مقالات

جذور وعواصف

مطيع السهو

سياسي وكاتب
عرض مقالات الكاتب

لقد أثرت الظروف العصيبة على شجرة الحياة، وقلبت عواصف الضلال رياض القلوب إلى صحراء بلاقع، فكتبت ظواهر الأجساد توحي لحال خطير، يشير إلى سقم مستشرٍ لم يعهده، وعدوى مرض قبيح المرأى والمآل.
هذه الحال أعيت وأعجزت كل طبيب، وأشفق عليه كل قريب، يحاول محاولة الغريق أن يتعلق بحبل ممدود إلى السماء، أو يد تنتشله من عميق الماء.
إنها العقول إذا أجدبت، والفكر السقيم إذا احتل صحراء قفر، وقلوب جوفاء عقولها فقر، كشجر تعلق به وبر طائر، أو ريشة في مهب الريح، لا يهتدي لطريق، ولا تستبين معه معالم، فقد الهوية، وضلت راحلة نفسه عن إبصار الطريق.
وليس أدل على مرض الجهل من أن تجد هذا الفارغ يتحدث بكل العلوم، ويناقش أهل الاختصاص بأوهامه يظنها الحقيقة الدامغة، والحجة البالغة، وما درى أن اتساع الآخرين له، بفهمهم وحلمهم وانتظارهم حتى يغلق فمه، كمن سارت به أحلامه أستاذاً جامعياً محاضراً بفلسفة الأولين والآخرين.
فالأجوف فكرياً: يشعر أنه يستطيع أن يناقش في أي حديث، فهو طبيب إذا تحدث في الطب، ومهندس إذا تحدث بالهندسة، وفقيه إذا تحدث في الدين، وعالم لغوي إذا تحدث في اللغات المعاني، وخبير زراعي إذا تحدث في الزراعة.
لقد أحالته هذه الحالة المرضية، إلى العقلية الخرافية التي تزينت البطولة في كل ما تشاهده، أو تخامره من ظنون وأوهام.
يشعر أن كل من حوله ليسوا سوى مستمعين له ودون المستوى الفكري المطلوب، رغم علمه أنهم أصحاب اختصاص في ذاك المجال، ورغم أن هذا لم يطلع على ذاك الاختصاص إلا رشفاً أو لم يطلع أبداً، كنملة وقعت في زق عسل، مع ذلك لا يشعر بالاستحياء أو الخجل، ما يجعلنا نصاب بالحزن والأسى لما نحن عليه من تخلف وصل الى حد الرثاء، كل ذلك سببه احتضار العقل الذي تكاد أن تتلاشى أنفاسه.
ولن تجد في هذه الصحراء إلا مشهدها الآسر من سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، أو في ظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه ومن فوقه سحاب، لو أخرج يده لم يكد يراها.
ومن صفات صاحب التصحر الفكريِّ:
صخب وعويل ومترادفات متقطعة هنا وهناك تشغب المكان، يملأ الأجواء بطقس ماطر من السحاب الحامضي، ليزيد الصحراء وحشة وغربة، والرياض اليانعة قريبة عند التواضع وفتح العين على حقيقة النفس التي يكتنزها بين جوانحه.
هذا شأن بعض مدعي الثقافة والتنوير من أبناء جلدتنا في عصرنا، حيث نجد أنهم نسوا أو تناسوا قواقعهم التي كانوا يقبعون فيها، بل وكهوف الجهالة التي كانوا يركنون، ما إن أبصرت عيونهم بصيص نور وشعاع علم، حتى ظنوا الوصول لسدة العلم العالي، فمثلهم كنملة على شفير جبل تسفح بوهمها أنها من يملكه.
إلى فترة ليست بالبعيدة بعد أن خرجوا من هذا الواقع إلى عالم جديد أقصد العالم الأوربي عن طريق ثورة أهلهم الذين قدموا كل هذه الدماء من أجل العدالة والحياة الكريمة.
لقد أثر الواقع الغربي في أوربا، على عقول هؤلاء، بعد أن رمت بهم ارتدادات الثورة السورية المجيدة، وواقع الربيع العربي، على شواطئ بحر من أمة غريبة عن حياتنا التي نعيش، وواقعنا الذي نحيا، بين أمة ملتزمة بدينها وتعتز به، إلى واقع غربي يعيش كالآلة، منزوع العواطف والأحاسيس، بل تشوهت كل الأذواق عندهم في كل الجوارح، يعيش حياة الإلحاد المبطن بمسوح من بقايا دينه المحرف.
لقد انسلخوا من دينهم انسلاخ الأفعى من جلدها، وبحثوا عن ثوب جديد يستر عورتهم، فكان حظهم الذي أرداهم بثوب فضح كل العيوب، وبانت منه كل السوءات.
وليتهم اكتفوا بذلك، بل راحوا يعيبون على أهل الستر من أهل الالتزام والتقى، ويهاجونهم بدعوى التحضر منهم والحداثة، وما دروا أنهم تضمخوا بأوحال النجاسة من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون.
قال تعالى: ((يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [التوبة :32]لقد انبهرت عيونهم لأول وهلة بما رأت هناك، فكانت كعين الخفاش الذي أعماه ضوء النهار، فقد بوصلة هداه لتضربه اهواؤه على قارعة الطريق، سكران حيران لا يهتدي إلى سبيل، بل قذف بنفسه لطبيب بيطري يداوي عياه الذي أعياه، فزاده حمقاً وجهالة على ما هو فيه، فباع آخرته بدنيا غيره، يبحث العدل في محكمة الطاغوت.
قال تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء:60]لقد عميت بصائرهم عن كلّ ما تعانيه الأمة، وزاغت أبصارهم بهواهم وظنهم الذي أرداهم، وحسبوا جهلهم نبوغاً فكرياً عندما رمتهم العلمانية بدائها وانسلت.
فالعلمانية التي يدعونها ويتباهون بها: ــ حسب رأيهم ــ: (محاربة كل ما هو ديني).
والحرية الشخصية التي يتبنونها هي: (وقف على الانحلال والشذوذ والتعري) أما الحشمة والتحفظ والالتزام فليست برأيهم من الحرية الشخصية.
هذا المصاب الفكري والوهم في الوصول إلى الشهرة، والاحتفاء بنيل رضا أسيادهم ومباركتهم إياهم، من خلال الانسلاخ من المعتقد والقيم، أسقطهم في مزابل التاريخ كما أسقط من سبقهم.
نعم، إن الخواء الفكري هو أشد إيلاماً وفتكاً في جسم الأمة، وهو من أخطر المشكلات التي تجعل بعض العقول أشبه بالكهف المظلم.
إن هؤلاء القوم بحاجة إلى مصح عقلي، ومشفىً نفسي، يعيد التوازن إلى الجسد السقيم بفكره وواقعه، ليعود لحياة السعادة التي ينشدها كل حكيم، وما وجدوها إلا في شاطئ أمان دين الفطرة الوجدانية، ونداء الضمير الذي ينادي من الأعماق، انتبه لنفسك، لقد شذت بك راحلتك عن الصراط المستقيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى