مقالات

أبو البيش، من التعفيش إلى التنبيش

د. زهير حنيضل

كاتب سوري
عرض مقالات الكاتب

إن كل شيء في الحياة خاضع لنظرية التطوير و التحديث , و لا يقتصر الأمر على الصناعات فحسب بل يتعداها للإنسان.
فقد تطور الإنسان _ عبر مر العصور _ من البدائي العدواني, إلى الأليف المتآلف, إلى المتنقل طلباً للكلأ و المأوى, إلى المتحضر المستوطن للقرى للمدن, إلى المبدع
المتشارك لنتاجه الحضاري مع بقية أبناء قومه من بني الإنسان.
و في الثورة السورية , لم يكن جيش النظام الأسدي بمنأى عن نظرية التطور , بل إنه قدم نظرية فريدةً من نوعها في التطور و التحديث .
بدأت بوادر التطور بالظهور مع إخلاء المدن من سكانها و تهجيرهم منها , فخلت الديار من ساكنيها, ليبقى المتاع شاهداً على بداية تطور الجيش الأسدي
فكان” التعفيش ” _ المستمر حتى يومنا هذا _ بداية المطر لا الغيث, فأبدع الجيش الأسدي في تقديم نظرية ” التعفيش ” بصور مختلفة, بدأت بسرقة المتاع
للاستخدام الشخصي, لتتطور إلى سرقة المتاع لغرض تغطية نفقات المعيشة, لتصل إلى مرحلة سرقة المتاع بغرض الاتجار.
مرت نظرية ” التعفيش ” بمراحل تكونها على مرأى و مسمع من العالم أجمع في الخارج و ” الدولة ” و مؤسساتها في الداخل السوري, دون أي اعتراض
على النظرية, بل تمت شرعنتها؛ عبر افتتاح أسواق خاصة في الساحل السوري, عرفت باسم ” أسواق السنة ” احتوت على المسروقات من متاع المنازل التي تم
تعفيشها من قبل الجيش الأسدي الهمام, و الذي لا وصف يليق به سوى ” العُفاشَة ” , و العفاشة في لغة العرب؛ هم القوم الذين لا خير فيهم .

تحولت نظرية ” التعفيش ” من فكرة إلى أمر بديهي, تكرر بكل أريحية في كل عملية احتلال للمدن فتهجير لأهاليها منها, و بات ” التعفيش “
جزءاً أساسياً من بيان إعلان النصر _ و إن هو لم يُورد في صياغة البيان _ إلا أنه جسد حالة النشوة الأسدية بالانتصار على الجدران و الكراسي و الغسالات و البرادات.
بعد ” التعفيش “, كان لابد من متابعة التطور و التحديث للجيش الأسدي في ظل اهتراء عتاده الحربي, فهو غير قابل للتحديث, إذ لا تزال طائرة التدريب العسكرية
” إل 39 ” من ضمن الطائرات التي تشكل جزءاً مهما من الأسراب المقاتلة للجيش الأسدي, بينما يمثل العسكري الأسدي أنموذجاً فريداً يغري بالعمل عليه
لنقله من حالة إبداعية إلى أخرى, و هذا ما تحقق بالفعل ؛ عبر الانتقال من ” التعفيش ” إلى ” التنبيش ” !
إن مرحلة ” التنبيش ” هي نتاج تراكمات فكرية و نفسية و عقائدية, شكلت الأسس التي ارتكزت عليها نظرية ” التنبيش ” فهي و إن كانت _ بشكل أو بآخر _
تعيد للأذهان ما كان في التاريخ من عمليات نبش للقبور بحثاً عن دفائن فيها, إلا أنها _ هذه المرة _ جاءت بحثاً عن النشوة من جهة و لتأكيد حالة الانفصام الإنساني
التي تسود عناصر الجيش الأسدي, الذين قدموا للعالم أبشع صورة ممكنة عن عدم احترام البديهيات الإنسانية, فأن تنتقم من الأحياء, هو أمر يحدث في كل مكان
و حين, لكن الانتقام من الأموات بنبش قبورهم و استخراج جماجمهم و احتساء المشروبات المسكرة بجوارها؛ لهو أمر يفوق قدرة العقل البشري على التصور.
و جاءت حادثة نبش قبر الخليفة الأموي الجليل عمر بن عبد العزيز, لتؤكد على رسوخ نظرية ” التنبيش ” كخصلة متأصلة في نفوس طغاة الزمان الذين ينتسبون للإنسانية
زوراً و بهتانا, و لربما غاب عن أذهاب ” النابشين ” أن الخليفة عمر بن عبد العزيز يختلف عن ملوك كسرى الذين كانوا يكدسون الذهب في مدافنهم, فقد توفي الخليفة
عمر بن عبد العزيز إلى ربه و هو لا يملك ما يورثه لأبنائه, فقد عاش زاهداً في الدنيا و متاعها, راجياً لقاء ربه بصورة حسنة و عمل حسن يشفعان له يوم الحساب, كما غاب
عن أذهان ” النابشين ” أن روح الخليفة الطاهرة في سماء وسيعة بحفظ الخالق, و ما ضرها نبش قبر احتوى جسداً سكنته ذات حياة على الأرض.
لا ندري ما الذي يخبئه لنا ” أبو البيش ” بعد نظريتي ” التعفيش ” و ” التنبيش ” و لسان حاله يقول :
” لسنا الوحيدين لكننا الأسوأ” .
و لأني من عشاق الشعر ؛ فلا مفر من أن أختم هذه المقامة ببيت شعرٍ أقرضه فأنشد :
الخمرُ و النهبُ و التعفيشُ ديدنهم
و الظلمُ و القتلُ و التنبيش مُعتَقَدُ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى