مقالات

لا تنسوا الهدية

بشير بن حسن

مفكر إسلامي
عرض مقالات الكاتب

إنني ههنا أذكركم أيها القراء الكرام ، بسنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم ، ألا وهي سنة الهدية ، لتختموا بها شهركم هذا الذي أوشك على الإنصرام ، فذلك من محاسن الدين ، ومكارم الأخلاق ، و كمال المروءة ،
فهؤلاء الزوجات الكريمات ،اللاتي تعبن طيلة شهر رمضان لإسعادكم و إدخال السرور عليكم على مائدة الافطار ، و اللاتي لو لاهنّ بعد الله لأظلمت من دونهن البيوت ، و اختلّت شؤون الأُسر ، يستحقين هدية آخر رمضان ليلة العيد أو يومه ، يقول الله تبارك وتعالى ( هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ) .
كما أن الأبناء أيضا يستحقون الهدايا تشجيعا لهم على ما صاموا وقاموا في هذا الشهر الكريم ، و تحبيبا لهم في شعائر الإسلام ، وتعزيزا لانتمائهم له ،

وها هي نبذة يسيرة عن أحكام الهدية في الفقه الإسلامي

أولاً: التهادي بين الناس أمرٌ مرغوبٌ فيه شرعاً وعادةً، قال تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ. فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [سورة النمل الآيتان 36-35].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقبلُ الهدية ويُثيبُ عليها» (رواه البخاري).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أُهـديـت إلـيَّ ذراعٌ لقبـلتُ، ولو دُعيتُ إلى كُراعٍ لأَجبتُ» (رواه البخاري)،
والمقصود ذراع الشاة، والكراعُ ما دون الرُّكبة إلى الساق من نحو شاةٍ أو بقرة.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيصلى الله عليه وسلم قال: «تهادوا تحابوا» (رواه البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي في السنن، وهو حديث حسن .

قال الحافظ ابن عبد البر: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية وندب أمته إليها، وفيه الأسوة الحسنة به صلى الله عليه وسلم. ومن فضل الهدية مع اتباع السنة أنها تورث المودةً وتُذهب العداوة]فتح المالك9/358-359.

ثانيا :، ذكر محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة النعمان أن الهدية على أربعة أقسام باعتبار المُهدِي والمُهدَى إليه وهي:

(1)حلالٌ من الجانبين كالإهداء للتودد.

(2)وحرامٌ منهما كالإهداء ليُعينه على ظلم.

(3)وحرامٌ على الآخذ فقط، وهي أن يهديه ليكفَّ عنه الظلم.

(4)أن يدفعه لدفع الخوف من المهدي إليه على نفسه أو ماله أو عياله أو عرضه، فهذه حلالٌ للدافع حرامٌ على المدفوع إليه، فإن دفع الضرر عن المسلم واجبٌ، ولا يجوز أخذ المال ليفعل الواجب.
الموسوعةالفقهية الكويتية42/258.

ثالثا : من ضوابط الهدية في ذاتها أنها إن كانت حراماً كالخمر والخنزير والصلبان والشعارات الدينية لغير المسلمين ونحو ذلك، فلا يجوز شرعاً إهداؤها ولا قبولها. وإن كان يحرم استعمالها في حالٍ دون حالٍ كالحرير مثلاً، فيجوز قبولها والتصرف فيها بالبيع أو الإهداء ونحوهما.

رابعا : تحرم الهدية للموظف، فالأصل المقرر عند الفقهاء أن من تولى مسؤوليةً أو وظيفةً عامةً أو خاصةً، أنه يحرم عليه قبول هديةٍ أو مكافأةٍ أو إكراميةٍ جاءته بحكم مسؤوليته تلك أو وظيفته، إلا إذا أذنت له جهة العمل المشغلة له بقبولها !!

ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: «استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا مالكم وهذا أهدي إليَّ. فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول: هذا لك وهذا لي؟فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟والذي نفسي بيده لا يأتي بشيءٍ إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رُغاء أو بقرةً لها خُوار أو شاةً تيعر» (رواه البخاري ومسلم). والرُغاء: صوت البعير، والخُوار: صوت البقرة، واليُعار: صوت الشاة.
قال الحافظ بن حجر :

[بين له النبي صلى الله عليه وسلم أن الحقوق التي عمل لأجلها هي السبب في الإهداء له، وأنه لو أقام في منزله لم يهد له شيءٌ، فلا ينبغي له أن يستحلها بمجرد كونها وصلت إليه على طريق الهدية، فإن ذاك إنما يكون حيث يتمحض الحق له] فتح الباري12/349.
وقال الإمام النووي: [في هذا الحديث بيان أن هدايا العمال حرام، ولهذا ذكر في الحديث عقوبته وحمْله ما أُهدي إليه يوم القيامة، وقد بين صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث السبَبَ في تحريم الهدية عليه، وأنها بسبب الولاية، بخلاف الهدية لغير العامل، فإنها مستحبة، وحكم ما يقبضه العامل ونحوه باسم الهدية أنه يرده إلى مُهْديه، فإن تعذر: فإلى بيت المال] شرح النووي على مسلم6/462.
وقال الكمال ابن الهمام: [وتعليل النبي صلى الله عليه وسلم دليلٌ على تحريم الهدية التي سببها الولاية] فتح القدير7/272.

خامسا :
تحرم الهديةُ من المقترض للمقرض، لأن كل قرضٍ جرَّ نفعاً فهو ربا، وهذا وإن لم يكن حديثاً ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمعناه صحيحٌ، فالهدية التي يقدمها المقترض للمقرض قبل السداد، ولم تجر العادة في التهادي بينهما فيها شبهة بالربا، روى البخاري عن أبي بريدة قال: (أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي: ألا تجيء إلى البيت حتى أطعمك سويقاً وتمراً فذهبنا فأطعمنا سويقاً وتمراً، ثم قال: إنك بأرض الربا فيها فاشٍ -منتشر- فإذا كان لك على رجلٍ دينٌ فأهدى إليك حِمل تبنٍ أو حمل شعيرٍ أو حمل قَتٍ فلا تقبله فإن ذلك من الربا).

سادسا : تقبل هدايا الكفار ويجوز الإهداء لهم،

قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب قبول الهدية من المشركين. . . وأُهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاةٌ فيها سمٌّ. وقال أبو حميد: أهدى ملكُ أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بغلةً بيضاء، فكساه بُرداً].
ثم روى البخاري بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: «أُهدي للنبي صلى الله عليه وسلم جبةٌ من سندس…وقال سعيد عن قتادة عن أنس: إن أكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم». وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن يهوديةً أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاةٍ مسمومةٍ، فأكل منها فجيء بها، فقيل: ألا نقتلها؟ قال: لا» .

وقال الإمام البخاري: [باب الهدية للمشركين وقوله الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}
ذكر الحافظ ابن حجر أن المراد من سياق الآية التي ذكرها البخاري، بيان من يجوز برهُ منهم، وأن الهدية للمشرك إثباتاً ونفياً ليست على الإطلاق. . . ثم البرُ والصلةُ والإحسانُ لا يستلزم التحابب والتوادد المنهي عنه في قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فتح الباري.

ثامنا : يجوز قبول هدايا الكفار بمناسبة أعيادهم الدينية على الراجح من أقوال أهل العلم ما لم يكن في ذلك محظورٌ شرعي،
قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر بعض الآثار عن الصحابة تفيدُ قَبولهم لهدايا الكفار في أعيادهم: [فهذا كله يدل على أنه لا تأثير للعيد في المنع من قبول هديتهم، بل حكمها في العيد وغيره سواء، لأنه ليس في ذلك إعانة لهم على شعائر كفرهم، لكن قبول هدية الكفار من أهل الحرب وأهل الذمة مستقلةً بنفسها فيها خلاف وتفصيل ليس هذا موضعه، وإنما يجوز أن يُؤكل من طعام أهل الكتاب في عيدهم بابتياع أو هدية أو غير ذلك مما لم يذبحوه للعيد] اقتضاء الصراط المستقيم2/52.

•تاسعا : كما يجب العدل في الهدايا بين الأبناء؛ فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: إن أباه أتى به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني نحلتُ ابني هذا غلامًا كان لي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكلَّ ولدِك نحلتَه مثل هذا؟))، قال: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فأرجعه))؛ رواه البخاري، “كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها”، باب الهبة للولد، رقم: 2446.

• عاشرا : كما لا يجوزُ الرجوع في الهدية إلا للوالدين؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يَحِلُّ لأحد أن يُعطِيَ عطية فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده))؛ رواه الترمذي.

•الحادي عشر: كما يكره أن تكون الهدية من رديء المال، قال تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [البقرة: 267].

• الثاني عشر : كما يُستحب الإثابة على الهدية، والإثابة هي إكرام مَن أهدى لك، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ويثيب عليها”؛ رواه البخاري.

وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن أهدى لكم فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له)؛ رواه أحمد.

الثالث عشر : كما يكره في الأصل ردُّ الهدية؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم يَقبَلُ الهَدية إلا لسبب شرعي؛ كأن تكون من مال حرام، أو يُتقرَّبَ بها لقصد محرم؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 188]، ويُسنُّ قبول الهدية من الكافر – إن لم يكن فيها محظور شرعي – لدعوته إلى الإسلام؛ عن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن “أُكَيْدِرَ دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم”؛ رواه البخاري (فتح الباري 5 /287)، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب قَبول الهدية من المشركين، مسلم (شرح مسلم 19 /20) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل سعد بن معاذ رضي عنه .

فلا تنسوا والديكم وزوجاتكم و أبناءكم بالهدية في آخر رمضان وفي أيام العيد ، فذلك من مجوّدات خاتمة هذا الشهر المبارك .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى