مختارات

مصطفى الزرقا.. لَمَحات من ذكريات

عصام العطّار

مفكر إسلامي
عرض مقالات الكاتب

ما تزالُ جراحاتُنا تَنْزِفُ لِفَقْدِ الطنطاوي
واليومَ نفقدُ أيضاً علامَتَنا الكبير، وأخانا الجليل، وصديقَنا الحبيب: مصطفى الزرقا، تَغَمَّدَهُ اللهُ بالرحمةِ والرضوان

عالَمٌ بكامِلِه، عَصْرٌ بكامِلِه، تحتَ أبصارِنا ينطوي.. عالَمٌ مِنَ الإيمان والإخلاص، والشجاعَة والإقدام، والإرادة والعزم، والعلم والعمل والجهاد المتواصل على كُلِّ صَعيد في سبيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلّ، لتبيانِ دعوتِه، وخدمَةِ شريعتِه، وإعلاءِ كلمتِه، والتقدُّمِ بأمَّتِنا وبلادِنا في طريقِ الحريَّةِ والكرامَة، والقوَّةِ والعَدالة، والمعرفةِ والأصالة، والازدهارِ الماديّ والمعنويّ

كان الطنطاوي والزرقا أخوين وَفِيَّيْن، وصديقين حميمين، جَمَعَهُما على خدمةِ الإسلامِ والمسلمين عُمُرٌ مَديد على كُلِّ صَعيد، وكان كُلٌّ منهُما يحمِلُ لأخيهِ وصديقِهِ أصدَقَ المحبةِ والتقدير

كانَ الأستاذ الزرقا يقول: أربعةُ رجال هُمْ مِنْ نعمةِ اللهِ عزّ وجَلّ على الإسلامِ والمسلمين في هذا العصر، وكان يُصَنِّفُهُم على حَسَبِ السِنّ فيحتلُّ الموقعَ الأوَّلَ بينَهُم علي الطنطاوي

لم أعُدْ أتذكّر أوّلَ مَرَّة سمعتُ فيها بالأستاذ الزرقا، ولا أوّلَ مَرَّة رأيتُه فيها، وإنْ أخَذَتْ لقاءاتُنا تتكرّر في أواخِر الأربعينيّات، وأوائِل الخمسينيّات، في مناسبات خاصّة وعامّة، وفي بعضِ لقاءات “رابطة العلماء”، وكانت رابطةُ العلماء في ذلك الحين تتكوَّنُ من أكبر علماء الشريعة في بلادنا، وكانوا يُحِبّونَ أن أكونَ معهم في لقاءاتِهم حَتّى أنّهُم عندما اجتمعتْ كلمتُهُم على عقد مؤتمر إسلامي في سورية سنة 1955م يَجْمَعُ علماءَ البلاد ومؤسَّساتِها وجمعيّاتِها، والشخصيات الإسلامية البارزة فيها، وعندما انعقد المؤتمر وانتخبَ هيئتَهُ المشرفة، كان الإجماع أنْ أكونَ أميناً عاماً لهذه الهيئة

ونَمَتْ معرفتي وعلاقتي بالأستاذ الزرقا من خلال المناسبات والأيام، وبعضِ لقاءاتِنا بإخوانِنا وأصدقائِنا المشتركين: الدكتور مصطفى السباعي، الأستاذ علي الطنطاوي، الأستاذ محمد المبارك، والأستاذ عمر بهاء الأميري.. رحمهم الله جميعاً، ثُمَّ تَحَوَّلَت المعرفة والعلاقة إلى أخُوَّةٍ متينة، وصداقةٍ وَطيدة


كان الأستاذ الزرقا -رحمه الله- فقيهاً كبيراً مُجَدِّداً اجتمعتْ لَهُ أداةُ الفقهِ والتَّجْديد على أفضل وجه. كانَ مُتَمَكِّناً من العربية، عالِماً بعلومِها وآدابها. وكان ضَليعاً في الشريعَةِ والفقه، أخذه عن والده، ودرسه في المدرسة الخسروية في حلب، ثم درس الحقوق والأدب في كلية الحقوق والآداب في دمشق، فاجتمَعَ له في وقتٍ واحد المعرفة بالشريعة والقانون واللغة والأدب، وكان يعرف اللغة الفرنسية مِمّا مَكَّنَهُ مِنَ الاطلاع على المراجع القانونية الأجنبية المعتبرة، واقتباسِ ما رآهُ مناسِباً من الأساليب الحديثة في البحثِ الفقهي وترتيبهِ وعرضِه، ومِنَ التعرّف إلى بعض الأحكام الجَديدة التي نظّمَتْها التشريعات للأوضاع الحُقوقيّة والاقتصاديّة الحديثة، كشركات المساهمة وعقود التأمين. وقد أعانَهُ هذا كُلُّهُ وهو أستاذ في كلية الحقوق، ثم في كلية الشريعة التي أُنشأت سنة 1945م، على أن يعرضَ الفقهَ الإسلامِيّ في ثوب قشيب، وأسلوب جديد، يُسايرُ ذوقَ العصر ولغته، وعلى أن يتصَدَّى لمطلب كبير جَليل: “أن أقلِبَ صِياغَةَ الفقه الإسلامِي، فأبنِيَ مِنْ قواعِدِهِ ومبادِئِه نظريةً عامّة على غرار نظرية الالتزام العامّة في الفقه القانوني الأجنبيّ الحديث، خدمَةً لِفِقْهِنا الإسلاميّ الجليل، كَيْ يَتَجَلّى ما فيهِ من جوهرٍ نفيسٍ كانَ محجوباً بالأسلوب القديم الذي أصبَحَ عسيرَ الهضم على رجال العصر.”

ولقد درّسَ الأستاذ -رَحِمَهُ الله- في أكثر من جامعة في أكثر من دولة، وشاركَ في أكثر من مجمع فقهي، وأشرف على موسوعة الفقه الإسلامي في الكويت، وعمل مستشاراً شرعيا في أكثر من مكان ومجال، ومُنِحَ جائزةَ الملك فيصل العالميّة عن مؤلّفِه في النظريّات الفقهيّة سنة 1404هـ 1984م، وكان -ولاشكّ- فقيهاً من أكبر فقهاء المسلمين المجددين في هذا العصر

وكان -إلى ذلك كلّه- مشاركاً في الحياةِ العامة في حلب، ثم في سوريّة والعالم العربي والإسلامي، ناضَلَ الفرنسيين ناشئاً، وناضل الاستعمار حيثما كان، وحاربَ دعوات الإلحاد والفساد، وأسْهَمَ في النشاطات الإسلامية والأعمال العلمية والاجتماعية والسياسية، وكان نائباً أكثر من مَرَّة، ووزيراً أكثرَ مِنْ مَرَّة، وكان يتمتع في بلادنا بنصيب وافر من التقدير والاحترام

ولما كانت انتخابات سنة 1961م في سورية، جَمَعَتْنِي والأستاذ الزرقا عضويةُ البرلمان الجديد، وأجْمَعَ النوّابُ الإسلامِيّون على مختلف انتماءاتِهم لأسباب موضوعية في ذلك الحين -فقد كانت الأجيالُ الجديدَةُ في سوريّا تتطَلَّعُ بأكثريَّتِها الكبيرة إلى عصام العطارـ على أن أتوَلّى قيادةَ الجبهةِ الإسلامية في البرلمان، ولم يشعر الأستاذ الجليل بأي حرج في ذلك، وأنا في السنّ ولدٌ من أولادِه، وفي العلم تلميذٌ من تلاميذه، بل كان لذلك مُؤَيّداً ومحبذاً، وكان لي في البرلمان وبَعْدَ البرلمان، وبَعْدَ أن شَرَّدَنا وشَتَّتَنا الزمان، نعمَ الأخ الحبيب، والصديق الصدوق

ما أكبرَ قلبَك، وما أكرمَ خُلُقَك أيها الأستاذ الجليل


آخر زيارة لي إلى المملكة العربية السعودية امتدت شهوراً، من أواخر سنة 1983 إلى أوائل سنة 1984م، وقد لقيت الأستاذ الزرقا في هذه الزيارة مرّات ومرّات، عندي حيث أنزل، وفي دعوات إخوة كرام من السعوديين، ومن عرب ومسلمين آخرين مقيمين في الرياض، ودارت بيننا أحاديث وأحاديث في مختلف الشؤون

وذات يوم هتف بي الأستاذ الزرقا وقال لي: أرجو أن تُخْلي لي نفسَكَ ساعةً هذا اليوم، فأنا أريدُكَ لأمْر لا أحِبُّ أن يكونَ فيهِ مَعَنا أحد، واتفقْنا على موعد
وفي الموعد المحدّد حضر الأستاذ وجلسنا، وتعلقت بهِ عينايَ تسألانِ دونَ كلام. قال: أتيتُ إليكَ أفتحُ لَكَ قلبي، وتبثّني ما في نفسِك وأبثّكَ ما في نفسي، ونبكي معاً ساعَةً مِنْ نهار
وكان -رحمه الله- قد فقدَ زوجتَه الثانية:”فخرية طاهر الذيل” أمّ ولديه مازن وعامر، في 30/5/1983م، وكنت قد فقدت قبل ذلك زوجتي الشهيدة “بنان” في 17/3/1981م، وقصّ عليّ -رحمه الله- كيفَ توفيت زوجتُهُ الأولى: “وطفاء الأميري” أم نوفل وأنس ورفيدة، سنة 1942م، وأنشدني بعينين مُغْرَوْرِقتين، وصوت يتقاطر منهُ الأسَى والحزن، قصيدتَهُ في رثائِها وبَكَى، ثم قَصَّ عليَّ قصَّةَ مرض زوجتِه الثانية «فخرية طاهر الذيل» وقرأ عَليَّ رثاءَها وبكَى وبكَى، وبكينا معاً إلى أن دهمنا الزائرون، فرأوا آثار الدموع في العيون بعد أن كَفْكَفْنا الدموع

ويا لله للشيخوخة الحزينة الجليلة حينَ تبكي.. إنه مشهد يجلُّ عن الوصف، مشهد ما كنتُ لأنساه

ولم ألق الأستاذ الزرقا بعد وفاة ولده الأكبر: المهندس: نوفل، إلاّ حديثاً على الهاتف، ولم ألقه بعد وفاةِ ابنِهِ الثاني الطبيب: مازن، إلا بالهاتفِ أيضاً، وإنْ شعرتُ بأنَّهُ بعدَ وفاةِ زوجَتِهِ وولدِهِ الأوّل، قد بدأ يشعر بالغربة العميقة والوحدة والتيتُّم

ودموع الشيخوخة الجليلة الحزينة التي سكبها عندي الأستاذ الزرقا، تذكِّرُني بدموع شيخوخة جليلة أخرَى سَكَبَها أمامي -وعلى انفرادٍ أيضاً- الدكتور معروف الدواليبي على شريكةِ حياتِه: “أم محمد” رحمها الله

ونحن إذا ذكرنا الدواليبي فلا بُدَّ أن نذكرَ الزرقا، وإذا ذكرْنا الزرقا فلا بد أن نذكر الدواليبي؛ فهما أخوان وصديقان حميمان من أكثر من ثمانين سنة -على التأكيد-، من المدرسة الخسروية الشرعيّة في حلب، إلى الجامعة السورية طالبيْن ثم أستاذيْن، إلى ميادينِ الحياة الواسعة الأخرى

والدكتور الدواليبي رئيس وزرائنا سابقاً، ورئيس برلماننا سابقاً، وأحد كبار زعماء بلادنا.. اتفقْنا معه في الماضي واختلفنا، ورضينا وسخطنا، وجَمَعَتْ بيننا سُبُل، وفرقت سُبُل؛ ولكن بَقِيَتْ أخوّتُنا وصداقتُنا الحَميمَة، وتقديرُنا الكبير، للعلاّمة الكبير، والمثقف الكبير، والرجل الإسلامي المناضِل الفعَّال الشجاع

ذهبنا إليه -في زيارتي هذه التي ذكرتها للسعودية- مُعَزّين بزوجتِه “أم محمد” وكانتْ قد تُوُفِّيت -رحمها الله- في بيروت، فاستبقاني بعد انصراف مَنْ جئتُ مَعَهُم أو جاءوا معي..
وبَكَى هذا الشيخ الجَليل الصَّلْد الصبور أمامي.. وبكى، ثم فتحَ لي قلبَهُ فحدَّثَنِي عن “أم محمد” رحمها الله تعالى، منذ أن عرفَها إلى أن ودَّعَها الوداعَ الأخير، حديثاً لو استمَعَ إليهِ الرجال والنساء لعَرَفوا كيفَ يكونُ الحبُّ والوفاء، وكيفَ تكونُ المودّة والرحمة بين الأزواج، ولكان درساً بليغاً لكثيرٍ من الجاهلين والمقصرين


وضَرَبَتْ أيدي الليالي -كما يقولون- بيني وبين الأستاذ الزرقا، فهو في الكويت، وهو في عمان، وهو في الرياض.. وأنا في مدينة آخن في ألمانيا.. أتَّصِلُ به بالهاتِف ويتصِلُ بي، وأسألُ عن أخبارهِ ويسألُ عن أخباري، وأسألُ عنهُ أيضاً ولدَهُ وأخي العالم الفاضل الدكتور أنس.

وقد علمت بمرضِه الخبيث قبل أن يعلمَ بهِ هو، أنبأني بذلك بعضُ إخواني وإخوانِهِ من الأطباء. واستمرَّتْ اتصالاتُنا وقد ثقُلَ سَمْعُه وعَجَزَ عن المسير، نتحدث أحياناً مباشرة بصوت مرتفع، أو ينقلُ بعضُ مَنْ يَحْضُرُهُ من أهله وزواره بيننا الكلام. ولم ينسَ أيضاً -وهو في حالهِ هذه- أن يرسلَ إلى”الرائد” مساعدتَه المادية الرمزية التي يرسِلُها كُلَّ عام

كان -رحمه الله- آية في صدقه ووفائه ودَأبهِ ومثابرتِه، وإرادتِه وهمتِه، وحرصِه على أداءِ واجبهِ على أفضلِ وَجْه. قبلَ أقلّ من ساعتين من وفاته كان عندَهُ زائرون، وناسٌ يستفتون، وهو يجيبُهُم بكلّ صَبْر، ورَحابةِ صَدْر.. وفي الساعة الرابعة من بعد عصر السبت 20 ربيع الأول 1420هـ 3 تموز 1999م انطفأ هذا السراج المنير، وسكتَ هذا اللسان البليغ، وتوقّفَ هذا القلب الكبير.. وماتَ مصطفى أحمد الزرقا

يا أخي مصطفى!
يا صديقي مصطفى!
يا حبيبنا ويا عَلاّمَتَنا مصطفى!! أنا أعلم أنّ قلبَكَ كانَ يُقَطِّعُهُ -وأنت في غربتِكَ ووحدتِكَ ووحشتِكَ- الشوق إلى حلب ودمشق، وإلى أهلِكَ وإخوانِكَ وأصحابكَ في حلب ودمشق

أسألُ اللهَ أن يُعَوِّضَكَ، ويُعَوِّضَ أخاك الطنطاوي، عن حلب ودمشق، وعن الدنيا كلِّها، جَنّةً عرضُها السماوات والأرض، وأن يجعلكما مع النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يجزيكما عنّا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

كتب هذا المقال سنة ١٩٩٩

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. هؤلاء تاريخنا المشرف، ومهما حاولوا تغريب شعب سوريا فهؤلاء الأصلاء كتبوا للقلوب والعقول النظيفة، وما ينفع الناس يمكث في الأرض . رحمهم الله أحياء أموات ونحسبهم في جنان النعيم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى