مقالات

فقرات من تفسيري لسورة “الكهف”

أ.د. إبراهيم عوض

كاتب ومفكر مصري.
عرض مقالات الكاتب

وقد وضع العالم النفسانى الشهير كارل جوستاف يونج دراسة عن سورة “الكهف” عنوانها “Concerning Rebirth 3 A Typical Set of Symbols illustrating the Process of Transformation”، وتناول فيها، ضمن ما تناول، قصة فتية الكهف، فرأى أن السورة تعنى عناية كاملة بسر الميلاد الجديد. فالكهف هو موضع الميلاد الجديد، وهو الفجوة التى تنغلق على ما انطوت عليه حتى يفرخ ويبعث من جديد. وواضح أن كلامه من بدايته خطأ، فالفجوة ليست هى الكهف بل مجرد ركن فيه. والكهف لم ينغلق على أهل الكهف إلى أن بعثوا بل ظل مفتوحا طوال ذلك الوقت الطويل. كما يتحدث يونج عن الفجوة بوصفها المكان الذى يجرى فيه طقس الأضحية أو التحول، وهذا المكان فى الوسط من الكهف. وهذا مرة أخرى خطأ، فالقرآن لم يقل، كما جاء فى الترجمة الإنجليزية عنده، إن فتية الكهف كانوا فى وسط الكهف، وإنما قال: “وهُمْ فى فجوة منه”. والترجمة هى ترجمة ن ج داوود، ومن يرجع إلى هذه الترجمة يفاجأ بأن داوود لم يقل: “in the middle: فى وسط الكهف” كما جاء فى النص الإنجليزى لكلام يونج، وإنما قال: “therein: بداخله، أى بداخل الكهف”. وقد ذكر المحرر أن الاعتماد على ترجمة داوود مع بعض التصرف. فهل يحق العبث بالترجمة على هذا النحو رغم أن الترجمة أيضا غير دقيقة، إذ القرآن لم يقل: “وهُمْ بداخله”، بل قال: “وهم فى فجوة منه”، تلك الفجوة التى طابق يونج بينها وبين الكهف وجعل الكهف مغلقا عليهم؟ وهو ما يدل على أن النتائج التى خرج بها يونج من تحليله للسورة تقوم على أخطاء وتحريفات وأوهام. وعلى كل حال فكلام يونج عن طقس الأضحية والتحول لا صلة بينه وبين الكهف أو الفجوة، إذ لم يكن هناك أضحية أو تحول البتة. وقد وصف يونج المدة التى نامها الفتية المؤمنون بالكهف بأنها امتداد للحياة يتاخم حدود الأبدية ويشارف الخلود. وهذه مبالغة عجيبة مضحكة، إذ ماذا تعنى 309 سنة بالنسبة إلى الأبدية؟ لا شىء، لا شىء على الإطلاق، وإلا فماذا نقول عن المدة التى قضاها نوح حيا لا نائما ولا ميتا، وقد أنفق فى دعوة قومه إلى دينه950 عاما؟ أنقول إنه قد تخطى الأبدية؟ ثم ماذا نحن قائلون فى عمر التاريخ البشرى إذن طبقا لهذا المنطق؟ كذلك يفسر يونج الكهف بأنه كهف اللاشعور عند الإنسان. وأين هذا من ذاك؟ وما الدليل على أن هذا هو المقصود. الواقع أنها مجرد أفكار مسبقة دخل بها يونج بحثه وصار يؤول كل شىء إلى تلك الناحية كى تصح له نظريته فى اللاشعور الجمعى. وهيهات!
ويقول يونج إن عدد الفتية المقدس، وهو العدد سبعة الذى هو عدد الآلهة الكواكب لدى القدماء، يشير إلى أن أهل الكهف سبعة آلهة تحولوا خلال النوم فنعموا بشباب دائم. لكن القرآن لم يحسم الأمر بالنسبة لعددهم بل تركه مفتوحا حيث أورد الآراء المختلفة حول هذا العدد ما بين ثلاثة وخمسة وسبعة، مفوضا العدد الحقيقى إلى علم الله. كذلك فلا آلهة هنا ولا يحزنون. لقد كانوا هاربين من قومهم. فهل الآلهة تخاف البشر أو تفر منهم؟ وهل الآلهة تعبد آلهة مثلها؟ فالمعروف أنهم كانوا فارين بحياتهم وإيمانهم بالله الواحد الأحد من قومهم الوثنيين. كما أنهم لم يتحولوا أثناء النوم أو ينعموا بشباب دائم كما قال يونج، إذ كانوا نائمين لا ينعمون ولا يحسون بأى شىء على أى نحو. ولما استيقظوا لم يبقوا على قيد الحياة إلا ريثما تعرف عليهم أهل المدينة واستخلصوا من حكايتهم أن البعث بعد الموت حقيقة، ثم ما لبثوا أن ماتوا. فأين التنعم هنا؟ ثم أين التحول الذى لحقهم؟ الحق أنهم لم يتحولوا إلى أى شىء آخر غير ما كانوه حين دخلوا الكهف، بل بقوا على ما هم عليه. كما أنهم، فى القصة القرآنية، تصوروا بعد قيامهم من نومهم أنهم لم يقضوا فى ذلك النوم إلا يوما أو بعض نوم. فيا لهم من آلهة جاهلة! ثم عقب يونج على الآيات التى تلت قصة الفتية المؤمنين بأنها مجرد ملاحظات أخلاقية لا صلة لها بالقصة. وهذا خطأ آخر، إذ إن عتاب الله سبحانه لرسوله على وعده لمشركى مكة بأنه سوف يأتيهم غدا بالجواب على ما سألوا هو كلام يتصل بكل قوة بقصة أصحاب الكهف. إن يونج يبحث بل ينكش بإبرة عن أى شىء يمكنه أن يلويه إلى الاتجاه الذى يحب والذى اقتحم سورة “الكهف” خصيصا للتدليل عليه، ثم فليذهب كل شىء آخر إلى الجحيم.
كذلك يربط يونج فى دراسته ربطا عشوائيا، حسبما يحلو له لإثبات ما يردده عن نموذج الميلاد الجديد، بين قصة فتية الكهف والتضحيات الوثنية فى الديانات القديمة وعملية الصَّلْب وكيمياء تحويل المعادن ومفستوفيليس والكلب القلطى الأسود الذى تجسد منه والشيطان وبعض نظريات علم النفس التى ليس عليها أى دليل منطقى. وقد مضى يونج فى تفسير وقائع وشخصيات قصة موسى وفتاه، وكذلك قصة ذى القرنين، على هذا النحو المرهق للذهن والأعصاب رابطا بين القصص الثلاث وكأنها شىء واحد مع أن اليهود هم الذين كلفوا من مشركى مكة أن يسألوا محمدا عن هذه الموضوعات الثلاثة ليس إلا. فالصلة بين هذه القصص الثلاث إذن صلة عشوائية سببها أن اليهود فى يثرب أرادوا أن يحرجوا محمدا أمام مواطنيه وأن يظهروه بمظهر الجهل حتى يكف عن قوله بأنه نبى. أقول هذا وأنا بطبيعتى صبور وذو جلد على البحث العلمى لا أكل ولا أمل، لكنى لا أحب أن أخدع نفسى أو أخدر عقلى حتى أتقبل ما يهضب به بعض الكتاب والمفكرين من كلام يتأبى على الإقناع، اللهم إلا عند المغرمين بغرائب التصورات وشواذ الأفكار والنظريات.
والآن مع السطور الأولى من بحث يونج الذى نحن بصدده الآن:
” I have chosen as an example a figure which plays a great role in Islamic mysticism, namely Khidr, “the Verdant One.” He appears in the Eighteenth Sura of the Koran, entitled “The Cave.” This entire Sura is taken up with a rebirth mystery. The cave is the place of rebirth, that secret cavity in which one is shut up in order to be incubated and renewed. The Koran says of it: “You might have seen the rising sun decline to the right of their cavern, and as it set, go past them on the left, while they [the Seven Sleepers] stayed in the middle.” The “middle” is the centre where the jewel reposes, where the incubation or the sacrificial rite or the transformation takes place. The most beautiful development of this symbolism is to be found on Mithraic altarpieces and in alchemical pictures of the transformative substance, which is always shown between sun and moon. Representations of the crucifixion frequently follow the same type, and a similar symbolical arrangement is also found in the transformation or healing ceremonies of the Navahos. Just such a place of the centre or of transformation is the cave in which those seven had gone to sleep, little thinking that they would experience there a prolongation of life verging on immortality. When they awoke, they had slept 309 years”.
وقد سبق أن تناولت، فى الفصل الخاص بالنقد النفسى من كتابى: “مناهج النقد العربى الحديث”، اللاشعور الجمعى، الذى ينطلق منه يونج، ووضحت ما فيه من اعتساف وجرى مع الأوهام دون دليل. وتذكرنى الطريقة التى يجرى عليها فى تفسيره لتصرفات البشر بأسلوب القاديانيين فى تفسير القرآن من حيث إن كلا من الطرفين لا يسير على منهج واضح مطرد بل يلوى النص حتى يكاد أن يعصر رقبته ناحية ما يريد أن يقوله، بحيث لو خلع الله على النص، ولو للحظة، القدرة على النطق والتعبير عما يحس به لأطلق صرخة الموت ثم فاضت روحه إلى بارئها. وأنا أعرف أن كثيرا من مثقفينا وكتابنا سوف ترم أنوفهم لأننا نخالف يونج بل ونسخر منه، فهم يخرون على كل ما يكتب يونج وأمثاله عابدين متبتلين رغم تعسف ما يقول ومناقضته للمنطق والعقل. بيد أننا نكتب ما يمليه علينا ضميرنا العلمى ولا نبالى بشىء بعد ذلك، وبخاصة أن الله سبحانه قد أبرأ نفوسنا من الإحساس المرضى بالنقص تجاه الغربيين. فنحن نأخذ منهم ما نراه مفيدا، وما أكثره، وننبذ عنا ما نجده سخيفا تافها لا يصمد للدراسة العلمية.
ثم ما هذا اللاشعور الجمعى الذى يقول به يونج والذى يعرّفه بأنه ما ترسب فى النفس البشرية خلال آلاف الأعوام من “الأساطير والترهات” كنموذج الخطيئة والتكفير وتشهِّى الموت والعودة إلى الرحم والولادة الجديدة؟ إننا نحن المسلمين لا نشعر بصدى أى شىء من هذا فى نفوسنا على أى نحو من الأنحاء. كذلك فهذه الأفكار لا تورث بيولوجيا كما يقول يونج بل يتشربها الإنسان من خلال الثقافة التى يتلقاها ويقتنع بها. ويشير كلام يونج إلى أن ذلك اللاشعور الجمعى شىء يقع فى الأصل خارج النفس البشرية ثم ينتقل إليها بالوراثة، فأين مكان هذا اللاشعور يا ترى؟ وكيف يتم انتقاله إلى نفس كل إنسان بيولوجيا؟ وهل يمكن أن يرث كل إنسان خبرات تقع لجميع الناس فى كل العصور والأمكنة؟ ولماذا يقتصر ذلك على الأساطير والترهات وما أشبه، ولا يشمل الخبرات العلمية والعملية؟ ثم أين الدليل على هذا كله؟ إن يونج يستدل على وجود هذا النوع من اللاشعور بأن روائع الأدب والفن تتسم بسمة الخلود، فهل هذا دليلٌ كافٍ؟ بل هل يصح أن يكون دليلا أصلا؟ وماذا عن الأعمال الأدبية غير الخالدة؟ بل هل هناك أعمال فنية وأدبية يُجْمِع على روعتها والانبهار بها كل البشر؟ كذلك من الاعتساف الشديد رَدّ كل عمل أدبى أو فنى إلى هذه الرواسب الأسطورية والترهيّة المزعومة، إذ الغالبية الساحقة من هذه الأعمال لا علاقة لها ظاهرا أو باطنا بتلك الأساطير والترهات. ومن الغريب أيضا أن يقال إن هذه الرواسب هى وحدها التى تلتقى عندها البشرية جميعا. أليس فى العلوم والرغبة فى السيطرة على الطبيعة والطموح إلى القضاء على الفقر والتطلع نحو السعادة ما يربط بين أفراد البشر؟ أمن المعقول أن البشر، رغم كل هذا التقدم الذى أحرزوه، لا يرتبطون فيما بينهم إلا من خلال الأساطير والترهات الضاربة فى أعماق الأحقاب؟
وفضلا عن ذلك فأغلبية الجماهير لا تلقى بالا للروائع الأدبية والفنية، فلو كانت المسألة مسألة لاشعور جمعى لكانت هذه الجماهير هى أول من تفتنه هذه الروائع ولكان تحمسها لها أشد من تحمس غيرها لأنها أقرب من المثقفين والنقاد إلى الفطرة التى تقترب من هذا اللاشعور المفترض. لكن، على العكس، نجد أن الذى يشترك فيه الناس جميعا كرغبة الجنس والطعام والشراب والتطلع إلى القوة والسلطان وما إلى ذلك ليس من الإبداع الفنى والأدبى فى قليل أو كثير، وإن صلحت كل رغبة من هذه الرغبات أن تكون موضوعا لعمل أدبى أو فنى. وأما اللاشعور الجمعى فقد أخفق يونج فى تحديد مكانه حسبما وضحت فى كتابى المذكور آنفا. كذلك فالنماذج المضحكة التى يلح عليها يونج، وكأنها وحى إلهى،كنموذج العودة إلى الرحم ونموذج الميلاد الجديد هى أشياء تشبه الهلاوس لا منطق فيها ولا تعقل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى