مقالات

إح، إنو، يعني..

محمد الفضلي

كاتب وأديب سوري
عرض مقالات الكاتب

كنت وكأي سوري، شاباً كان أو كهلاً، طفلاً أو شيخاً، رجلاً أو امرأة، ككل السوريين عدا الحكومة والنظام، كان لدينا هيامٌ وأعجابٌ بالرئيس الراحل صدام حسين، وما يصدر عنه من أقوالٍ وتحدٍ للغرب.
ربما هو هروبنا من واقعنا، وبحثنا عن قائدٍ مختلف عما نراه من قادتنا، الذين يبيعونا شعارات فارغة ومحاضرات، نقضي معظم وقتنا ونحن نصارع النعاس معها، ورغم دعارة الفكر القومي البعثي الذي غرز أظفاره بكل مفصل من مفاصلنا، إلا أننا كنا نعلق الآمال على ما تبقى من كرامتنا المتمثلة في نظرنا، بشخصية الرئيس الراحل صدام حسينكان هذا الفكر هو السائد في سوريا ذلك الوقت.
كنا نتغنى بعلوج الصحاف، ونرقص على أنغام خطابات صدام الحماسية، التي ﻻ ترسم سوى النصر في “أم قصر”، الميناء العراقي الشهير، كنا حتى في بكائنا وعزائنا، تملؤنا الحماسة المنقطع نظيرها، لم نكن نرى من العراق سوى صدام، وصدام هو العراق!،
تعاطفٌ غريبٌ مع بعثيٍ وديكتاتورٍ آخر، من بلد يرزح تحت حكم البعث والديكتاتورية ويمقتهما، ما أسوأ بؤسنا كشعوبٍ مقهورةٍ تتعلق بكل خيطٍ رفيعٍ، ولو كان مجرد دخان!!

فجأةً، انهار كل شيءٍ في نيسان عام 2003، كنت أشعر لكأن قلبي انخلع من صدري، وﻷن ملاذي الوحيد والدي رحمه الله، الذي كان صديقي ورفيق دربي، بحثت عنه، حتى وجدته مطبقًا على نفسه في إحدى غرف منزلنا، ربما ولغيابي عن نفسي لم ألحظ وجوده بادئ الأمر في تلك الغرفة، حيث كان متدثرًا
بغطاء، نظرت إليه نظرة المقهور العاجز المحطم، كانت ملامحه ﻻ تختلف عن ملامحي كثيرًا، ولكن وكمربٍ ومنقذ، وكخيمةٍ لبدويٍّ في الصحراء، قابلني بابتسامة الوالد اﻷمل، ودون أن أنبس ببنت شفة قال لي:
“امشي معي نتدرج بالطريق”.
خرجنا من منزلنا الذي يقع وسط المدينة التي نعيش فيها، خرجنا ﻻ نلوي على شيء، خرجنا نبحث عن تغيير لون الكآبة والقهر اللذين نعيشهما، نتفرس في وجوه الناس الصامتة كصمتنا، ولغة ﻻ تشبه إﻻ وجوهنا المقيتة، وعلى بعد حوالي خمسين متراً من منزلنا، توقفنا أمام محل لبيع “البوظة”، يملكه جارنا المدعو (أبو خاطر)، أبسط إنسان تقابله في حياتك، تصل به البساطة إلى حدّ السذاجة، أنا ﻻ أعرف سبب تسميته بأبي خاطر مع أن ابنه الأكبر يدعى محمد، و أبو خاطر معروف للجميع ب (إح، إنو، يعني ) ﻷنه يُتأتأ ويُكرر هذه الجملة التي لا معنى لها ليستأنف حديثه، توقفنا أمام دكان أبي خاطر ودار بيننا الحديث التالي:
-كيف حالك أبا خاطر.
-إح، إنو، يعني.. أهلاً جار.
الكآبة ذاتها تعلو وجه أبي خاطر، فقال له والدي:
-أبو خاطر، يقولون سقطت بغداد؟!

إح، إنو، يعني.. العراق أبونا،
و إح، إنو، يعني.. مصر أمنا،
إح، إنو، يعني.. نحن أوﻻدهم،
وإح، إنو، يعني.. أبونا مات، وأمنا عاهرة،
إح، إنو، يعني.. هؤلاء الأولاد لن يطول بهم الزمن حتى يَفْلِتوا في الطريق، منهم من سيشبه أباه ومنهم من سيشبه أمه، إح، إنو، يعني… راحت علينا.
نظرت إلى والدي المبتسم ونظر إلي، ثم ضحكنا لدرجة البكاء، نظر إلينا أبو خاطر الذي كان يتكلم بجديةٍ واضحة ، و كعدوى الضحك شاركنا ضحكتنا، ونحن جميعًا لم نعرف لماذا ضحكنا؟!!
قلت لوالدي المرحوم : لقد اختصر القضية، جارنا أبي خاطر، ولم يعد هنالك داع لنبحث عن سبب ما جرى.
ثم عدنا أدراجنا نتلحف الصبر، وندعو الله أن يكشف الغمة.

بعد سنواتنا العجاف التالية، وحتى اليوم، يجول في خاطري سؤال واحد:
هل كان جاري العزيز (أبوخاطر) هو المخطط الاستراتيجي لما حدث، ويحدث في هذا العالم العربي المتخم بالبؤس ؟!!
ويا رب رحمتك…
أين ذلك الملجأ الذي أسير برفقته، وأشاطره قهري..والدي رحمه الله؟!!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى