مقالات

كيف يتكون الوعي الزائف؟

د. صابر جيدوري

أكاديمي وباحث سوري.
عرض مقالات الكاتب

     في كتابه “الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر” يرى محمود أمين العالم “أن الوعي الزائف هو ذلك الوعي الخاص الذي تُعبِّر من خلاله السلطة عن مصالحها، وأنه الوسيلة النظرية الأساسية التي تنعكس المصالح الطبقية فيها ومن خلالها”. وفي السياق ذاته يطلق “كارل ماركس” في كتابه “الأيديولوجية الألمانية” مصطلح “الوعي الزائف” على الظاهرة التي تنطلق من الأيديولوجيا، وهي تعمل على تشويه الحقائق وتزييفها بقصد تبرير موقف السلطة. مع ملحوظة أن هذا التعبير النقدي جاء بسبب رغبة ماركس في تفنيد مثالية “هيغل” التي تجعل البشر أدوات في أيدي التاريخ.

     ولكن إذا كان حديث “العالم” و”ماركس” عن الوعي الزائف قد تناول ما تقوم به السُلط من تزييف لوعي الناس، بقصد توجيههم نحو ما تريده هذه السلطة أو تلك، فإن الوعي يتم تزييفه أيضاً بطرق عديدة منها على سبيل المثال النفاق الاجتماعي، الذي نعيشه على صفحات التواصل الاجتماعي، كأن يكتب أحدهم قصيدة شعر ضعيفة هزيلة لا تمت إلى الشعر بصلة، ثم تنهال عليه التعليقات لتصوره لنا أنه المتنبي إلا قليلا. هنا يكون تزييف الوعي قد تم باتجاهين: تزييف وعي الجمهور واقناعه أن من كتب القصيدة شاعر لا يُشق له غبار من جهة، وتزييف وعي الشاعر نفسه الذي صدق أنه شاعر، بل ظن أنه من فحول الشعراء. وما زلت أذكر كيف لامني الدكتور عبد الحق الهواس عندما نقلت قصيدة لأحدهم وعلق قائلاً: هل ما نقلته تحسبه شعراً؟ مما اضطرني إلى حذف ما نشرته لمعرفتي أن الدكتور الهواس لم يقل ذلك إلا لأنه رصد بحسه الشعري، وثقافته الموسوعية هزالة ما نشرته على صفحتي.

    وما ينطبق على الشاعر ينطبق على الرسام والفنان والأكاديمي، فليس كل من رسم لوحة أصبح فناناً، ولا كل من ألف كتاباً أصبح مؤلفاً، ولا كل من خبزت خبزاً يؤكل خبزها، ولهذا نجد أن صور تزييف الوعي كثيرة ومتعددة، حيث نتج عنها الكثير من مشاهد البؤس في حياتنا الثقافية المثيرة، التي انحدرت بمستوى وعي الإنسان العربي في طرحه للقضايا الكبرى.

     والمدقق في الأسئلة التي طرحها عصر التنوير مع ما نطرحه من أسئلة وقضايا على صفحاتنا في فيس بوك، يدرك حجم الكارثة التي نحن فيها. فما زال الإنسان العربي يطرح قضايا ساذجة لا معنى فيها ولا دلالة، مثل طرحنا لزواج المسيار أو المسفار أو المتعة، التي أدى الاختلاف فيها إلى تشتيت وعي الإنسان العربي، وتغييب عقله عن مناقشة القضايا الكبرى. وهذا ما عبر عنه الشاعر بقوله:

أجـــاز الشـــافــعي فعــال شـيء … وقـــال أبــو حــنيــفــة لا يـجــوز

فـضَل الشيــب والشبان مــــــنا … ولا اهتدت الـفتاة ولا الـعــجوز

     بهذه الطريقة التي يُزيف فيها وعي الإنسان العربي تحت تأثير الثقافة التقليدية، وتأثير من تمثلها، وتأثير ما تحتويه من شعر ونثر وغير ذلك، تم اختطاف وعي الإنسان وتشويه أرادته واغتصابها، تلك الثقافة التقليدية التي تتصف بالعجز، وتضع وعي الإنسان العربي في حالة سلبية دائمة، وغيبوبة نقدية فائقة الوصف، حيث أصبح يتميز الإنسان بالسلبية والدونية والعجز والانغلاق والتعصب.

     وفي جميع الحالات لا يجد الإنسان العربي في الثقافة التقليدية ما يُشبع نهمه إلى المعرفة، ويرتقي بوعيه لكسر طوق العزلة، التي تفرضها عليه سياسة نشر الجهل، التي تنتهجها بعض أنظمة الاستبداد، وكلاب الحراسة التي تعمل معها، مع التأكيد أن ما يطبع هذه الثقافة بهذا الطابع السلبي، إنما هو عوامل تتجاوز نطاق الميدان الثقافي، إلى الميدان السياسي والأوضاع الاجتماعية، التي تعمل على تزييف الوعي. وبخاصة في الحالة السورية التي نعيشها الآن، حيث أصبح الإنسان السوري يدرك فقط الأشياء التي تتصل بحياته المباشرة، ولا يصل إلى إدراك الإطار العام الكبير الذي يتحكم فيه أو يسببه، مما يضطر بعض الناس إلى استباحة الكذب والتحايل والخداع والنفاق، وغير ذلك مما يساعد على تزييف وعي الناس في مرحلة الاستبداد، فضلاً عن المفاهيم والمعتقدات الخاطئة، وبخاصة إذا كانت تتصل بأشخاص نحتوا نجاحاتهم على صخور يصعب اقتلاعها.

     أختم مقالي هذا بالتأكيد على أهمية تحرير وعي الإنسان من الأوهام المتعالية التي تحجب عنه الواقع العياني، وتضع روحه في عالم الظلمة؛ وتجعله غريبًا عن حياته الحقيقية. ولن يتم ذلك بطبيعة الحال إلا بفعل تربوي تنويري يسعى إلى رفع الغطاء الذي زيف وعي الإنسان بحقيقة نفسه، وما يحيط به من حقائق في واقعه الاجتماعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى