مقالات

فاطمة الجيوشي وفلسفة التربية والعبد الفقير لله

د. صابر جيدوري

أكاديمي وباحث سوري.
عرض مقالات الكاتب

     أودّ الإشارة بداية إلى أنني لم أتأثر بأي معلم ممن علموني في مرحلة التعليم العام، باستثناء مدرس الفلسفة في المرحلة الثانوية الأستاذ صبحي جباوي رحمه الله، الشيوعي المحترم الذي كان يتمتع بثقافة متميزة، فضلاً عن كونه مدرساً مبدعاً لمادة الفلسفة. ثم انتقلت إلى المرحلة الجامعية، وتحديداً إلى كلية الآداب قسم الفلسفة الذي كان يضم خيرة المفكرين والفلاسفة العرب أمثال: بديع الكسم، ونايف بلوز، وعادل العوا، وصادق جلال العظم، وطيب تيزيني، واحمد برقاوي، وقد كنت معجباً بهم جميعاً، بل أستطيع القول: إنه لم ينتسب طالب إلى قسم الفلسفة في بداية الثمانينيات وحتى أواخرها إلا وقد تأثر بأحد هؤلاء الأساتذة إذا لم يكن جميعهم.

     في عام 1987 عُينت معيداً في كلية التربية على اختصاص (فلسفة التربية) بعد أن حصلت على الدبلوم التربوي، وبعد أن استلمت قرار التعيين ذهبت إلى الكلية التي لم أدخلها من قبل رغم مروري الدائم من أمامها خلال سنوات دراستي في كلية الآداب، فضلاً عن أنني لا أعرف عن اختصاصاتها شيئاً، ولا أعرف أي اسم من اسماء أعضاء هيئة التدريس فيها، وعند وصولي اتجهت إلى مكتب العميد، الذي كان يومها الأستاذ الدكتور محمود السيد، والذي أصبح فيما بعد مديراً لإدارة التربية في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في تونس، ثم وزيراً للتربية، وبعد ذلك وزيراً للثقافة. سلمته القرار ورحب بي وقال: في غرفة خاصة للمعيدين حاول أن تجد لك مكاناً فيها.

     خرجت من مكتب العميد ابحث عن غرفة المعيدين، وبعد وصولي للغرفة وجدت صبية جميلة ولطيفة، عرفتها على نفسي ثم عرفت عن نفسها، وقالت: إنها معيدة في الكلية من السنة السابقة، ثم طلبت لي فنجاناً من القهوة، وبدأت تحدثني عن كلية التربية كونها متخرجة منها، وقالت: من حسن حظك أن علاقتك ستكون مع الدكتورة “فاطمة الجيوشي” أستاذة فلسفة التربية ورئيسة قسم أصول التربية في الكلية. شربت القهوة ثم استأذنتها وتوجهت إلى مكتب الدكتورة الجيوشي، فعرفتها على نفسي، وقلت لها: اليوم استلمت قرار تعيني وحضرت لأضع نفسي تحت تصرف القسم، فطلبت من الجلوس بجوارها ورحبت بي وهللت ثم سألتني: هل تعرف أخي صابر شيئاً عن فلسفة التربية؟ ابتسمت ابتسامة صفراء، وقلت لها: دكتورة أنا خريج كلية آداب قسم فلسفة، ولم يسبق لي أن قرأت عن هذا الاختصاص. فضحكت، ثم سألت: ألم تدرس في قسم الفلسفة عن التربية في جمهورية أفلاطون؟

     هنا شعرت أنها فتحت لي باباً لأهرب من سؤالها عن فلسفة التربية، وبدأت أسرد لها ما جاء في جمهورية أفلاطون، وكيف قسم المجتمع إلى طبقات، وكيف يجب أن يكون لكل طبقة تربية خاصة بها، وأنه لا يجوز تعليم طبقة الفلاسفة كما نعلم طبقة الصناع أو الزراع، ومن هذا الكلام الذي درسته في قسم الفلسفة، فقالت: ما ذكرته هو فلسفة التربية عند افلاطون، وبدأت تشرح لي بعض مداخل دراسة فلسفة التربية، وركزت على مدخل دراسة نصوص الفلاسفة، وكيف نحلل نصاً لـ روسو أو خطبة لـ غوتليب يوهان فيختة ونستخرج منهما فكراً تربوياً، ونصحتني بقراءة كتابها عن فلسفة التربية.

     بعد أيام حصلت على نسخة من الكتاب، وكعادتي أول ما أبدأ بمحاولة التعرف على كتاب أذهب إلى محتوياته، وهنا كانت المفاجئة، حيث كان الفصل الأول لا يتجاوز ثلاث صفحات عن مفهوم الفلسفة، ومفهوم التربية، والعلاقة بين الفلسفة والتربية، ثم تأتي بقية الفصول لتعرض نصوصاً فلسفية لمجموعة من الفلاسفة. يوجد على سبيل المثال نص لـ روسو من رسالته في الاقتصاد السياسي، ونص آخر من كتابه الاعترافات، ونصوص من هيغل وكانط وماركس، وفهمت فيما بعد أنها تجلس مع طلاب الدراسات العليا تقرأ معهم النص الفلسفي ثم تطلب منهم تحليل النص بغية الوصول إلى ما يمكن الاستفادة منه تربوياً، وهذه طريقة في تدريس فلسفة التربية لا اعتقد أن يقوى عليها أحد غير فاطمة الجيوشي.

     من فضائل الأستاذة الجيوشي التي لا أنساها، أنها طلبت مني أن أدخل معها إلى محاضرات الدراسات العليا، بقصد تدريبي وتعليمي القضايا التي تتناولها فلسفة التربية، كانت تستمع لمناقشات الطلبة، وتقرأ ردود أفعالهم، وترسم لهم ملامح الطريق، ثم تطلب مني التعقيب على ما جاء في المحاضرة، ثم تدير حواراً بين الطلبة يؤدي في النتيجة إلى ما تريد الوصول إليه، مستخدمة في ذلك الطريقة السقراطية في التعليم. لم تكن يوماً تميل إلى التفاصيل، ولا تحب الخرائط الصغيرة. كانت تلخص آرائها في أحكام نهائية قوية السبك وعميقة المدلول، تماما كما يفعل الفيلسوف مع طلابه. لم تقدم لطلبتها يوما عقلاً جاهزاً، وإنما كان همها الأول أن تثير لدى الطلبة فعّالية الروح النقدية.

     كانت الأستاذة الجيوشي نشيطة مفرطة في نشاطها، فقد ترجمت عشرات الكتب القيمة عن الفرنسية، والتي يأتي في مقدمتها كتاب “القول الفلسفي في الحداثة” وكتاب “مدينة الإنسان”، وكتاب “نهاية الحداثة”، وكتاب “العقل في القرن العشرين” وغيرها من الكتب التي شغلت مساحة مهمة في المكتبة العربية. ولكن المحزن في الأمر أن هذه الأستاذة المبدعة التي منحت جامعة دمشق عمرها كله، والذي تجاوز الآن خمسة وثمانين عاماً، لم يتعامل بعض أعضاء هيئة التدريس في الكلية معها التعامل اللائق، فقد أصروا على أن تغادر الكلية بعد وصولها سن السبعين قبل الثورة بسنوات عديدة، ورغم محاولتها تمديد عقدها إلا إن محاولتها باءت بالفشل، لتقرر بعدها الذهاب إلى الأردن والعيش هناك بجانب أهلها.

     أما عن هويتها الشخصية، فهي سورية من أصل فلسطيني، حصلت على شهادة الدكتوراه من معهد “جان بياجه” في سويسرا في الستينيات من القرن الماضي، وعاشت كل حياتها في سورية. كانت أستاذة في كلية التربية بجامعة دمشق، وأشرفت على العشرات من رسائل الماجستير والدكتوراه. كتبت كثيراً عن أستاذها “جان بياجه” الذي درست في معهده، ومما يؤسف أنه ظهرت بعض المقالات مؤخراً اقتبس أصحابها من كتابات الجيوشي الكثير عن بياجة وعلم النفس التكويني عنده دون الإشارة إليها.

     على أية حال تبقى الأستاذة الجيوشي محطة فكرية استثنائية يجهلها بعض الطلبة وأعضاء هيئة التدريس، ويعرفها بعضهم، وربما يعود الباحثين إلى قراءتها بعد فترة، ويختاروا من بين اجتهاداتها مساراً نافعاً يدفع بالعمل التربوي العربي خطوة إلى الامام. أرجو الله أن يمد بعمرها إن كانت على قيد الحياة، وأن يرحمها رحمة واسعة إن هي غادرتنا إلى الحياة الآخرة. 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. Thank you so very much for this article.. this is my aunt that raised me and my brothers. She sacrificed he r life for us. I so thankful for sharing this part of her life with us. My aunt is not feeling well but she is well taking care of.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى