ثقافة وأدب

عبد السلام العجيلي.. شيخ الأطباء والأدباء في سوريا

أ.د. حلمي محمد القاعود

مفكر إسلامي
عرض مقالات الكاتب

افتقدته في ذكرى يوم مولدي «الخامس من إبريل»، كانت رسائله الأخيرة تشي بقرب رحيله: إغلاق العيادة- إجراء أكثر من عملية جراحية- فترات نقاهة طويلة – تقليل عدد الرسائل والمقالات- خطه الذي يكتب به صار أقل عناية من ذي قبل- ثم اعتزاله المجتمع تقريبا، لدرجة أن الدولة السورية حين قررت أخيرا الاحتفال به، أجرت مراسم الاحتفال (ندوات- شهادات) في دمشق، ثم انتقل الضيوف إلى الرقة

«مسقط رأسه ومقر إقامته» للتعبير عن مشاعرهم
وعواطفهم، فاستقبلهم وهو يعاني آلام ما قبل الرحيل.

كتب لي في رسائله الأخيرة إنه يفضل الجلوس أمام الحاسوب «النت» ليتجول في أرجاء المعرفة والأخبار والأحداث والشخصيات، وأنه يجد متعة في ذلك.. وكان قد أخبرني بأن ناشره الذي يتردد ما بين بيروت ولندن ينوي طبع مؤلفاته فيما سمي الأعمال الكاملة، وأنه بصدد نشر ديوان ثان له، بعد دیوانه الأول الذي نشر عام 1948م.

لم يكن رحيل عبد السلام العجيلي مفاجأة لى، فقد كنت أتوقع الأمر، بعد أن كف عن الكتابة إلىّ وإلى للنا صديقنا المشترك وديع فلسطين الأديب المعروف، وصديقنا المشترك الآخر، الأديب سعد العتيبي، وكنت قد هاتفته في الرقة فوجدت رسالة مسجلة بصوته تخبرني بأنه ليس موجودا بالمنزل، لكن سعد العتيبي استطاع أن يتصل بإحدى قريباته فأخبرته أنه متعب ويقضي معظم وقته بالسرير، لصعوبة الحركة ووهن الجسد.

لقد ظل العجيلي لمدة تسعين عاما على الأقل صحيحا معافی بحمد الله، ولم يتمكن منه المرض إلا في السنوات الأخيرة، فقد كان منضبطا في مأكله ومشربه. في الصباح يتناول القهوة باللبن، ويتناول وجبة واحدة في النهار، وبعد ذلك لا يتناول طعاما، ويمشي على قدميه، ويتجول في أرجاء الرقة بصورة شبه منتظمة، ولعل حياته في «البادية» أكسبته صلابة وقدرة على المقاومة البدنية، وإذا عرفنا أنه طبيب محترف أدركنا سر احتفاظه بحيويته هذا العمر المديد.

أخبرني بأن أسرته لم تقيده في سجل المواليد إلا بعد خمس سنوات تقريبا عام 1918م، لكنه على يقين أنه ولد قبل ذلك بخمس سنوات أو أربع سنوات، أي أنه من مواليد 1914م تقريبا، وهذا هو سر اختلاف الصحف وأجهزة الإعلام في تحديد عمره، بعضها وهو الغالبية، أكد أنه رحل عن ۸۸ عاما، والبعض الآخر قال: إنه رحل عن 93 عاما، والطرفان على حق، الأول اعتمد على الوثائق الرسمية، والآخر أخذ بالمعلومات الشفهية.

بعد أربعين عاما، أحسست بفقد رکن رکین من حياتي وواقعي، فقد تأثرت بالرجل إلى حد كبير، لدرجة انني بقيت في قريتي التي ولدت بها لم أغادرها مع كل المغريات والأضواء التي تجذب أمثالي إلى التوجه نحو العاصمة القاهرة، والإقامة بها، وذلك لأن العجيلي الذي يسمونه نجیب محفوظ سوريا ظل في بلدته النائية على شاطئ الفرات، مع أنه طبيب ناجح، وأديب كبير، وعضو بمجلس النواب، ووزير تولي ثلاث وزارات الصحة والإعلام والخارجية، كانت الرقة هي وطنه المفضل والدائم والثابت، وكان يرى أن لأهلها حقا عليه، وهو أول طبيب من أبنائها يدرس الطب ويعود إليها ويفتتح عيادته التي ظلت منذ تخرجه حتى رحيله مقصدا للناس في الرقة والبوادي التي حولها، وظل هو يذهب إلى الناس حين يستدعونه لزيارة مريض أو مصاب في أي مكان داخل دائرتها، وقد سجل كثيرا من تجاربه مع المرضى وأحوالهم في أكثر من کتاب، من بينها «عيادة في الريف»، و«حكایات طبية»، و«على هامش الطب»، وشجعه على تسجيل هذه التجارب إلحاح المجلات الطبية في لبنان ومصر وسوريا على استكتابه، وتناول مشاهداته في عالم المرضى والطب.

كانت بساطته الإنسانية دافعا لی کی احتذيه في كثير من الأمور، ورجل مثله تولي الوزارة وعرف النيابة كان يمكنه أن يتخذ لنفسه مسلكا آخر مثلما يفعل كثير من أولئك الذين يظنون أن المناصب تفصل بينهم وبين عامة الناس، لكن العجيلي ما نسي إنسانيته وتواضعه حين يتعامل مع البسطاء والفقراء والمرضى وقد سجل كثيرا من الطرائف التي حدثت من هؤلاء وكثير منها سره، وأطلق ضحكاته ومنها ما أثار أساه وألمه من أجلهم.

عرَّفني به الأديب «فاضل السباعي» وكنت قد تجاوزت العشرين من عمرى بقليل. سألته عنه فتحدث عنه بحفاوة وحب، وكتب لي عنوانه البسيط أيضا «الرقة- سوريا»، وظننت أن رسالتي لن تصل إليه، لكن فوجئت بالرجل يرد على، ويرسل إليّ مؤلفاته وتبدأ علاقة على الورق تستمر ثلاثين عاما تقريبا، حتى نلتقي لأول مرة في أواسط التسعينيات بمدينة الرياض، في أحد مؤتمرات الجنادرية. كان لقاء حميما ضم الأديب الدكتور عبدالعزيز الخويط وزير المعارف الأسبق، الذي عرفت أنه من ابناء دار العلوم، أي أنه تجمعنا «الدرعمة» – كما يقول خريجوها- واستمر اللقاء فترة طويلة شرَّقنا وغرَّبنا في أحوال العرب والأدب واللغة وأسفت لأني لم أسجل هذا اللقاء الممتع المفيد.

لم تكن رسائلنا شخصية بقدر ما كانت عامة يطغى فيها الهم العام على الهم الخاص، وتبادلنا مئات الرسائل وللأسف فقد أتى بعض أبنائی – حين كانوا أطفالا – على كثير منها مع أوراق أخرى غالية ومهمة، ولكن الذي بقي منها يحرضني على نشرها في كتاب يستفيد منه الناس والقراء، ولعل صدیقی سعد العتيبي بحكم حرصه على أوراقه هو الذي نجح في الاحتفاظ بما أرسله إليه العجيلي، مثلما يحتفظ برسائل الآخرين في ملفات انيقة ومرتبة، وقد أطلعني عليها فأثارت إعجابي بها وأسفي على أوراقی المتراكمة التي نال منها أبنائي.

العجيلي العظيم نموذج للكاتب الذي يكتب ما يمليه عليه ضميره لا ما يرضي الآخرين رغبا أو رهبا، لذا لم يستقر به الحال كاتبا في مكان محدد، وكثيرا ما نشر أعماله خارج بلاده، بل خارج العالم العربي حيث ضاق هذا العالم ببعض آرائه وأفكاره التي كانت تصب غالبا في البحث عن هوية الأمة والحرص على استقلالها وحريتها وسيادتها، ولم يكن كلامه أو فكره حبرا على ورق، بل طبقه عملیا حين انضمإلى جيش الانقاذ في فلسطين وحمل السلاح دفاعا عنها في مواجهة العصابات الصهيونية عام 1948 وعاش محنة القتال والخيانة والانقسام والهزيمة وسجل كثيرا من هذه الأحداث في كتابه الذي سماه «ذكريات أيام السياسة» في جزين، وظهر الجزء الثاني منه قبل الجزء الأول وقد عرضت له عرضا مُطولا في حينه في مجلة وجهات نظر، ونقلته بعض صحف الخليج.

وإذا كانت كتبه التي تحمل مقالاته أو محاضراته أو محاوراته قد عبرت عن مواقفه الفكرية بطريقة مباشرة كما نرى في: فلسطينيات، وجوه الراحلين، جيل الدربكة، في كل واد عصا، ادفع بالتي هي أحسن، أحاديث العشيات، السيف والتابوت، وسبعون دقيقة حكايات.. وغيرها فإنه وظف فنه الشعري والقصصي والروائی لخدمة هذه المواقف.

لقد عبَّر عن هموم الأمة من خلال أشعارة، وكانت قصصه ورواياته مواكبة للقضايا الكبرى والأحداث الخطيرة التي مرت بها سوريا والبلاد العربية.

نجد معالجات لمسألة الهوية في «رصيف العذراء السوداء» و «قناديل إشبيلية»، و«الخيل والنساء»، وتناولا للهزيمة التي جرت في عام 1967 مع هموم أخرى عامة في: «فارس مدينة القنيطرة»، و«حكاية مجانين» و «موت الحبيبة» و«مجهولة على الطريق» ثم عالج حرب رمضان في «أزاهير تشرين المدماة» ومحنة القرى البدوية التي تضررت بسبب إقامة سد الفرات في «المغمورون» وظواهر اجتماعية أخرى في «باسمة بين الدموع» و«أرض السياد» و«قلوب على الأسلاك» و«ألوان الحب الثلاثة» وغيرها من الروايات والكتب والمقالات، تجاوزت كتبه أربعين كتابا عدا المقالات التي لم تجمع.

لقد كتبتُ عن معظم أعماله وتمنيت ذات يوم أن يصدر لي كتاب عنه وقد أعددت هذا الكتاب بالفعل وقدمته إلى إحدى دور النشر الرسمية في السبعينيات من القرن الماضي وللأسف لم تنشره دار النشر ولم تعده إلى وادعت أنه فُقد ولم يعثروا عليه، وبعد أن يئست من ترددي على هذه الدار فوضت الأمر لله واكتفيت بما أنشره عن بعض أعماله بين الحين والآخر.

وصف نزار قبانی عبدالسلام الجيلى بأنه أروع حضري عرفته البادية، وأروع بدوي عرفته الحاضرة، وهذا قول صحيح تماما فعبدالسلام العجيلي كان ابن البادية المنتمي لم يهرب منها ولم يتنكر لها، وفي الوقت نفسه كان حضريا جمع بین ثقافة التراث وثقافة المعاصرة، وكان قارئا نهما لا يكف عن القراءة بالعربية والفرنسية والإنجليزية وقد أمدته رحلاته غربا وشرقا في شتى أرجاء العالم بالمزيد من الوعي وبحركة التاريخ والإنسانية فضلا عن تجارب عميقة ومهمة
أشار إلى كثير منها في مقالاته وقصصه ورواياته وكتبه.

ومن المؤكد أن نموذجا راقيا مثل العجيلي يحتاج إلى جهد كبير لتقديمه إلى الأجيال الجديدة، التي لاتعرفه، بوصفه نموذجا للتواضع وهو في قمة المجد والروعة. لقد كان يقول إنني طبيب محترف وأديب هاو، وهو ما ينبغي أن نعيه جيدا، فقد رفض أن يوصف باسم الأديب الكبير أو الكاتب الكبير، وكان يقول قولوا عبد السلام العجيلي فقط. ما أروعه من متواضع عظیم. رحمه الله.

⁩⁩ نُشر هذا المقال بجريدة الأهرام المصرية في 25 إبريل 2006م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى