مقالات

قصة حقيقية

محمد الفضلي

كاتب وأديب سوري
عرض مقالات الكاتب

حدث في زمن الثورة السورية العظيمة
المكان: دمشق 2013.
شاب مهترء الجسد واللباس
في دوار باب مصلى بدمشق… وقف كالعاجز عن فهم مايجري حوله، وتفرّس هذه الكائنات التي ظن للوهلة الأولى أنه لاينتمي لها.
سار قليلاً حتى دخل منطقة السويقة الملاصقة لباب مصلى
اشتم رائحة أيقظت في نفسه رحلة الأربعين عاماً التي قضاها في الحياة، وقف أمام المحل المطل على الشارع الذي يمشي فيه، كان الدخان المتصاعد من (مقلى الزيت) يثير حتى أطراف أنامله التي استيقظت فجأةً، و كان قد يأس من تحريكها لتكسرها كاملةً، استدارة (قرص الفلافل) وهو يسبح في الزيت المغلي، وتصاعد فقاعات الزيت حوله… كانت تسحر لبه، ولاتفارق عينيه.
وقف هناك يراقب المنظر التاريخي، وكأنه يشاهده للمرة الأولى.
أطال الإمعان، ولعابه بدأ يتدلى من على شفتين جافتين مشقوقتين.
الدمشقيون يتمتعون بفن سرقة الزبون من نفسه، ولذا يحافظون على طرق عرض البضاعة، والظهور بأفضل حلة.
أطل صاحب المحل من نافذة صغيرة، وشاهد صاحبنا، فظن بإدراكه الأولي.. أنه محتاج، أو (شحاذ)، فأومئ لعامله بأن يعطيه مبلغ (25) ليرة سورية، ويصرفه من أمام المحل.
خرج العامل، وقام بمد يده لصاحبنا، ولوّح له بال(25) ليرة.
صاحبنا نظر إلى المال، ثم نظر في عيني العامل، وهز برأسه رافضاً، والدموع تملأ عينيه
قال له: شكراً… أنا لست شحاذا.
يالعزة الرجال، ونفوسٍ تأبى الهوان
العامل البسيط كان في حالة صدمة من نظرة الرجل، التي تخبر كل شيء، الا أنه ليس شحاذاً، وكان صاحب المحل يراقب مايجري من بعيد، والذي خرج مسرعاً باتجاهه.
قبل أن يمضي في طريقه أمسك بيده صاحب المحل قال له:
ادخل للداخل لنتكلم..
دخل صاحبنا مع صاحب المحل
ماهي قصتك أنت؟! قال صاحب المحل والله ياحاج صار لي سنتين داخل المعتقل بفرع الأمن العسكري، ومن يومين أرسلوني لفرع الأمن الجنائي، ومنذ وقت قليل أخرجوني ومشيت.. ولا أعرف أين أنا؟ وما الذي حولي؟ قال صاحبنا
أحضروا له فطورا، وكأس شاي. أشار صاحب المحل للعامل ثم قال: أكمل أخي تابع صاحبنا حديثه: ياحاج، والله أنا محام، وابن عز من محافظة إدلب، اعتقلوني ببداية الثورة. أشار صاحب المحل بالتكلم بصوت منخفض “قصدك الأحداث” أي أكمل تابع صاحبنا: اعتقلوني ببداية الأحداث بالجسر، ولقد وجدتني مطمش، وأخذوني بالسيارة، ثم ضربوني بالعصي، وأسمعوني اهانات، وبهادل، وتعرضت للتعذيب بعدهت وضعوني بزنزانة منفردة، ولمدة 4أشهر، ومن يومين سلموني للأمن الجنائي، وبعدها أخرجوني، ورموني خارج الفرع. كانت الطاولة جاهزة بالفطور الدمشقي، الذي لن تحلم بأن تتذوق مثله يوماً تفضل أخي شاركنا الفطور..قال صاحب المحل
اغرورقت عيني صاحبنا بالدموع، ورفض بأدبٍ يدل على خلقٍ رفيع، ونفسٍ أبية:
شكراً عمي، والله لست بجوعان.
مئات الأيامين، والحلفان من صاحب المحل، ثم قام بمسك صاحبنا من يده، وقال له:
عيب عليك نحن أخوة.. إذا جئت أنا إدلب ألا تضيفنا؟!
ارتبك صاحبنا، ثم قبل الأمر الواقع
كانت الحياة التي عاشها سابقاً.. تكوّن الجانب الراقي من تربيته.
تفضل عمي لازم نحلف أكثر من هكذا؟!!. تناول صاحبنا الطعام برفقة صاحب المحل. كان الموجودون في المحل يتفرسون في وجه صاحبنا بنظرة عطف، وشفقة جعلته لاينظر إلا إلى قطعة الخبز الذي كان يقلبها في يده، ثم قطع الصمت الذي خيم للحظات فقال: عمي في عندك هاتف لاتصل بأهلي؟!! تكرم اخي ماهو الرقم؟. اخرج صاحب المحل الهاتف الجوال من جيبه.
09 09 والله ياحاج نسيته ولايهمك أخي طول بالك، وصل على النبي.
وقف صاحب المحل، وتكلم بهمسٍ مع عامله الذي خرج سريعاً، ثم جلس صاحب المحل مع صاحبنا، وقام بصب كأس من الشاي، وقال له:
اشرب شاي على كيف كيفك ..عمي أتعرف الذهاب لبلدتك؟
ماذا سيقول صاحبنا؟! هل يقول: أدري ولكن لاأملك غير هذا الجسد البالي، والقميص المهترء، والبنطال الممزق الذي أرتديه!!
لكنه قال:
إن شاء الله أستطيع.
قال صاحب المحل:
إن شاء الله يصير خيرا.
بعد حوالي ربع ساعة… دخل العامل، وبيده كيسين اثنين وضعهم إلى جوار صاحب المحل
قم عمي للداخل، وغير ملابسك، وتعال. مشاعر مختلطة …شعور الرافض للشفقة، وشعور الآسف على ماحل به، وحين هم بالحديث أوقفه صاحب المحل: اقسم بالله اذا تحكي كلمة لأزعل منك!! الناس لبعضها، الله لا يختبرنا، قم عمي الله يرضى عليك، وخلينا أحباب، وأصحاب قام صاحبنا مرغماً، والدموع لاتكاد تهدأ من عينيه المتورمتين قال له: شكرا يا.. وهم أن يتابع إلا أن صاحب المحل قاطعه: لاتحكي ولا كلمة… عيب يارجل! في إحدى زوايا المحل، شادر يطل على غرفة تحضير الطعام، بدل ثيابه حتى الداخلية منها، ولبس حذاءً للمرة الأولى منذ سنتين، ولكنه اضطر إلى حنيه(كسره من الخلف) ربما لكبر رجليه بعد رحلته الطويلة في أقبية أقذر نظام عرفته البشرية… لقد عاد إليه رشده الآن، ثم عاد إلى حيث صاحب المحل ماشاء الله عريس!! الله يحميك ياعمي، ويرد عنك أولاد الحرام.
تناول صاحب المحل من جيبه مبلغ ألف ليرة، وقام بوضعها في جيب صاحبنا، الذي قام بامساك يده، ومحاولة اخراجها من جيبه إلا أن صاحب المحل كان الغالب في ذلك..
انفجر صاحبنا بالبكاء، وصرخ:
والله أنا ابن عز، والله أنا ابن عز، أنا لست هكذا.
بدأت الدموع تتناثر من جميع المتواجدين
صاحب المحل ربت على كتفه، وقال له:
عمي يفرجها ربك.. الناس أخوة، والناس لبعضها يا أخي، والله مافيها شي، ومافي شي يستأهل.
عمي، والله أنا لست بحاجة. خلاص عمي عندما تصل لبلدك، وتعود مرةً أخرى إلى الشام… أرجعهم.
المشكلة ياعمي، والله لا أعرف الذهاب لكراجات الانطلاق، ولا كيف أصل؟!!. محلولة عمي.
ثم نادى صاحب المحل العامل:
يا صبحي اذهب مع الأستاذ، وأوصله الكراجات، ثم عد.
_توكل على الله عمي وادعي لنا …ابتسم صاحب المحل الذي تجاوز الستين من عمره.
ودع صاحبنا جميع من في المحل كأنه عاش طفولته بينهم، ومضى برفقة صبحي الذي كان لايقل شأناً عن معلمه، ولم يسمح لصاحبنا بأن يخرج من جيبه الألف ليرة.

التقيته في تركيا
كان يروي لي قصته، والدموع لا تزال ندية كما لو أنه يعيش القصة الآن
ثم التفت إلي قائلاً:
ياترى شو صار بالحاج؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى