولا يجد أي حرج في تكرار مقولاته وترهاته تلك: “إن المعركة لا تقاس بعد الكيلو مترات التي خسرناها، بل بأهدافها، فقد كان هدف إسرائيل إسقاط الحكم التقدمي، وهذا ما فشلت به..”

“..كل من يطالب بتبديل حزب البعث عميل لإسرائيل”.

هل حوكم حافظ أسد على ما اقترفت يداه من جرائم أودت بحياة الجيش وبمستقبل الوطن كله إلى أجل لا يعلم إلا الله مداه؟

إن الذي وقّع القرار رقم 66 بسقوط القنيطرة قبل أن يراها جيش العدو، والذي أمر بالانسحاب الكيفي، وسلم الجبهة الحصينة بلا قتال، لم يُعاقب ولم يُساءل، بل رُفّع إلى رتبة فريق, كما رُفّع من قبل بعيد انقلاب 8 آذار, من نقيب إلى مقدم فعميد فلواء في فترة قياسية قصيرة لا تتجاوز أربع سنوات، وكوفئ على عمله هذا بأن فُتح الطريق أمامه ليكون رئيسًا للجمهورية إلى الأبد, وصاحب سلطة مطلقة, وصلاحيات لا مثيل لها, بل وتوريثه من بعد لأبنائه وحاشيته, وبدعم واضح وصريح وموثق من إسرائيل، ومن اللوبي الصهيوني في العالم، ومن أمريكا وأوربا, وبلا حدود, مهما فعل ومهما اقترفت أيديهم من جرائم وموبقات, على مسمع ومرأى من العالم أجمع.

لم يكن غريبا أن نرى حافظ أسد, وخلال أقل من ثلاث سنوات, وقد رئيسًا لسورية إلى الأبد, وصاحب سلطة مطلقة, منحها له دستور 1973 الذي كتبه الدكتور محمد الفاضل, (عميد كلية الحقوق ورئيس الجامعة السورية الذي ينتمي للطائفة العلوية) لتجعل منه أحد أعتى الطغاة والسفاحين على مرّ العصور, أباح له سورية بطولها وعرضها, ليُبقيها في حكم عرفي دائم, يقتل ويسجن ويعذب دون حسيب ولا رقيب، ويرهن الوطن كله لأعداء سورية نظير دعمه وبقائه في السلطة.

كانت السلطة والاستمرار بالحكم، هي الهمّ الأول والأخير للحكام الجدد, لم يكن يعني لهم شيئا, لا وطن, ولا دولة, ولا شعب, بل استهانوا بها كلها, وباعوها بثمن بخس, في أول مزايدة عرضت عليهم, وقاموا بسحق كل من نازعهم السلطة أو عارض سياستهم، ولهذا فقد استهانوا ورضوا بالهزيمة المخزية, بلا أدنى خجل وحياء, كما رأينا على ألسنة سادتهم وكبرائهم.

سامي الجندي:

“عندما نتتبع فصول معركة الجولان نجد أن العسكريين الذين قاوموا اليهود، فعلوا ذلك من دون أوامر، أما الذين صدرت إليهم الأوامر بالانسحاب فقد انسحبوا بناء على خطة, (وفات الجندي أن يذكر أن الذين قاتلوا ولم ينسحبوا عاقبهم حافظ أسد بالسجن والتسريح وخفض رتبهم العسكرية).

عندما سأل الجنرال ديغول: كم كان ضحايا الحرب لدى السوريين؟ فقيل له: مائة وخمسة وعشرون عسكريا، قال : هذه ليست حربا، هذه خيانة..

–      من فصول الخيانة:

شهادات كثيرة تضافرت على أن سقوط الجولان كان خيانة واضحة لاشك فيها, وأن صفقة ما عقدها الحكام الجدد مع الصهاينة, ستتضح تفاصيلها تباعا..

سعد جمعة رئيس الوزراء الأردني السابق, قال في كتابه “المؤامرة ومعركة المصير”: “لقد حاول القائد العربي العام الفريق عبد المنعم رياض منذ الصباح الباكر، وسلاح الجو الإسرائيلي برمته متجه نحو الأراضي المصرية, حاول اغتنام الفرصة لتقوم سورية و الأردن و العراق مجتمعة بضرب مطارات العدول قبل عودته طائراته لمنعها من الهبوط، وهي لو فعلت لتغير وجه المعركة كله, ولكن القيادات السورية تمحلت بمختلف المعاذير للتلكؤ والمماطلة بحجة أن طائراتها غير جاهزة”.

الدكتور محمد الزعبي, الذي كان وزيرا للإعلام, وتولى إذاعة بيان سقوط القنيطرة, قال لاحقا, إن تشكك بالأمر لكنه أذاع البيان بعد مكالمة من الدكتور يوسف زعين, بناء على تأكيدات من حافظ أسد وزير الدفاع, غير أنه تيقن لاحقا أن شكوكه كانت في محلها, وأن في المسألة خيانة واضحة, وراءها حافظ أسد.. وقد ورد هذا في شهادة كتبها الزعبي, بناء على طلب شخصي من عدنان سعد الدين الذي أورد تفاصيلها في مذكراته.

الدكتور عبد الرحمن الأكتع, الذي كان وزيرا للصحة أثناءها: “كنت في جولة تفقدية في الجبهة، وفي مدينة القنيطرة بالذات، وعندما أذيع بيان سقوط القنيطرة، ظننت أن خطأ قد حدث, فاتصلت بوزير الدفاع حافظ أسد، وأخبرته أن القنيطرة لم تسقط، ولم يقترب منها جندي واحد من العدو، وأنا الآن أتحدث من القنيطرة، وكم كانت دهشتي عظيمة حين راح حافظ أسد يشتمني شتائم مقذعة، ويهددني إن تحدثت بمثلها وتدخلت فيما لا يعنيني..”

شهادة  أخرى يوردها عدنان سعد الدين في مذكراته, وهذه المرة لدريد المفتي الوزير المفوض السوري في مدريد, والذي قال إنه جاء إلى سعد جمعة في مكتبه في لندن، وعرّفه على نفسه قائلا: قرأت كتابك “المؤامرة ومعركة المصير” عن جريمة تسليم الجولان المنيعة دون قتال, والتي اقترفها جديد والأسد وماخوس، وأحب أن أزيدك بيانا: كنت يوما وزيرا مفوضا لسورية في مدريد، فاستدعاني وزير خارجية إسبانيا لمقابلته صباح 28-7-1967، وأعلمني، ووجهه يطفح سرورا، أن مساعيه الطيبة أثمرت لدى أصدقائه الأمريكان، بناء على تكليف السيد إبراهيم ماخوس وزير الخارجية البعثي العلوي, ثم سلمني مذكرة تتضمن ما يلي: تهدي وزارة الخارجية الإسبانية تحياتها إلى السفارة السورية عبر وسيطها، وتعلمها أنها نقلت رغبة الخارجية السورية إلى الجهات الأمريكية المختصة بأنا ترغب بالمحافظة على الحالة الناجمة عن حرب حزيران 1967، أي بقاء الجولان تحت الاحتلال الإسرائيلي، وأنه ينقل رأي الأمريكان بأن ذلك ممكن إذ حافظت سورية على هدوء المنطقة، وسمحت لسكان الجولان بالهجرة من موطنهم، والاستيطان في بقية أجزاء الوطن السوري، وتعهدت بعدم القيام بنشاطات تخريبية من جهتها تعكر الوضع الراهن”.

مخابرات حافظ أسد لاحقت دريد المفتي على إثر ذلك, لأنه أذاع هذا السر، ولم يرض الخيانة لوطنه, وتبعته إلى لبنان ، حيث قامت باغتياله..

دريد هذا ضابط بعثي سني من مدينة أريحا السورية في محافظة إدلب.

والأخطر في فصول الخيانة, وكلها خطير, ما يرويه سامي الجندي في كتابه “كسرة خبز”, عن زميله ورفيقه في الحزب, ابراهيم ماخوس, الذي كان وزيرا للخارجية آنذاك, وهو يطالبه (يطالب الجندي) بالاتصال بإسرائيل..

يقول سامي الجندي: رأيتني بعين خيالي معلقا في ساحة المرجة، وتساءلت بيني وبين نفسي: هل يعود الجولان على جثتي؟ وهل قضيته بهذه البساطة؟..”

قلت لإبراهيم: وما هو الثمن الذي ندفعه لاستعادة الجولان؟

قال : الاعتراف بإسرائيل, (وهذا هو بيت القصيد من هذه المؤامرة).

ثم يتساءل الجندي عما إذا كان اختيار ماخوس له لمفاوضة أبا إيبان وزير خارجية إسرائيل في باريس توريطا له؟

“لماذا اختارني إبراهيم ماخوس وزير الخارجية السوري الذي لم يعدم الوسيلة أو الأشخاص للاتصال بإسرائيل.. أليس عجيبا أن يختارني أنا للاتصال بالصهاينة, الأمر على غاية البساطة.. من أجل أن أسكت، وقد أكون من القليلين الذين يعرفون أشياء كثيرة، والوحيد الشاهد عليها.

إبراهيم ماخوس، يقول عنه رفاقه أنفسهم, إنه التحق بالبعث وهو يرتدي جلبابا ثوريا في ظاهره، لكنه ينطوي في باطنه على تعصب طائفي ذميم, باعتباره وريثا للقيادة الدينية الطائفية التي تلقاها عن أبيه, واستمر في تعصبه الطائفي حتى بعد اختلافه مع الأسد وانحيازه إلى صلاح جديد ومغادرته سورية إلى أوربا و الجزائر.

في أحد مؤتمرات المعارضة السورية في الثمانينات, اجتمع عدد من الناصريين والبعثيين والاشتراكيين والإخوان المسلمين في لقاء سري بباريس, “ليفاجأ الجميع بذهول أن إبراهيم ماخوس يضع فيتو على أي تفكير بتغيير تركيبة الجيش الطائفية، بل ينبغي حسب كلام ماخوس أن يبقى حال الجيش على ما هو عليه، ولا يجوز الاقتراب من هذا الموضوع أو التفكير فيه”.. عن مذكرات عدنان سعد الدين

ولعل الفقرة التالية, التي ننقلها عن سامي الجندي, تلخص ما حدث وما سيحدث, وتسلط ضوءا ساطعا على الدور الذي اضطلع به الحكام الجدد, وقادة البعث الطائفي, ليس في مسألة الجولان وحسب وإنما على المدى الأوسع ولعقود قادمة..

“لم أُخفِ أن النظام في سورية يُعدُّ لهزيمة، وليس لاسترداد فلسطين، نعم ، لم تكن هناك أي بادرة للنصر، ولا أعني أن النظام يعد لهزيمة نفسه، وإنما لهزيمة العرب الآخرين”…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى