ثقافة وأدب

(رماد المدن الحزينة) قراءة في ديوان (رماد الليالي) للشاعر محمود فرحان

الشاعر إسماعيل حقي

رئيس التجمع العربي لشعراء العمود والتفعيلة.
عرض مقالات الكاتب

فرحٌ منسيٌّ, وحبٌّ مخفي, وحزنٌ معلن, وجروح تنزف صهيلها في صحاري الرّوح ؛ فلا حبلٌ يأخذ بيد شاعرنا محمود الفرحان غير حبل الله , وحبل البلاغة التي زينت وجمّلت وأبدلت حزن قصائده ورماد لياليه بأملٍ تنسجه قوافيه خفية عن عين الليالي كي لا تنسج الأرق شرنقة حول حروفه التي تصرّ على التحليق بعيدا في سماوات الشّعر مهما اشتدت نوائب الحبّ والزّمان والمكان ؛ فنجد افتخاره بقصائده قد بلغ به كل مبلغ حتى لكأنه قبيلة من الشعراء وينبت الشعر بها مزهوا ومثمرا؛ فيقول:

أرض الكرام ربت واهتز شاطئها
وارض كل دعي تشتكي الظمآ
فأجمل الشعر مايقوله الشجعان, وما تنبته الأرض الكريمة التي يهنأ النهر بجوارها لائذا مطمئنا؛ فالكرام يفضلون الظمأ على أن يعطش لهم شاطئ . أما دعاة الشعر فلا منهل عذب تعبُّ منه قصائدهم؛ فتخرج تلك القصائد ذابلة، صفراء، فاترة الصهيل، فيعود ويقول:
إذا اشتكى ظمئا للماء واديهم
فإن وادينا من زهونا امتلآ
وبقافية هامسة بكت حروفه من الغربة وشكت من الحنين لكل ماودعته وراءها حين اختط القدر له درب النّزوح
فلقد ودّع الشاعر أحلامه وراءه , ودع صوت أحبابه , ونجوم ليله , وبابا مرصودا يضم وراءه حبيبة لم ينسها , وجسرا كان يحتضن خيالات اللقاء وحكايات المواعيد ؛ فيبتدر القارئ بمطلعٍ أخّاذ:
بلى , ودعت لكن ما نسيت
لأنّك وجهتي أنّى سريت
ويقول:
اروح لبابك المرصود دوما
وحسبي بأن اقول أن أتيتُ
أساير باشتياق كل ركن
إليه سعيت أو يوما مشيت
ويعود من جديد في ليالي النزوح يخاطب مدينته التي نزح عنها كما يخاطب محبوب حبيبته؛ فللحبيبة عينان من هوى , وللفلوجة جسران من نوى . وهلال الحبيبة قد يحاصره وهلال الفلوجة لا يطاله ولا يطاوله نجم ؛ فيقول:
فلوجتي كل حب الأرض مختزل
في مقلتيك إذا ما ليلنا سدلا

ليقف في حضرة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم مخاطبا له بلغة تفيض فداء وشكوى وخجلا من تقصير وأملا بشفاعة مرجوة وأمنيات لو كان مبعوثا في زمانه فيأخذه شوق لطيبة المختار ؛ فيوجه وجهه نحو حماها قائلا:
جعلت فداك الروح ياسيّدي فخرا
ورتلت آيات الولاء لكم شعرا
وفارقت ماضي الذي كان صادحا
لغيرك واستعذبت في مدحك الأجرا

وكيف لايمدح المصطفى وهو الذي غرس غرسة التوحيد التي أينعت في قلوب المؤمنين فأتت ثمارها ليطمئنوا ويستبشروا به , فرحين بتوبتهم التي وسعت صدور العالمين فيقول:
على مرافئ هذا البوح نحتفل
ومن رؤى حرفه لله نبتهل

هذا الابتهال , وهذا الدّعاء يرافقانه في اشد ساعات عذابه وحزنه حلكة ؛ إنها ساعات فراق الحبيبة وغيابها الموجوع والقسري وراء أبواب المدينة المسوّرة بالتقاليد التي ترى الحب انتهاكا للفضيلة ؛ فليس له غير طيف يرسله علّه يلقى طيفها أو يحظى بظلٍّ لخطاها ؛ فيبتدئ قصيدة صدى الماضي بمطلع عذب :
القلب مزقه النوى لولاك
والعين خفف دمعها مرآك
والصب عاوده الغرام وقبل ذا
قد كان محبوس الهوى بشباك
مستخدما حرف الكاف كحرف روي ليشارك القصيدة رغبتها بالبكاء والأماني التي تأخذه طائعا إلى باب من يهوى من جديد طالبا لجوء قلبه في ثنيات الماضي القريب فيكتب في قصيدة بابك الموتور:
إلى بابك الموتور جئت مشردا
أمرغ فيك القلب والوجه واليدا
فكان قلبه في هذا الدّيوان موزّع الجراح بين مدينته التي نأى عنها وبين مسافات تبعده عن طيبة المختار وبين طيف حبيبة ابعدها الوشاة عن أفق عينيه ؛ ليتوّج هذه الجراح بجرح الأقصى فيقول:
وأعجب من ليال بت فيها
قرير العين والأقصى مباح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى