مقالات

عيديّة جدتي

محمد الفضلي

كاتب وأديب سوري
عرض مقالات الكاتب

كان لي جدةٌ ذاتُ وجهٍ نورانيّ إيماني، كل من يراها يقول عنها:
“أنها من أولياءِ الله الصالحين”.
وذلك لكثرة تعلقها بالدين، وطقوسه، فما كنت تَراها إلا قائمةً تصلي، أو أمامها القرآن تتمعن آياته بنظارتها المذهبة العتيقة، ومابين هذا، وذاك … تراها تلهج بذكر الله، والاستغفار، والدعاء.
في العيد، وعندما كنت طفلاً صغيراً …زرت بيت جدتي، طمعاً بالحصول على نقود، فيما يعرف لدينا “بالعيدية” التي تُعطيها لكلّ طفل يزورها، بعد أن يقبّل يدها، ويتمنى لها الصحة، والسعادة.
حينما تحملق الأطفال أقاربي حولها يأخذون العيدية، والتي كانت عبارةً عن بضع ليرات سورية قليلة…انزويت بعيداً، لحين انتهاء التوزيع، آملاً بمبلغ أكبر من أقراني.
لكن وبعد أن انفض الجميع، وأخذوا عيدياتهم، وطاروا فرحاً لساحات العيد لينفقوها ..اقتربت من جدتي أُقبّل وجنتي خديهاكون والدي رحمه الله حرّم علينا تقبيل الأياديوبعد أن قبلتني.. قالت لي:
“سامحني ياولدي العزيز، فلم يبقِ لي الأطفال أي ليرة سورية واحدة، ولكني سأدعو الله لك:
يارب يسترك يا محمد في الدنيا، والآخرة، ويبعد عنك الحُكّام، والظُلاّم، وأوﻻد الحرام”.

فخرجت من عندها مقهوراً، وقلبي يعتصر من الألم، وأشتم خطتي الفاشلة، وحظيّ التعس، فما يفعل طفلٌ بدعاءٍ لا يستطيع انفاقه على الألعاب، والمرح، والطعام، والشراب؟!
بعد ذلك بسنوات…شاهدتُ كيف توفيت جدتي، وهي ساجدةً في صلاتها!!
كم تألمت كثيراً لوفاتها، وحزنت على فراقها أيما حزن.
وخلال سني عمري، وما مرّ بيّ من أهوالٍ، وأحداث…
كانت تلك الدعوى تنتشلني من كل مصيبة أقع بها، وﻻيعلم إﻻ الله بها.
وكنت أسأل نفسي دائماً:
هل كانت عيدية جدتي لي حقاً… أكثر من الجميع؟!

اليوم لا ينفع مع السوريين في بلاد النظام…
لا دعاءٌ، ولا حتى كل مدخراتهم، ومابقي لهم من نقود.
إنهم ينتظرون أياماً سوداء قاحلة لا تبقي، ولا تذر.
لو أرادوا حقا أن تدعم الليرة، لفعلوا مافعل الأتراك حينما صرّفوا مدخراتهم من الدولار، والعملة الصعبة، واستبدلوها بالليرة التركية، فانخفض الدولار من مايقرب ٨ ليرات، حتى ٤ ليرات، ولقد شهدت ذلك بأم عيني، كيف تداعى الشعب التركي بشيبهم وشبابهم، رجالهم ونساؤهم، لينقذوا بلادهم من كارثة اقتصادية كانت تطبخ لهم في مطابخ أعدائهم.
لكن الشعب السوري اليوم في بلاد النظام لايملك شيئاً:
لا مال، لا عملة صعبة،
لا انتماء، لا شعور بالمسؤولية تجاه الوطن المشوّه، ولا حتى كرامة ليثور.
وكل ذلك بفضل هذا النظام الطائفي المتوحش، الذي فعل مافعل ببلادنا، وقتل كل جزء من انتماء لهذا الشعب السوري لوطنه، وقتل حتى أحلامهم، وأوهامهم، ومحى هويتهم، وجعلهم كالغرقى في بحر “لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ”، الواحد فيهم يبحث عن انقاذ نفسه إن استطاع.

رحم الله جدتي، وجدادتكم جميعاً، ورحم الله شعبنا في كل مكان،
“وأبعد عنكم الحُكّام، والظُلاّم، وأولاد الحرام”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى