مقالات

الغرب والأنظمة المتوحّشة في الشّرق الأوسط

يوسف الحمود

كاتب وباحث سوري
عرض مقالات الكاتب

تشهد منطقة الشّرق الأوسط تحوّلات وانزياحات هائلة بسبب صراع المصالح والاستقطابات الدّوليّة وخاصّةً بعد عصر ثورات الرّبيع العربيّ، وما أفرزته هذه الثّورات والأحداث من تداعيات وتغيّرات في المشهد الجيوسياسيّ والجيوبولوتيكيّ والدّيموغرافيّ في كثير من الدّول العربيّة الّتي أفرزت انقسامات مجتمعيّة وسّياسيّة من جهة وصراعات مع الأنظمة الانقلابيّة وداعميها من جهة أخرى ممّا جعل التّشظيّ والاحتراب والاقتتال هو السّمة الغالبة على المشهد السّياسيّ والعسكريّ في أغلب بلدان الرّبيع العربيّ، وهذا أفضى إلى تقسيم المشهد إلى فريقين؛ فريق الثّورات والدّول الدّاعمة للتّحوّلات الدّيمقراطيّة ومن أهمها قطر وتركيّا، وفريق الانقلابات والشّموليّات المطلقة كمصر والإمارات والسّعوديّة وغيرها من الدّول العسكرتاريّة، ممّا جعل هذا الانشطار أهم معالم ومظاهر المرحلة الحالية في كلّ صراعاتها واستقطاباتها العبثيّة الشّرسة بين الفرقاء والخصوم.

وممّا زاد في حالة التّفتت والنّزاع هو الدّعم الغربيّ الأوربيّ الأمريكيّ المباشر للجبهة الانقلابيّة ونماذجها التوليتاريّة الشّموليّة مقابل المصالح الحيويّة الاقتصاديّة والسّياسيّة لهذه الدّول فزادت مساحة النّزاع واستطار الصّراع بشكلٍ غير مسبوق منذ الاستعمار الحديث في العالم العربيّ وعموم الشّرق الأوسط، وأصبحت المنطقة بؤراً مفتوحةً للصّراعات العنيفة والحروب المشتعلة، وأصبحت الصّراعات الأعلى والأكثر دمويّة إذ استحوذت على مرتبة أعنف ثمانية صراعات من بين أكبر عشرة صراعات على مستوى العالم.

واكتسبت هذه الصّراعات أنماطاً جديدة من التّدخلات والقوى الإقليميّة وأشكالاً نزاعيّة مختلفة على مستوى اللّاعبين الإقليمييّن والدّوليّين أكثر تعقيداً وشراسةً لإثبات الهويّات والاستراتيجيّات للقوى الإقليميّة الناشئة في المسرح الدّوليّ الجديد، ممّا عقّد المشهد إلى حالةٍ كارثيّة من أنواع الحروب؛ حروب إقليميّة مفتوحة كما في تدخّل السّعوديّة والإمارات وإيران في اليمن، وحروب بالوكالة كما بين الأطراف الإقليميّة والدّوليّة كما في سوريا وليبيا، وحروب إثنيّة وطائفيّة وإيديولوجيّة كما بين المتقاتلين والمتنازعين في مساحات الصّراع المتعدّدة، في ظل تعثّر كلّ التّسويات والخيارات السّلميّة والسّياسيّة والدّبلوماسيّة في المنطقة، ومن المرجّح أن تشهد الحروب والصّراعات مزيداً من التّوتّر والصّدام وتوسّع أنماط الحروب في اتّجاهات وبؤر جديدة قد تكون مختبرات عسكريّة ساخنة لتجربة القوّة والأسلحة النّوعيّة بما يزيد الصّراع والنّزاع الغربيّ والأمريكيّ والرّوسيّ والإقليميّ توقّداً واشتعالاً، وهذا ما أنتج مقولة عقيدة عسكريّة جديد تسمّى ” الجيل الرّابع أو الخامس من الحروب “، وهي سلسلة من التّكتيكات والإستراتيجيّات تهدف إلى تمزيق وتدمير المنطقة عسكريّاً وسياسيّاً وديموغرافيّاً واجتماعيّاً لأجل إعادة تركيبها وترتيبها والتّحكّم بمآلات الصّراع فيها وحصد أهداف وغايات إستراتيجيّة واقتصاديّة وعسكريّة طويلة المدى.

وربّما هذا ما يجعل الغرب شديد الميل للدّكتاتوريّات والأوتوقراطيّات الحديثة كالسيّسيّ في مصر وابن سلمان في السّعوديّة وابن زايد في الإمارات وحتّى بشار الأسد الّذي كان يمثّل خياراً مقبولاً بالنسبة للغرب رغم جرائمه ضدّ الإنسانيّة وجرائم الحربّ والهولوكوست المرعب في سوريا.

إنّ اختيار العسكرتاريّات والملكيّات المطلقة كحلفاء إستراتيجيّين أسقط اعتبار كلّ القيم الإنسانيّة والحقوقيّة الّتي ينادي بها الغرب، ووضع مقولات الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان وحقّ الشّعوب في تقرير مصيرها واختيار حكوماتها تحت اختبار مكذوب وبراغماتيّ وانتهازيّ ومتوحّش لا يقلّ عن توحّش الأنظمة القمعيّة العربيّة ذاتها، و أصبح احتضان الغرب لحفتر مجرم الحرب، وللسيسيّ الطّاغوت الانقلابيّ، ولوليّ العهد السّعوديّ السّفاح، وكذلك وليّ عهد الإمارات المتعطّش للجرائم والدّماء ظاهرة واضحة في المشهد السّياسيّ الدّوليّ، ولم تكتفِ الإدارات الغربيّة بدعم وتأييد السّفاحين والقتلة ومجرمي الحرب بل أصبحت شخصيّات غربيّة رفيعة تقدّم الاستشارات السّياسيّة والعسكريّة والخبراتيّة والمعلوماتيّة لهؤلاء كرئيس الوزراء البريطانيّ السّابق ” توني بلير ” الّذي كشفت صحيفة الصّاندي تلغراف طبيعة علاقاته الاستشاريّة بوليّ العهد السّعوديّ وكذلك الإماراتيّ، بل إنّ الإمارات تدفع نفقات استشارات يقدّمها تونيّ بلير للرئيس المصريّ عبد الفتاح السّيسيّ، ومن قبل كان بلير مستشاراً للقذّافي مقابل ملايين الدّولارات، ولم يقتصر الأمر على ظاهرة فرديّة تتمثّل في بلير بل إنّ صهر الرئيس الأمريكيّ كوشنر قدّم استشارات لوليّ العهد السّعوديّ في كيفيّة التّغلّب على الوضع القّائم بعد مقتل ” خاشقجي ” كما نقلت ذلك صحيفة ” الدّيلي تلغراف ” مقابل صفقات ومصالح ماليّة واقتصاديّة بين الطّرفين، وكذلك نقلت بعض التّسريبات أنّ الأزمة النّفطيّة بين السّعوديّة وروسيا  تمّت بعد استشارات مع كوشنر ممّا أدى بالنتيجة إلى انهيارات اقتصاديّة هائلة أضرّت بالاقتصاد السّعوديّ واقتصادات المنطقة العربيّة والعالم.

ولا يمكن اعتبار هذه المواقف هي صفقات شخصيّة وفرديّة بل انحياز منهجيّ سياسيّ واضح كما هو شأن الدّعم والإسناد الفرنسيّ لحفتر في ليبيا رغم كلّ قرارات واعترافات الشّرعيّة الدّوليّة بحكومة الوفاق، بل إنّ الغرب سكت وبارك دعم الاستبداد والعسكرة  لخليفة حفتر بشكل واضح وفاضح.

  ولم يكن دعم الغرب لهذه الأنظمة حالةً تكتيكيّة أو عابرة بل هي خيارات إستراتيجيّة محسوبة من خلال طبيعة الصّراع وضرورة الاصطفاف الأمريكيّ إلى جانب محور الشّر والانقلاب العربيّ، وهذا ما أكّده السيناتور ماركو روبو عضو لجنة العلاقات الخارجيّة في مجلس الشّيوخ في قوله: ” لا يمكننا أن نكون أمّة تدير وجهها إلى الجهة المقابلة عندما يقوم أحد حلفائنا بأمر مروّع، كما أنّه ليس من مصلحتنا الوطنيّة الدّفاع عن حقوق الإنسان “.

إنّ المشهد السّياسيّ يعطينا مؤشّرات مفزعة وقرارت خطيرة لمستقبل الثّورات والحريّات والدّيمقراطيّات ومشاريع التّحوّل المجتمعي في البلدان العربيّة والشّرق أوسطيّة من خلال تحالف وتواطؤ خطير لهذه الثّنائيّة والإزدواجيّة النّفاقيّة عند الغربيّين الّتي تعطي دافعاً مؤازراً للتّوحّش الدّكتاتوريّ في الشّرق الأوسط، وسيكون الرّابح فيه تكتيكيّاً على المدى القريب هو الأنظمة الشّموليّة الكليّانيّة وحليفها الغربيّ، والرّابح الإستراتيجيّ النّهائيّ هو الشّعوب والثّورات المجتمعيّة إذا عملت على هيكلة إستراتيجيّات ذاتيّة مقاومة بروح جمعيّة واعيّة لسنن التّاريخ والواقع، ومدركة لطبيعة التّحولات الدّيمقراطيّة في صيرورة المجتمع الإنسانيّ.   

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى