مقالات

دعوة للحوار “حتى لا تكون فتنة”

مجدي شلش

أستاذ أصول الفقه المساعد بجامعة الأزهر الشريف
عرض مقالات الكاتب

لفظ الفتنة إذا نسب لله كان بمعنى الابتلاء والاختبار، وليس بالضرورة أن يكون بالشر، فالفتنة كما تكون منه بالشر تكون بالخير، كما قال سبحانه: “ونبلوكم بالشر والخير فتنة” وأما إن كان من الإنسان فهو بمعنى الإثم والشرك والكفر والضلال والحيرة والبلبلة والاضطراب، وشواهد ذلك في القرآن الكريم لا تخفى على القارئ المبتدئ.

المقال ينحو للمعنى الثاني، ويرجع سبب الحيرة والبلبلة والتراجع الحضاري للأمة لفعل الإنسان الذي لم ينضبط بدين وخلق وقيم شرعها الإسلام الحنيف، ولا ينكر عاقل الآن مدى الحيرة والقلق الذي يعيشه المسلمون، بل الكوكب كله جراء ما صنعت يد الإنسان، أما المسلمون فلتركهم مصدر المنعة والقوة والعزة، وبقية العالم لخروجه عن الفطرة السليمة التي فطره الله الناس عليها.

الخروج من الفتنة التي بمعنى الحيرة فيما آلت إليه أمور المسلمين يقتضي الحوار والتفاهم حول أسباب الوقوع في هذه الحيرة والقلق والاضطراب، ثم بيان كيفية الخروج من هذه الفتنة التي عمت وطغت، ومادة الحوار أراها تبدأ بالآتي:

أولا: بيان الحكم الشرعي المنضبط في أنظمة الحكم التي تتحاكم إلى غير شريعة الله سبحانه، وتجمع مع ذلك موالاة الكفار، والتماهي بل تنفيذ مخططاتهم، وعلى رأسها: ١- الصد عن سبيل الله بكل قوة وعنف.
٢- قلب الحقائق، وتدليس المفاهيم، وإلباس الباطل ثوب الحق.
٣- إغراق العالم في الملذات والشهوات، حتى لا يفيق من سكر المادة والمتعة.

اختلف العلماء في هذا الأمر اختلافا كبيرا، طرفاه يبدأ بالتكفير، والآخر بالتعايش والمسالمة الكاملة كأنه يعيش في دولة الخلافة الأموية أو العباسية، الناس في حيرة من هذين الطرفين، ولكل وجهة وشبهة دليل، ومن هنا تأتي الفتنة والحيرة والبلبلة والاضطراب في التصور، ويتبعه بالضرورة فساد المعالجة، هذه القضية أصبح الفصل فيها بنظر أهل العلم الثقات يخرج من الفتنة، وتأتي أهمية النظر في هذه النازلة ما صاحبها من انقلاب عسكري بغيض، دمر الأخضر واليابس من البشر وكل مفردات الحياة الحيوية، السكوت عن البيان والمدارسة والحوار حول هذه المسألة والانشغال بغيرها بالفعل يوقع في الحيرة والفتنة التي حذرنا منها القرآن الكريم بقوله: “حتى لا تكون فتنة”.

ثانيا: الحوار حول قضية العقيدة، ببيان المطلوب من المسلم العادي والمتوسط والعالم في الإيمان بالله تعالى، والإيمان برسله وكتبه وملائكته والقدر واليوم الآخر، فقد انشغل فريق من المسلمين بكثير من قضايا الإيمان بالله سبحانه وتعالى فأحدث الفتنة والقلق والاضطراب بين الناس، وعلى رأسها قضية الولاء والبراء، وصفات الله سبحانه وتعالى، تعصبوا لطريقة معينة، فشغلوا الناس عن صلب وحقيقة الإيمان بالله ومدى تحقق ثماره إذا أثمر وأينع في قلب المؤمن، هذه القضية تحتاج إلى نظر أهل العلم، الذين يوميزون بين الأصل والفرع، وما يقبل الخلاف وما لا يقبل، وترك ذلك لأهواء بعض المنتسبين إلى العلم يوقع العوام في الفتنة والحيرة والقلق.

ثالثا: الحوار حول الدولة في الإسلام من حيث الأسس والمفاهيم والشكل والآليات، هذا الموضوع ما زال الكلام فيه غير مشبع، والتصورات فيه رؤى فردية، وهو أحد مطاعن الجهلاء وكثير من العوام والأعداء، فوضع النقط على الحروف في شكل دستور أو مواد قانونية واضحة الفلسفة، بينة الحكمة، جلية المقصد، أصبح من الضروري الذي يبعد الفتنة عن كثير من المسلمين، ويكون حجة أمام الجهلاء والطاعنين، قراءة هذا الملف قراءة علمية في إطار ضوابط القرآن والسنة والواقع الذي نعيشه من أكبر الأسباب التي ترفع الفتنة وتحجمها إن لم تقض عليها.

رابعا: حوار قوي وجاد حول أهمية تشكيل وبناء محور إسلامي وعربي كبير بين أبناء الدول الإسلامية والعربية، الأمة الآن تحت خط نار الصهاينة ومن لف حولهم ودار في فلكهم، وهذه من أكبر أسباب الفتنة التي توقع الناس في الحيرة والقلق والاضطراب، الناس يتساءلون لماذا تقدم أهل الكفر والفسوق على أهل الإيمان والإسلام، الناس في حيرة من جعل الكفار سبيلا على أهل الإيمان والإسلام، سبيلا في البر والبحر والجو، الخروج من هذه الفتنة بدايته ببيان الحكم الشرعي المنضبط في أهمية وضرورة تشكيل محور إسلامي كبير يكون عنوانا للقيم الحضارية التي دعا إليها الإسلام، ورباطا وثيقا بين أهل الإيمان والإسلام، محور يدافع عن المظلوم أينما وجد، وينشد العدالة لكل البشر، ما زال الكلام في هذه القضية لم يأخذ حظه من أهل النظر والفكر، والخروج بتوصيات أو قرارات أو غير ذلك، تكون نبراسا وهدى لتكوين هذا المحور من الناحية الشرعية والواقعية.

خامسا: حوار حول بناء الإنسان بناء يليق بتكريم الله له، وتسخير الكون تحت خدمته، الإنسان المسلم خصوصا يعيش حالة من القلق والتوتر والخوف جراء بنيته المعرفية الضحلة، والثقافية المحدودة، والصحية والنفسية المريضة، بعض أبناء العالم العربي والإسلامي يعيش في محنة الغباء العقلي، والتردي النفسي والصحي من منظومة العفن العلمي والتعليمي والخدمي الذي يقدم له، خارت عزيمة كثير من المسلمين بسبب الضعف العلمي والمعرفي الإسلامي والإنساني، أدى ذلك إلى الحيرة والقلق والاضطراب، ومن هنا يأتي أهمية الحوار حول قضايا التعليم والصحة والبنية المتكاملة لإنسان نظيف العقل والقلب والجوارح.

سادسا: الحوار حول قضية المال والثروة، حيث قوام الحياة، أشكال التعامل مع المال في العصر الحديث تنوعت، بعضها واضح المعالم، وكثير منها خفي المنبع والأصل، لا تعرف له أصل من فصل، فتنة أوقعت الكثير في الحيرة والقلق والاضطراب، حيث المال إما أن يأتي من حل أو غير ذلك، وهو موطن السؤال يوم القيامة، فيم اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ ومن هنا تأتي أهمية الحوار الجاد حول قضاياه الملحة، والتي يترتب عليها بنيان لأمة أو هدمها فوق رؤوس أبنائها، الحل عند أهل العلم والنظر والذكر، بوضع ضوابط لتدواله، وحرية اكتسابه، وطريقة التصرف فيه، ما زال هذا الجانب يحتاج إلى كثير بحث ونظر، صحيح فيه دراسات وأبحاث كثيرة، لكنها تحتاج إلى بلورة في صورة مشروع حضاري صالح ومصلح لعصرنا الحالي.

لاشك هناك قضايا أخرى قد تكون في أهمية ما سبق طرحه من قضايا، أو تزيد، لكن تعالوا نتحاور فيما سبق، نضع الأساس والإطار والتأصيل، ونصوغ مشروعا حضاريا يليق بأمة أنزل لها القرآن، وأكرمها الله سبحانه وتعالى بسيد الرسل والأنبياء، ولها تاريخ مجيد، أمة فيها من الخير والبركة في كل سبيل وطريق، لكنها تحتاج إلى مشروع تأصيلي تفصيلي لكل جوانب الحياة، لا نبتعد فيه عن الماضي التليد، ولا نتحجر تحته، نحن أحوج إلى فقه جديد لمرحلة جديدة من عمر هذه الأمة المجيدة، ” إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى