مقالات

العَيارون والشُطّار

محمود الجاف

كاتب وصحفي عراقي
عرض مقالات الكاتب

 حال أمتنا اليوم أعادني إلى القرن التاسع الميلادي عند بُروز ظاهرة ما سُمي بجماعة ( العيارين أو الشطار) وهُم مجموعة من الرعاع الذين أطلق عليهم الطبري لقب الأوباش والطرارين . ظهروا في بغداد في عهد الخليفة العباسي المهدي (158 – 169 هـ ) ثم برزوا على شكل مجموعات مُتناثرة من النهّابين والزعران في عهد هارون الرشيد . ترعرعوا في أحضان تيار فكري مُتطرف ينزع للعنف والاقتتال وكانوا مُجرد مُحترفين في السلب ثم تكونت لديهم أفكار استخدموها لتسويغ أفعالهم من قبيل السطو على أموال الأغنياء لانتزاع حق الزكاة منهُم للفقراء . ثم ما برحوا أن تحولوا إلى تيار جاذب لأمثالهم من الطبقات المُهمشة في المُجتمع . أصبح شأنهُم عالياً حين حاصرت قوات المأمون بقيادة أبي الطيب الخراساني بغداد سنة 812 م ودكها بالمنجنيق، فاستعان بهم الأمين وأخرجهُم من السجون وجرى تَجنيدهُم وتسليحهُم وزجَّهُم في الحرب المُدمرة مع جيش أخيه . أباح لهُم حاتم بن الصقر النهب . فتكونت منهُم مجموعات مُسلحة (ميليشيا) شديدة القوة . وبعد هزيمة الأمين وتعليقه على المشنقة سنة 813 م. انكفؤوا قليلاً ثم عادوا ونشطوا في فترة الصراع السياسي بينَ أقطاب السلطة حين استعان بهم المُستعين بالله أيضا بعد أن حُوصر في بغداد خلال حربه مع المُعتز . كانوا لُعبة سياسية بامتياز . وقدموا مثالاً عبر الزمان لكيفية تجنيد الهامشيين والخارجين عن القانون في معارك طاحنة . وكان هناك من يستغلهم في أحيان كثيرة في إثارة الخوف والهلع والقلاقل والانقسامات بين الناس .

والشُطَّار: هم طائفة من أهل الدعارة. يمتازون بملابسهم الخاصة ولا يعدون اللصوصية جريمة وإنما صناعة حلال . وإذا كبر أحدهُم وتاب . تستخدمهُ الحُكومة في مُساعدتها على كشف السرقات . وكان في خدمة الدولة العباسية جماعة من هؤلاء الشيوخ يُقال لهُم التوابون على أنهُم كثيراً ما كانوا يُقاسمون اللصوص ما يسرقونهُ ويكتمون أمرهُم .

أما العَيَّارون : فقد ظهروا في بغداد وكانوا يقاتلون عراة في أوساطهم مآزر وقد اتخذوا لرؤوسهم دواخل سمّوها الخوذ ودرقاً من الخوص والبواري التي قُرنت وُحشيت بالحصى والرمل . ونظّموهُم على كل عشرة عري، وعلى كل عشرة عُرفاء نقيب . وعلى كل عشرة نُقباء قائد، وعلى كل عشرة قُواد أمير، ولكل ذي مرتبة على مقدار ما تحت يده، ومعهم أناس قد جعل في أعناقهم الجلاجل والصدف الأحمر والأصفر ومقاود ولجماً من مكانس ومذاب . وبلغ عددهُم نحو خمسين ألفًا، ساروا إلى الحرب يضربون الأعداء بالمقلاع والحَصى فأبلوا بلاءً حسناً لكنهُم لم يثبتوا أمام المجانيق والجنود المُنظّمة فعادت العائدة عليهم وقُتل منهُم خلقٌ كثير .

استخدمهُم المُستعين بالله في 251هـ وفرض لهُم الأموال وجعل عليهم عريفاً اسمه ببنونه وعمل لهُم تراساً من البواري المقيّرة وأعطاهم المخالي ليجعلوا فيها الأحجار . كانوا كلما حدثت فتنة أهلية اغتنموا اشتغال الدولة بها وهمّوا بالمنازل والحوانيت وأخذوا الأموال؛ لأنها كثيراً ما كانت تحدث في بغداد في القرن الثالث للهجرة وما بعده، وتكثر تعدياتهم كلما ازدادت المشاكل بين الحكام في التنازع على السُلطة، أو الأموال، أو بين العامة تعصّباً لبعض المذاهب ولاسيما بين السُنة والشيعَة . فلم ينقضِ النصف الأول من القرن الخامس للهجرة حتى تسلّطوا على بغداد وجَبوا الأسواق وأخذوا ما كان يأخذهُ رجال الدولة، وانتظموا انتظام الشُرطة أو الجُند واشتهر من رؤسائهم في ذلك العصر رجلٌ اسمهُ الطقطقي وآخر اسمهُ الزيبق.

يحرقها وذاك يهدمها ويشتفي بالنهاب شاطرها

 والكرخ أسواقها معطلة يستن عيارها وعائرها

 أخرجت الحرب في سواقطها آساد غيل غلبا تساورها

 من البوادي تراسها ومن الصدف إذا ما عدت أساورها

 كتائب الهرشي تحت رايته ساعد طرارها ومقامرها

 لا الرزق تبغي ولا العطاء ولا يحشرها للقاء حاشرها

ومع هذا فهم لا يشبهون السياسيين في هذا الزمان، فقد كان عندهُم قوانين ومبادئ يتحاكمون إليها، وضع أسسَها بعضُ المنظّرين والموجّهين الفكريين منهم في تلك الفترة، كان من أبرزهم عُثمان الخياط الذي وصفهُ الآبي الرازي في( نثر الدر): بأنهُ من كبار الفتيان والشُطّار، والذي يحكي عن نفسه فيقول: ( ما سرقت جارا قطُّ ولو كان عدوا ولا كريما وأنا أعرفه ولا خنتُ مَن خانني ولا كافأت غدرا بغدر ) ويُوصي أصحابه قائلا ( لا بد لصاحب هذه الصناعة ( اللصوصية) من جراءة وحركة وفطنة وطمع وينبغي أن يُخالط أهل الصلاح ولا يتزيّا بغير زيّه ! ) وكان يُرشدهم بقوله ( اضمنوا لي ثلاثا أضمن لكم السلامة : لا تسرقوا الجيران، واتـّـقوا الحُرُم، ولا تكونوا أكثر من شريك مُناصف، وإن كنتم أولى بما في أيديهم لكذبهم وغشهم وتركهم إخراج الزكاة وجُحودهم الودائع ) لاحظ كيف كانت سطوة القيم الأخلاقية على الحياة … لم تغب عنهم قيم المُروءة والفُروسية أيضا فقد خرج شيخهُم مع بعض أصحابه ليلة فاقترح أحدهُم عليه قائلا: ( دعنا نقم على مفارق الطرق لنأخذ من بعض المارَّة نفقة يومنا ) وافق على ذلك مُشترطا فقال (على ألا تبطشوا بهم ) فقالوا : وهل يفعل ذلك إلا الجبان “! وبينما هُم كذلك إذ مرّ بهم شاب يبدو عليه الوقار ” فلما قرب سلّم عليهم فرد عليه بعضهُم السلام، فقاموا إليه فقال رئيسهُم : دعوهُ فإنهُ سلّم ليَسْلَم وأجابه بعضكُم فصار لهُ ذمة بذلك . قالوا : فنخلي سبيله “! … ولم يكتفوا بتركه بل قرروا أن يُحيطوه بالحماية حتى يبلغ مأمنه فقال لهم  زعيمهم : ” أخاف عليه غيرَكم ليذهب معهُ ثلاثة يوصلونه إلى منزله ففعلوا “. ولكن الشاب هالته أخلاقهم فقرر أن يكافئهُم فدفع إليهم مكافأة مالية ” فلما عادوا بالدراهم قال رئيسهُم : هذا أقبح من الأول تأخذون مالا على قضاء الذمام والوفاء بالعهد! لا أبرح أو تردون إليه المال فقالوا : قد افتـُضحنا بالصبح! فقال : لئن نفتضح بالصبح خير من تضييع الذمام “!!

ابحثوا في بطون الكتب عن الشعوب أو القبائل والعصابات الإجرامية . حتى بين المغول الذين كنا نعتقد أنهُم الأكثر إجراما ودموية ستجدون أن جنكيزخان عندما وضع قانون الياسا عام 1206 م أكد فيه كراهيته للسرقة وشُرب الخمر والظلم . وكان من أهم ما جاء فيه كما أوردهُ القلقشندي : إنهُ ألزمهُم ألا يتعصبوا لشيء من المذاهب . والزاني أو من يسرق حصانا أو أي شيء يُساويه يُقطع إلى نصفين وكذلك الذي يُمارس اللواط أو يشهد شهادة الزور أو يشتغل بأعمال السحر … ولأننا أمة لا تقرأ، لا تعرف ماضيها،  ومن المُؤكد أنه سيصيبها غشاوة عن رُؤية الحقيقة بوضوح، وغابت عنها عقولها فقدست الشراذم فاستحقت الحال الذي وصلت إليه والقادم أسوأ . ولهذا نحتاج إلى إعادة برمجة الفكر بالشكل الصحيح الذي يُعيد التوازن إلى المُجتمع وفرز الجراثيم التي أدت الى إصابته بهذه الأمراض بعد أن جثمَ على صدره أسوأ احتلال عرفهُ التاريخ .

كثيرون تسلطوا واستبدوا … سفكا للدماء وعدوانا على الأحياء وبقرا لبطون الحوامل وهدما للبيوت، تجويعا وإهانة واستيلاء على الأموال ، استعبادا كاملا . هبَّت علينا رياحُ الهُموم وحاصرَتنا الأحزان من كل جانب.  ولكن في الغار ورَسولُ الله صَلَى الله عَليهِ وَسَلَم يَنظُر إلى أقدامِ المُشرِكين قالَ:

لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ” 40 التوبة

 وَكانَ مُطارَداً وَيُبشِرُ سُراقَة بِأنَهُ يَلبَس سِوارَي كِسرى . هكَذا الاعتِصام بِالله فَقَد كانَ إذا أصابَهُ غَمّ لَجأ إلى الصَلاة يَشكو إلى رَبَهُ وَيُناجيهِ فَهُوَ يَهوي إلى رُكن شَديد . وإلى أهلنا أقول : بعد أن غُرسَت مَخالب الشر في جَسد الأمة لا تتوقعوا منها أن تنسحب بسهولة . ولابد أن تقطعوها وإلى الأبد في ثورة عارمة مُوحدة وقوية وإلا لن تخرجوا من هذا البُؤس، والضياع والعبودية . ولن تحصلوا على وطن حتى تُوحّدوا الراية والغاية والهوية أو تحملوا البندقية …

وإلا لن تنتصروا أبدا في هذه القضية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى