بحوث ودراسات

أوروبا ومذابح القرن العشرين.. مراجعات في المسألة الأرمنية (3)

معاذ السرّاج

باحث في تاريخ سورية المعاصر وشؤون الحركات الإسلامية
عرض مقالات الكاتب

من “الملة الصديقة” إلى الثورة والتمرد

تكاد المسألة الأرمنية تمثل نموذجا لقضايا عديدة متشابهة, في دوافعها, أو مساراتها, أو العناصر التي تضافرت على تشكيلها. فهي نموذج تأثر وأثّر في الوقت نفسه, واجتمعت فيه جوانب من القضايا العربية والكردية وقضايا البقان وغيرها من الشعوب والبلاد. ويكاد التدخل الخارجي أن يكون العامل الأبرز المشترك بينها جميعا, ولاتزال تأثيراتها يعتمل حتى يومنا هذا. فيما تكتفي الأطراف بالتنازع فيما بينها, دون أن تتجشم عناء البحث في جذور الصراع وبواعثه الأساسية, وتعمل على معالجتها وفقا لذلك.

“أرمنستان الكبرى”, و”كردستان الكبرى”, نموذجان للدول الموعودة بعد الحرب العالمية الأولى, لكن أيا منهما لم يتحقق رغم الجهود والتضحيات التي بُذلت.

الغريب أن بريطانيا التي تولت “عربة القيادة, بعد الحرب العالمية الأولى, رسمت حدود هاتين الدولتين “الكبريين”, متقابلتين إلى درجة التطابق, وعلى أراض موزعة على العديد من الدول والإمبراطوريات, موفرة الفرصة للإيقاع بين أطراف كثيرة في آن واحد, ولإشعال فتيل القتال بين الأتراك والروس تارة, والأكراد والأرمن تارة اخرى, ولاحقا بين الأكراد والعرب في العراق, الأمر الذي تجدد حدوثه في سورية بعد ثورة 2011, وهكذا يظل فتيل الحروب مشتعلا, وتظل الفوضى والتوترات بلا نهاية.

في كتابه “السلطان عبد الحميد والرقص مع الذئاب”, ينقل “مصطفى أرمغان”, المؤرخ التركي المعاصر, عن الباحث جوزيف برودا, قوله إن “سياسة التتريك التي اتبعها الاتحاديون, الذين صعدوا إلى السلطة بوعود الحريات الكبيرة, تعود إلى وقوف الإنكليز وراءها.. الذين توالت خدماتهم السرية عبر جواسيسهم لورانس العرب, وسيتون واتسون في الصرب, والليدي دونهام في الأرناؤوط, ونويل باكستون في البلغار, الذين كانوا يعملون على تهويش القوميات, وإعداد الشروط الضرورية لتمزيق الدولة العثمانية”.

  • عوامل التحول وانقلاب مواقف الأرمن:

في إطار التساؤلات الموضوعية حول الانقلاب أو التحول, الذي حدث في مواقف الأرمن في العقدين الأخيرين من عمر الدولة العثماني بوجه خاص, تسترعي النظر, العديد من المظاهر الملفتة, والعناصر التي تحتاج للتوقف والمراجعة.

فالأرمن أولاً, من جهة, كانوا يتمتعون بوضع جيد في الدولة العثمانية, وخاصة في استانبول وحول مراكز النفوذ, وكانوا أكثر الأقليات اندماجا في الهيكل السياسي والإداري في الدولة العثمانية. حتى إنهم كانوا يحتلون مكانة هامة في الكادر السياسي الملحق بالقصر, أو بالباب العالي أثناء انتفاضات اليونان والبلغار ومقدونيا, على سبيل المثال. ناهيك عن تواجدهم في المجالس البلدية والمحاكم, وكوزراء أو مستشارين وخبراء في الشؤون المالية والسياسية, وفنيين على مستوى عال في خدمات التعليم والترجمة والصحة والزراعة وغيرها..

كما أن الانتشار الواسع للأرمن والأرمن من شرق الأناضول وحتى استانبول, وتراقيا الغربية, والتداخل الوثيق بالنسيج الديموغرافي المسلم, كالأتراك والشراكسة والأكراد, وتجاورهم في مدن وقرى واحدة, جعلهم يبدون وكأنهم امة واحدة, “الملة العثماني”, كما عرفت في التاريخ العثماني, وفي ظل هذا الوضع, لا يمكن الجزم بأن الأرمن يمكن أن يشكلوا غالبية سكانية في أي من المناطق, إلا على نحو محدود للغاية, لا يسمح بأي نوع من الاستقلالية أو الحكم الذاتي, بما في ذلك الولايات الشرقية الأكثر ازدحاما بالأرمن.

زمن ناحية ثالثة, فإن الريف العثماني في معظمه, وبخلاف استانبول والمدن الكبرى, وخاصة في العقود الأخيرة من عمر الدولة, كان في معاناة كبيرة, ولأسباب عديدة كالحروب والأوبئة والأمراض, ناهيك عن الإهمال والتقاعس من إدارات الدولة نفسها. وهذا الأمر لم يكن خاصا بالأرمن وحدهم, وبالتالي فهو لا يشكل عاملا مباشرا في التحول الذي طرأ على موقف الأرمن آنذاك. والأمر الذي ينبغي أن يشار إليه هنا, أن هذه الأوضاع كانت محل استغلال من قبل  القناصل, والممثليات الأجنبية, والبعثات الدينية, التي كانت تحظى بنفوذ قوي في تلك الفترة, فكانت تقدم الدعم المادي والمعنوي للأرمن, (من دون جيرانهم المسلمين), وتتبنى قضاياهم وتدافع عنها, ولاشك أن هذه السياسة لعبت دورا مهما تأجيج التوتر والانقسام.

وينبغي أن يسجل هنا, أن تلك الفترة حفلت بالثورات ومحاولات الاستقلال دول قومية, وخاصة في البلقان, لكن تلك المحاولات لم لتمرّ دون مصاعب جمة وعواقب جسيمة, ليس من طرف الدولة العثمانية, التي قاومت هذه المحاولات بطبيعة الحال, لكن أيضا, نتيجة تداخل القوميات والأعراق بصورة معقدة, وفي مساحات جغرافية ضيقة, وفيهم الأتراك والألبان والبوشناق واليونان والصرب والبلغار واليهود والغجر.. ويصبح الأمر أكثر تعقيدا, حين تتقابل الأديان والمذاهب, ليس الإسلام والمسيحية وحسب, وإنما أيضا داخل الأرثوذكسية, الأسقفية البلغارية والبطريركية اليونانية.. ولهذا فقد رأينا أن تشكيل دول بلغاريا والصرب واليونان لم ييكن ليحدث دون حروب طاحنة ومذابح على نطاق واسع, ليس بحق مسلمي البلقان, والمسلمين الأتراك, والتي انتهت بمئات الآلاف من الضحايا في حرب البلقان الأولى عام 1912, وإنما بين الدول المسيحية الناشئة نفسها, والتي ما لبثت أن اندلعت مباشرة في العام التالي 1913, ثم تسببت بالحرب العالمية الأولى بعد عام واحد فقط من ذلك التاريخ, ومازالت النار تحت الرماد, ولا تلبث الحروب والفتن أن تجدد بين الحين والآخر.      

يُذكر أيضا, أن الأرمن كانوا في تلك الفترة على  صلات وثيقة بأوربا, وكانت الجاليات الأرمنية هناك تتمتع بثقافة قومية عالية, نتيجة الاحتكاك المباشر بالتجربة الأوربية. فيما كانت البعثات التبشيرية تتغلغل فيها على نحو واسع, وخاصة البعثات التبشيرية البروتستانتية الأمريكية. وفي الوقت الذي كانت مكانة الأرمن تتطور أكثر فأكثر, كان وعيهم القومي يزداد حدة وضراوة, ويشهد المزيد من الإثارة والتحريض, نتيجة الانفتاح المتزايد على أوربا, وازدياد الصلة بها قوة ومتانة, بعد نجاح الاتحاديين في استلام السلطة في الباب العالي بعد حركة تركيا الفتاة عام 1908, وهؤلاء هم حلفاء الأرمن وشركاؤهم في الانقلاب على السلطان عبد الحميد, قبل أن ينقلب بعضهم على بعضهم وتتضارب مواقفهم تماما.

ومن خلال صلاتهم القوية, تمكّن الأرمن, وبمساعدة الأوربيين, من إرسال وفود لحضور المفاوضات والمعاهدات التي كثرت انعقادها في تلك الفترة, ومن الإعراب عن رغباتهم ومطامحهم, بما في ذلك المطالبة بحكم ذاتي على أراضي الدولة العثمانية, على غرار الحكم الذاتي الذي منح لمسيحيي لبنان عام 1860, وقد اصطدمت رغباتهم تلك بالرفض الجازم والمبكر من السلطان عبد الحميد.

لكن هذه الصلات, ورغم أنها أسهمت كثيرا في التأليب على الدولة العثمانية, إلا أنها ستجعل من المسألة الأرمنية عنصرا من عناصر التنافس الدولي والتجاذب الدولي, وخاصة الروسي – البريطاني. فالأرمن الذين حصلوا بالفعل, على تعهدات من بريطانيا, بالعمل على دعم مطالبهم, وحماية وجودهم في شرق الأناضول, (وسيتبع هذا بالفعل إرسال مستشارين عسكريين إنكليز إلى الأناضول الشرقية منذ عام 1879 – 1880), لكن هذا الأمر وبمقدار ما سيدفع الروس للدخول على الخط, والحصول على تفويض من القوى الأوربية بحماية الأرمن وتعهد مطالبهم, بمقدار ما سيزيد شكوك الورس بنوايا الأرمن في إقامة دول كبرى ستشمل أجزاء هي تحت هيمن الروس, وسيؤدي هذا لانقلاب الروس أنفسهم على الأرمن, والهيمنة فيما بعد على دولتهم الناشئة, وإخضاعها لنفوذ الاتحاد السوفييتي لاحقا.

  • ظهور المنظمات المسلحة وبداية التمرد الأرمني:

وبالنظر إلى مجمل العوامل والتفاعلات التي أشرنا إليها, فإن تجذر الحركة القومية الأرمنية سيرتبط من الناحية العملية, بعاملين اثنين, أولهما التحريض الأوربي, وثانيهما الأساليب العنيفة التي ستلجأ إليها “اللجان” الثورية الأرمنية التي ستتأسس لاحقا, على غرار اللجان الثورية البلغارية, والنماذج المماثلة في دول البلقان التي أشرنا إليها سابقا. .

لقد هيمن “النموذج البلغاري” على تفكير المناضلين الأرمن, خاصة أولئك الذين أسسوا المنظمات الأولى, أرميناجان, وهاشناق (الجرس), وطاشناق (الاتحاد الثوري الأرمني), تباعا منذ عام 1885, وكان هؤلاء من أرمن القوقاز الذين استلهموا الأفكار الشعبية الروسية وتبنوا الاشتراكية. ولم تكن لهم مع أرمن تركيا إلا القليل من الروابط, في بداية الأمر لكنه سرعان ما تغير وفقا للعوامل المذكورة.

كان الهاشناق والطاشناق يؤيدان اللجوء النضال المسلح لتحقيق أهدافهما, وهذه المسألة واضحة في المراسلات الدبلوماسية للقوى الخارجية, وفي الأعمال الأرمنية المطبوعة, وكذلك في الأرشيف العثماني.

ودعت منظمة الطاشناق – اتحاد الثوريين الأرمن – منذ تأسيسها عام 1890, إلى العنف المتطرف ضد (الخونة الأرمن وضد الترك والكرد), وكان الهاشناغ أول من سلح الجانب الأرمني من مدينة (وان), واستعملوا بعض الإرساليات الأرمنية كمحطات وأماكن لتجميع الأسلحة التي يحصلون عليها, من الدول المجاورة مثل روسيا وجورجيا. ومن الدول الأوربية مثل فرنسا واليونان وسويسرة, وحتى من الولايات المتحدة. وكان يتم شحن هذه الأسلحة في العادة في مراكب أجنبية, أو يتم نقلها بكل بساطة عبر الحدود الشرقية من تبريز (بلاد فارس). 

وينقل الأستاذ تورك قايا أن السفارة البريطانية ذكرت أنه خلال انتفاضة أضنا سنة 1909 قام الأسقف الأرمني موشيك “بجولة في مقاطعته داعيا الناس أن من يملك معطفا عليه بيعه وشراء سلاح بثمنه”. وذكر تقرير بريطاني آخر أن البطريرك الأرمني كان مسؤولا إلى حد كبير عن الأحداث التي وقعت.

والحقيقة أن الدور الأوربي وكما أشرنا, كان واضحا تماما في إثارة القلاقل والاضطرابات, كما أكدته المراسلات الدبلوماسية للسفراء البريطانيين في الدولة العثمانية, والذين أشار أحدهم إلى الدور الروسي في إثارة الأرمن بالكلمات التالية: “يجري إرسال العملاء الروس, بهدف إثارة عدم الرضا ضد حكم سلطة الباب العالي”.. وذكر القنصل الروسي في (وان), أنه في سنة 1895 كان ثوار (وان), يعملون لشد انتباه أوروبا مرة أخرى للقضية الأرمنية”.

وسبق للسفير البريطاني في العاصمة العثمانية أن كتب لوزارة الخارجية, أن البطريركية الأرمنية اتصلت به, عشية الحرب الروسية العثمانية 1777 – 1778, وقالت له: “إذا اقتضت الضرورة القيام بثورة من أجل تأمين تعاطف القوى الأوربية, فلن تكون هناك صعوبة في القيام بهذه الحركة”.

وكان الأسلوب المنتظم للهاشناغ لا يتمثل بقتل المسلمين فحسب, بل قتل الأرمن أيضا, الذين رفضوا التعاون لتمويلهم. كانت ترسل رسائل إلى أثرياء الأرمن تطلب منهم المال, وتهددهم بالقتل. وكانت إحداها ضد شخص الكاهن الأرمني (بورغوس).. كما قامت باغتيال حاكم وان عام 1895, وقائد طرابزون (1895), وأشعلوا النار في مسجد تبليس بينما كان يغص بالمصلين عام 1895, وأحرقوا قرابة ألف محل في ديار بكر في العام نفسه.

وينقل تروك قايا, عن الأمريكية من أصل أرمني لويز نالبنديان في رسالتها للدكتوراه, أن الأرمن “افتعلوا المشكلات وارتكبوا أعمالا إرهابية”. وكانت الأساليب التي استعملوها, بحسب تعبير الدكتورة نالبنديان, “تنظيم عصابات قتالية.. لاستخدام كل الوسائل لتسليح الشعب.. لإثارة قتال وإرهاب مسؤولي الحكومة.. وإرساء اتصالات لنقل الرجال والسلاح.. ونهب المؤسسات الحكومية وتدميرها”, وتعترف نالبنديان أن برنامج الطاشناق عام 1892 “أجاز الإرهاب رسميا وسيلة للعمل”, وتضيف قائلة: “لقد استخدمت حركة طاشناق الوسائل الإرهابية حتى قبل 1892. وكانت التظاهرات, والاختطافات والاغتيالات, وسائل “لجذب التدخل الأوربي”, وكما يقول كاتب أرمني آخر, فإن الأرمن أصبحوا “سلاحا في ترسانة المتنافسين الإمبرياليين”.

دخلت نشاطات الهاشناق طورا آخر عندما قامت مظاهرة في منطقة كوم كابي باستانبول عام 1890, وما لبثت أن تحولت بين عامي 1894 و 1896, إلى اضطرابات وأعمال عنف دموية, وسرعان ما انتقلت إلى الولايات الشرقية, وقامت مجموعات الأرمن خلالها, بحرق المدارس التركية, وهدم الأماكن السكنية للمسلمين, ونهب المساجد وأماكن العمل.

وقد بلغت الأحداث ذروة التوتر في الهجوم على مقر البنك العثماني في استانبول, واحتلاله من قبل عشرين مسلحا أرمنيا, والاحتفاظ بموظفيه كرهائن, على مدار يوم كامل. إلا أن أبرز أعمالهم الإرهابية, كانت محاولة اغتيال السلطان عبد الحميد في 21 تموز 1905, والتي نجا منها السلطان بفضل محادثة قصيرة استوقفته مع صديقه جمال الدين.

وكان السلطان كثيرا ما يعفو عن الأرمن المدانين.. ويذكر المؤرخ التركي مصطفى أرمغان, أن السلطان عبد الحميد عفا عن المحكومين بالإعدام في محاولة اغتياله, وكانوا أحد عشر متهما, وقد انضم, بأمر السلطان, إلى الهيئة التي حاكمتهم, قضاة من الروم والأرمن واليهود, حتى لا تحوم حول عدالتها أي شبهة.

ويشير المؤرخ التركي “يلماز أوزوتا”, في هذا السياق, إلى أن حكومة الاتحاديين بعد الانقلاب على عبد الحميد, ونجاحها في استلام السلطة, أتاحت مجالا واسعا لعمل الجماعات الثورية المناهضة, وفتحت جمعيتا طاشناق وهاشناق في الأناضول شعبا لهما بصورة رسمية وعلقت لوحاتها. كما أنها سمحت بإصدار المئات من الصحف والمجلات, وباتت الشوارع تمتلئ كل يوم بالمتظاهرين.. “ولم يبق في جعبة الصحافة هراء ولغوا لم تكتبه”.

لكن حكومة الاتحاديين زادت الطين بلة, حين أصدرت عفوا عام عن أفراد العصابات, البلغار الصرب اليونان الأرمن الذين أهدروا دماء آلاف المسلمين, وأعادت مجددا كل العناصر الضارة الهاربة من الدولة العثمانية, مما شجع على زيادة الاضطرابات والفتن والقلاقل. وفي ظل تلك الأوضاع أصبح تأمين الأسلحة للحركيين أو الثوريين من الأقطار الخارجية سهلا..

وحين حاولت حكومة الاتحاديين, أن تعالج عصيان الأرمن في إيالة أضنة, 14 نيسان 1909, بطريقتها الخاصة, قام وزير الداخلية طلعت باشا, بإرسال الفريق جمال باشا واليا لإيالة أضنة, فبادر الأخير بإعلان الأحكام العرفية, وأعدم 47 تركيا, أحدهم مفتً, وأعدم أرمنيا واحدا.. دون أن يتريث في التحقيقات ومعرفة أسباب حدوث العصيان الأرمني وما حدث اثناءه. وقد ذكرت السفارة البريطانية في مراسلاتها, أنه خلال انتفاضة أضنا سنة 1909, “قام الأسقف الأرمني موشيك “بجولة في مقاطعته داعيا الناس أن من يملك معطفا عليه بيعه وشراء سلاح بثمنه”. وذكر تقرير بريطاني آخر أن “البطريرك الأرمني كان مسؤولا إلى حد كبير عن الأحداث التي وقعت”.

يعلق “تورك قايا” على أحداث أضنا بالقول: “أما أحداث أضنة عام 1909, فكانت تمرينا على حرب أهلية مصغرة بين المسلمين والأرمن, ابتدأها الأرمن واستمرت ثلاثة أيام كاملة, قبل أن تنتهي بسفك متبادل للدماء”.

ويضيف: “يزخر الأرشيف العثماني بمثل هذه المعلومات, ويعترف بها الأرمن أيضا في بعض كتاباتهم, كما رأينا قبل قليل, وكما سنرى لاحقا, ومع ذلك فقد كانت السلطات العثمانية تحاكم كلا من الأتراك والأرمن لتحدي القانون”.

يقول المؤرخ يلماز اوزوتا.. “وقد ظن الاتحاديون أنهم بهذا يقدمون نموذجا للعدالة ويضمنون بذلك إخلاص (حلفائهم) الأرمن للدولة.. إلا أنه سرعان ما بدا واضحا, أن الأقليات بعد “المشروطية” (أي العودة إلى تطبيق الدستور), لم ترتبط بالدولة على عكس ادعاء الاتحاديين بأن ذلك سيحدث فور تطبيق الديمقراطية, وأخذت الأقليات تستهزئ بشعار “اتحاد الأنصار”, (أي التآخي بين القوميات), الأمر الذي سرعان ما حدث عكسه تماما”.. وزادت إعادة الدستور حدة المشكلات القومية بدلا من تخفيفها. عندئذ ، راح الاتحاديين على التفاوض مع حزب الطاشناق الأرمني والبطريركية اليونانية لكن الأحداث المتسارعة لم تمهلهم, كما أن تجربتهم وخبرتهم السياسية القاصرة لم تسعفهم في معالجة شيء منها.

ولا ينهي المؤرخ يلماز اوزوتا حديثة عن “واقعة أضنة”, قبل أن يشير إلى أنها و “كواقعة 31 آذار في استانبول”, دبرتها وكالة الاستخبارات الإنكليزية”. ويضيف بأن الاتحاديين الذين أقاموا الشعب التركي على قدميه بهياج, أسهموا بدورهم في الإلقاء ببذور الشعور بالشك والتردد, حتى بين كافة الأقوام في الدولة العثمانية, بما في ذلك الأقوام الإسلامية نفسها”.

  • خاتمة

والواقع أن نشاطات الجمعيات الأرمنية المسلحة اتسعت كثيرا خلال السنوات التالية ولتتحول إلى تمرد كبير في إقليم وان البعيدة في شرق تركيا, في نيسان 1915, مما أشعل صراعا دمويا هائلا, وأسفر عن مذابح كبيرة وتهجير واسع النطاق, طال آلاف المسلمين الأكراد في المنطقة.

لم يكتف الأرمن العثمانيون بذلك, بل شاركوا بفاعلية, في عشر حروب أهلية وتقليدية تقريبا, وغيرها من الموجهات العسكرية الخطيرة, خلال السنوات القصيرة والمهمة, بين الأعوام 1914 و1922.

وقد انخرطت أعداد كبيرة من المقاتلين الأرمن في الحرب العالمية الأولى, كما تعترف بهذه الحقيقة الدامغة أكثر الكتابات الغربية. وشاركت إلى جانب الروس والفرنسيين, بعد انتهاء أحداث إقليم وان, في اجتياح مدن شرق الأناضول وساحل البحر الأسود, كما أن الفيلق الأرمني الذي تجاوز تعداده 10 آلاف مقاتل, شارك تمع القوات الفرنسية, في إخضاع مناطق سورية وأقاليم جنوب الأناضول, التي منحت للفرنسيين بموجب تفاهمات سايكس – بيكو, وبقيت مع الفرنسيين حتى انسحابهم من تلك المناطق نهائيا في أيلول عام 1920.

وقد أشاد قادة عسكريون روس وأوربيون غربيون بهذه الخدمات الأرمنية, وتحدثت عنها الصحافة في ذلك الحين,  بعبارات براقة.

ويرى العديد من الكتاب والمؤرخين, وخاصة الأتراك, أنه ليس من الصعب فهم أن ما يصفه الأرمن ب”خدمة” أعداء العثمانيين, هو في الوقت نفسه بالنسبة للأتراك, خيانة أدت أو أسهمت بقوة في خسارة الحرب,  والأراضي العثمانية. وإذا كان الدعم الأرمني والخدمات التي أدوها لقوات الحلفاء هو بتلك القيمة, بحيث إنه أسهم في تحديد نتيجة الحرب نفسها, وهو ما تؤكده كثير من المصادر الأرمنية نفسها, فإن مشاركتهم تلك لا تقتصر إذن على مجرد الدفاع عن النفس. وبموجب هذا كله ينبغي النظر إلى المسألة من زوايا أخرى أكثر إحاطة وواقعية وموضوعية.

في الورقة التالية (4) سنتناول مشاركة الأرمن في الحرب العالمية الأولى والظروف التي هيأت لاتخاذ قرار الترحيل وملابساته, والأحداث التي رافقت ذلك كله حتى عام 1922.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى